...━━━━━━━━━━...
...الفصل الرابع - تحت ظل المقصلة...
...الجزء ١...
...مع تباشير ضوءٍ شاحب يتسلّل عبر نوافذ القصر العالية، بدا وكأن الشمس نفسها تخرج متردّدة، خائفة من رؤية ما سيقع تحت نورها. هدرت أبواق الحرس في الصباح الباكر كصرخةٍ تعلن بدء قضاءٍ لا مهرب منه، وارتجفت أسوار العاصمة تحت وطأة الهيبة الإمبراطورية التي لا ترحم....
...في بهو العرش، وقف الإمبراطور فاليريوس شامخًا، يرتدي عباءته القرمزية المطرّزة بخيوط الذهب، كأنها نُسجت من دماء أعدائه المنسكبة عبر السنين. عيناه الثاقبتان لم تتزحزحا عن الوثائق الموضوعة أمامه، لكن كل كلمة من تلك الأوراق كانت تحمل قراراتٍ تُسقط رؤوسًا، وتكسر آمالًا، وتغير قدر مدينة بأكملها....
...لم تكن هذه أوراق إدارة دولة... بل مراسيم إعدام....
...عندما تقدّم القائد "ماركوس" بخطوات متأهّبة، انحنى أمام الإمبراطور، قائلاً بصوتٍ خفيض يليق بهيبة المكان:...
...> "مولاي، الساحة تتهيّأ لتنفيذ الأحكام، والشعب قد احتشد في صمت ينتظر أمركم السامي."...
...رفع فاليريوس نظره ببطء، كمن يقطع على نفسه خيطًا من التأمل الصارم. في عينيه بريق هادئ، لكنّه حاد كحد السيف....
..." وهل جهزتم تلك الفتاة؟"...
...لم يتردّد ماركوس:...
...> "في زنزانتها، بالأغلال كما أمرتم. لكنها... لم تنطق بشيء طوال الليل، مولاي."...
...أغمض الإمبراطور عينيه لحظة قصيرة... كأن الصمت يتيح له تقييم تلك المقاومة الصامتة من فتاة أرادت قتله. ثم قال بنبرة لا تحمل أي اضطراب:...
...> "إصرار أعمى... ولكنّ العمى لا يصمد أمام الضوء حين يسطع."...
...دوّن توقيعه على آخر الوثائق، ثم وقف من عرشه، فتراجع ماركوس خطوة كاملة - فليس هناك من يجرؤ أن يقف قريبًا جدًا من سلطان يملك حياة الجميع بين أنامله....
...أمر فاليريوس:...
...> "اقودوني إليها. فالعدالة تبصر قبل أن تنطق."...
...━━━━━━━━━━...
...في دهاليز السجن العميقة، حيث الرطوبة تعبث بالجدران العتيقة، وحيث الصمت يقتات على أنفاس السجناء، كانت آستر تجلس مُقيّدة الرسغين بسلاسل خشنة حَفرت جلدها. كان الضوء الخافت المتسلل من شقوق السقف بالكاد يكشف ملامحها، لكنّ عينيها - رغم الإنهاك - ظلّتا مشتعليْن، كجمر لم يُطفأ بعد....
...سمعت وقع أقدام كثيرة تقترب. كل خطوة كانت بمثابة طعنة توقظ خوفًا دفينًا في صدرها. عندما فُتح باب زنزانتها، اندفع النور إلى الداخل بشكل مفاجئ، كشعلة تكشف المستور....
...دخل الإمبراطور بنفسه....
...تجمّدت أنفاس من كانوا معها - حتى الحرس أنفسهم تذكّروا خشية الحياة من الموت المُتجسّد أمامهم....
...اقترب فاليريوس، ونظره الحاد يطوّق ملامحها النافرة، يبحث في صمتها عن لغز لم تُفصح عنه بعد....
...> "أخبريني... لما أردتِ قتلي؟"...
...كان صوتُه ثابتًا، لا غضب فيه... بل فضول بارد، يشبه جليدًا يراقب احتراقًا صغيرًا....
...آستر، وقد تعثّر حلقها بين الخوف والغضب، رفعت رأسها على مهل، تكابر كي لا يظهر الارتعاش في صوتها:...
...> "لا يليق بمن يسفك الدماء... أن يسأل ضحاياه عن السبب."...
...حدث الصمت......
...صمت شديد...
...كأن الهواء نفسه تراجع خائفًا بعد كلماتها....
...تقدّم الإمبراطور خطوة أخرى، حتى صارت المسافة بينهما ضيقة حدّ أن أنفاسهما تكاد تتلامس....
...> "إن كنتِ تعتبرين نفسك ضحية... فأنت لا تعرفين الضحايا الحقيقيين بعد."...
...ثم استدار عنها دون أن يمنحها فرصة الرد، وقال للقائد ماركوس:...
...> "احملوها إلى الساحة. أريد لشعب كامل أن يرى نهاية العناد الأعمى."...
...━━━━━━━━━━...
...خرجت آستر مكبّلة اليدين والساقين، يُساق جسدها وسط جلبة حديدية تصدرها السلاسل الثقيلة. كانت خطواتها متردّدة، لكن رأسها ظلّ مرفوعًا رغم العذاب الداخلي الذي يتربّص بقلبها....
...عندما ظهرت إلى العلن......
...استقبلها الزحام بالصمت....
...ساحة الإعدام - التي يطلق عليها الناس همسًا "ساحة الحكم الإلهي" - امتلأت بوجوه غارقة في الصدمة والخوف. رجالٌ يخفون وجوههم خزيًا من خيانة أُسرهم، ونساءٌ يحتضنّ أطفالًا يبكون دون أن يدركوا لمَ تُسلب أرواح آبائهم. أصوات النحيب الخافتة كانت تتشابك مع صوت الريح التي تدور حول منصة الإعدام كأنها تهوّل من قدرها....
...في صدر الساحة، ارتفعت المقصلة - خشب أسود كُتب عليه تاريخ طويل من النهاية المحسومة. حولها جنود الإمبراطورية يقفون كجدار لا يقبل الاختراق....
...سلّم الحرس آستر إلى منصة جانبية، لتقف مكشوفة أمام مرأى البشر كلهم. قيودها تشدّ معصميها بقسوة، وركبتاها ترتجفان بلا إرادة....
...ومع ذلك......
...عينان لا تزالان مشتعليْن....
...━━━━━━━━━━...
...وبين همسات المحتشدين، ارتفع صوت الجند من جديد، معلنًا قدوم الإمبراطور....
...عندما ظهر فاليريوس، عَلت الرهبة....
...ركع كثيرون أرضًا....
...وتراجع الهواء نفسه ليفسح المجال له....
...وقف أمام الشعب، ورفع يده في إيماءة هادئة، فتوقفت كل الأصوات دفعة واحدة....
...> "أيها الشعب..."...
...كان صوته عميقًا، كأنه قادم من صدى الملوك الذين سبقوه جميعًا....
...> "الخيانة ليست مجرد فعلٍ يُرتكب... بل فكرٌ سامّ يهدد كيان الأمة ذاتها. ومن يتجرأ على الدم الملكي... إنما يتجرأ على حياتكم وعلى أمن أطفالكم."...
...كانت جملة مدروسة......
...تعيد تشكيل معنى الجريمة في عيون الجماهير....
...> "وهذه الفتاة..."...
...أشار نحو آستر - التي صارت الآن محور كل الأنظار:...
...> "لم تنطق بخطاياها... لكنها لن تنجو من حكم العدل."...
...انطلقت شهقة خافتة من بين الجموع... البعض من التعاطف... البعض من الخوف من حتى التعاطف....
...آستر شدّت قبضتيها:...
...> "أي عدلٍ هذا... إن كان القاتل هو من يُصدر الحكم؟!"...
...ارتفعت همهمةٌ بين الناس - جرأة لا معقولة أمام عرشٍ لا يُعصى....
...لكن الإمبراطور لم يغضب....
...بل ارتسم على شفتيه أثر ابتسامة باردة:...
...> "سأمنحك فرصة أخيرة... اعترافي سيكسر عنادك."...
...نظر إليها مباشرة:...
...> "لماذا أردتِ قتلي؟ ومن دفعك؟"...
...ظنّ أن الرعب سيجعلها تتراجع...
...لكنّ ما اشتعل داخلها لم يكن خوفًا فقط...
...بل كانت ذكرى......
...ذكرى نار، وصراخ، وبيت ينهار على الأبرياء....
...اختنقت الكلمات في حلقها...
...ثم قالت بحدّة مكبوتة:...
...> "جنودك قتلوا عائلتي."...
...صوتها اهتزّ... لكنه لم يُكسر....
...> "قتلوا الحياة التي كانت لي. تركوني بلا شيء... بلا أم... بلا أخ... بلا ماضٍ سوى الحطام."...
...ساد صمت آخر...
...لكن هذه المرة - ثقيلًا كالجمر....
...نظر الإمبراطور إلى ماركوس باستغرابٍ خافت......
...تاريخ طويل في قوائم الإعدامات... لكنه لم يتذكّر هذه الجريمة تحديدًا....
...قال ببرودٍ قاتل:...
...> "إنها كلمات مفبركة تخدم الكراهية. هل تظنين أن دمعة واحدة ستُغيّر الحكم؟"...
...انخفض جفن آستر لحظة......
...لكن عندما رفعته مجددًا كانت النار تعود إليه:...
...> "ربما لا......
...لكن دمك - يومًا ما - سيتذكّرنا."...
...هنا - برقت عينا فاليريوس قليلاً...
...مزيج من الغضب... وربما شيء آخر...
...شيء لم يفهمه بعد: لماذا تجرؤ؟...
...ثم قال:...
...> "إذن... ليشهد العالم أجمع كيف يُحطَّم العناد."...
...━━━━━━━...
...وقف الإمبراطور في منتصف الساحة، وكل العيون تلتهم ملامحه كأنه قدرٌ مكتوب لا يمكن الفرار منه. الشمس أخيرًا ارتفعت كاملة، لكنها لم تُعطِ دفئًا لأحد... كانت شاهدة فقط، مراقبة، تقف في علوّها بلا رحمة....
...أحد الجنود تقدّم وهو يحمل لفافة خشبية مختومة بخاتم الإمبراطورية. فتحها، وبدأ يتلو أسماء من حُكم عليهم بالموت. كل اسم كان يسقط كحجرٍ في بئرٍ من الحزن، ورؤوس العائلات تزداد انحناءً، والكتمان يكسو من تبقّى من الأبرياء الذين لا يدركون ذنب الدم الذي حمله آباؤهم....
...صرخ طفلٌ صغير باكيًا وهو يتمسّك بثوب أمه:...
...> "أبي لم يفعل شيئًا! أبي ليس خائنًا!"...
...لكن صوت الطفل اختنق وسط الجموع...
...بينما الإمبراطور لم يرمِه ولو بنظرة...
...رغم أنّ الصوت اخترق لحظة من صلابته...
...وجعل قلبه - للحظة خاطفة فقط - يرتجف...
...لكن الاحتراف الملكي لا يسمح للقلب أن يظهر وجوده...
...ليس الآن...
...ليس أمام عيون الآلاف...
...آستر رأت الطفل...
...وشيء ما انكسر داخلها...
...تذكّرت يد أمّها وهي تسحبها من بين ألسنة اللهب...
...تذكّرت صوت أبيها وهو يقاتل الجنود بعيدًا عنها...
...حتى خمد صوته إلى الأبد...
...ضغطت أسنانها على بعضها...
...فصرير الغضب الداخلي كان كافيًا ليصنع سيفًا لو وُجدت له يدٌ حرة...
...اقترب الإمبراطور خطوة نحوها...
...خطواته على أرض الساحة كانت كدويّ طبلٍ يعلن الحرب...
...كل خطوة تحمل معنى الهيمنة المطلقة...
...> "أنتِ شاهدة اليوم على نهاية من كان يعتقد أن الظل يكفيه ليحمي عصيانه."...
...ترددت أنفاس آستر...
...وكأن الهواء صار عدوًا آخر...
...لكنها لم تخفض نظرها...
...لم تمنحه لحظة انتصار...
...> "لا ظلّ أمام نار الحقيقة."...
...قالتها بنبرة خافتة......
...إلا أنّها وصلت أذنه بوضوح مميت...
...توقّف لحظة...
...لم يتوقع منها جوابًا يواجه هيبته...
...بل يصرّ عليها أكثر ويهدّد حكمه أمام الشعب...
...لكنه... بدلاً من أن يفتك بها كلامًا...
...ابتسم ابتسامة صغيرة جدًا...
...ابتسامة لا يعرف العالم هل هي إعجاب... أم إعدام مُؤجَّل...
...أشار بيده للحرس:...
...> "أبدأوا!."...
...━━━━━━━━━━...
...ارتفعت المقصلة...
...وصوت احتكاك الخشب بآليتها كان أشبه بصراخ خشن يمتد داخل الصدور ويكسر ما تبقى من أمل....
...اقتاد الجنود أول رجل من الخونة - مكبلًا، متعبًا، خائفًا... لكن قبل أن يصل إلى مكانه، سقط على ركبتيه وأجهش بالبكاء....
...> "مولاي! ارحم أطفالي! لم أكن خائنًا! لقد أُجبرت! أرجوك!"...
...هزّت صرخاته الهواء...
...وتفجّر نحيب زوجته من بين الحشود...
...في حين أخفى اثنان من أبنائه وجوههم في ملابس أمهم من الخزي...
...فالحياة لم تعلّمهم بعد أن العار يخلقه الظالم وليس الضعيف...
...لكن الإمبراطور، لم تطرأ عليه أي شفقة...
...صوتُه جاء كالصخر:...
...> "الضعف لا يمحو الجريمة."...
...ثم أومأ بإصبعه...
...فانطلقت الآلة لتعلن نهاية روح...
...وانسكبت الدماء كعباءة حمراء على منصة الحكم...
...صرخة واحدة...
...ثم صمت...
...ثم بكاء مكتوم يهزّ قلب الأرض ولا يلوّث سماء السلطة...
...آستر شهقت رغمًا عنها...
...لم تكن قد رأت موتًا بهذا القرب وهذه البطء...
...ولكنها تماسكت...
...رغم توتر قدميها...
...رغم أن قلبها ارتطم بقفصها الصدري بعنف...
...اقترب الإمبراطور منها قليلًا...
...حتى شعرت بأن ظلّه صار يغطيها بالكامل...
...> "هل بدأ الخوف يتسلّل إلى قلبك؟"...
...واجهته بصوت مبحوح...
...لكنه ثابت:...
...> "إن كنت تظن أن الرعب سيكسرني... فقد علمتني الحياة ما هو أبشع منك."...
...عينا فاليريوس ضاقتا...
...كأنهما تحاولان تحليل ما أمامهما:...
...هذه ليست مجرد فتاة قاتلة...
...بل جمرٌ تحاول السلطة إطفاءه...
...فيشتعل أكثر...
...> "سنرى."...
...━━━━━━━━━━...
...تتابعت الإعدامات...
...رجلٌ يموت، وآخر يليه...
...امرأة تسقط وهي تصرخ باسم أمها...
...وطفلة تبكي حتى انقطع صوتها...
...وشاب يُقاد وهو يضحك بجنون محاولةً أخيرة ليوهم نفسه أنّ النهاية لعبة...
...كل رأسٍ يسقط...
...كان يكتب سطرًا جديدًا في كتاب الكراهية الكبرى...
...الذي سيقرأه التاريخ يومًا ما...
...آستر شهِدت كل هذا...
...والدموع علقت في عينيها دون أن تسقط...
...كان الألم قويًا...
...لكنّ أقوى منه كان الحقد...
...الذي تفتّح داخله كالسمّ...
...وفي لحظة ما، نظرت حولها...
...ورأت وجوهًا في الساحة تراقب بصمتٍ يشبه القبور...
...شعب يحب إمبراطوره...
...ولكنه يخافه أكثر...
...ومن بين ذلك البحر الكبير من الرؤوس...
...لمحت امرأة تغطي وجهها بعباءتها كي لا تُرى...
...ربما كانت أمًا لأحد من هؤلاء الذين يسقطون...
...أم خجلة من دم خرج من رحمها وصار "خائنًا" في نظر هذا العرش...
...والخزي لا يرحم...
...كما لا ترحم السلطة...
...━━━━━━━━━━...
...أخيرًا......
...لم يبقَ في الساحة سوى آستر...
...والقضية أصبحت واضحة...
...الجميع ينتظر تلك اللحظة...
...رفع الإمبراطور صوته، مخاطبًا الناس:...
...> "هذه آخر من حاولت أن تُخضِع الإمبراطورية....
...هذه من راهنت على الظلام... فخسرته."...
...صوت الجماهير انقسم بين تأييد حذر... وصمت مريب...
...ثم نظر إليها، نظرة حادة، متفاحصة:...
...> "أنتِ نجوتِ من الموت مرة......
...وفي الثانية... لا أظن أن للقدر رأيًا جديدًا."...
...آستر ابتسمت......
...ابتسامة من يعرف أنّ الموت ليس النهاية التي يخشاها...
...> "إن قتلتني اليوم... سيبقى اسمي شوكًا في حلقك."...
...اقترب الإمبراطور خطوة إضافية...
...حتى صار قريبًا جدًا...
...كأنّه يريد قراءة روحها لا وجهها...
...> "بل سأجعلك تعيشين......
...حتى تتمنّي الموت ألف مرة."...
...ارتجفت آستر...
...رعبٌ جديد...
...لم يحسب له قلبها حسابًا...
...هذا الرجل...
...لا يريد قتلها...
...بل يريد كسرها...
...وهذا...
...أشدّ عذابًا...
...━━━━━━━━━━...
...النهاية ...
Comments
bh_1950
أجمل من يحب❗️❗️
2025-10-29
0
Anonymous
حبيتتتت🔥🔥🔥🔥
2025-10-29
0