الشمس لم تكن قد ارتفعت كثيرًا في سماء موسكو، لكنها أرسلت خيوطًا خجولة عبر النوافذ الكبيرة لشقة آناستاسيا. الضوء انسكب على أرضية الغرفة الباردة، انعكس على الزجاج والستائر، وأيقظ تفاصيل المكان. لم يكن الصباح بالنسبة لها بداية جديدة بقدر ما كان استمرارًا لصراع الأمس.
فتحت آنا عينيها ببطء. الليل الطويل الذي قضته في الرقص ما زال حيًا في جسدها. العضلات تؤلمها قليلًا، لكنها أحبت هذا الألم؛ كان تذكيرًا بأنها ما زالت على قيد الحياة، بأنها ما زالت تقاتل لتكون هي نفسها.
البيت كان صامتًا بشكل مخيف. الصمت لم يكن هدوءًا بل كان هيمنة أبوها على كل زاوية في الشقة. لم يكن موجودًا في الغرفة، لكنه موجود في كل شيء: في الممرات الواسعة، في اللوحات على الجدران، في الطاولة الكبيرة التي لم تلمسها يدها أبدًا.
دخلت الخادمة بهدوء، وضعت الفطور على الطاولة: خبز أسود، زبدة، وشاي.
"صباح الخير آنسة آناستاسيا"، قالت الخادمة بخوف خفيف.
آنا اكتفت بهزة رأس. لم تكن من النوع الذي يتكلم كثيرًا مع العاملين في المنزل، ليس لأنها متكبرة، بل لأنها تعلم أن الكلمات هنا مراقبة دائمًا.
بعد دقائق، دخل فيكتور سيروف – والدها. رجل طويل، شعره مائل للبياض، عيناه رماديتان لا تعكسان أي دفء. بدلته السوداء كانت دائمًا مرتبة بشكل مبالغ فيه، ورائحته كانت خليطًا من التبغ والعطر الفاخر. جلس على الطاولة المقابلة لها، صوته كان باردًا كصوت رياح شتوية:
"تأخرتِ في النوم كعادتك. راقبتك البارحة، ترقصين حتى ساعات متأخرة."
آنا لم ترد فورًا. نظرت إلى كوب الشاي أمامها، ثم قالت بصوت خافت:
"كنت أتدرب."
"تتدربين؟ أم تهربين من المسؤوليات؟ الباليه لا يكفي. العالم لن يرحمكِ فقط لأنكِ جميلة وتعرفين كيف تتحركين."
كلماته دخلت قلبها كسكين. لكنها لم تُظهر شيئًا. تعلمت منذ طفولتها أن أي ضعف يراه سيستغله أكثر. كانت ترد بابتسامة باهتة أو بصمت طويل، كما لو أنها جدار لا يمكن كسره.
أنهى إفطاره بسرعة، ثم وقف، نظر إليها نظرة طويلة وقال:
"تذكري… كل ما لديكِ هو بفضلي. لا تنسي ذلك." ثم خرج.
بقيت آنا وحدها، الغرفة الواسعة تشعرها بالفراغ أكثر من الامتلاء. تناولت قطعة صغيرة من الخبز، لكنها لم تكن جائعة. روحها كانت أثقل من أن تهضم شيئًا.
---
في الظهيرة، جاءت فالورينا لزيارتها. فتحت الباب بابتسامة مشرقة رغم البرد الذي غطى وجنتيها باللون الوردي. كانت عكس آنا تمامًا: ضحكاتها عالية، خطواتها خفيفة، وملابسها دائمًا تحمل شيئًا من البهجة.
"آنا! لم أنم جيدًا البارحة، كنت أفكر في عرض الباليه القادم. قولي لي، هل ستشاركين؟"
آنا جلست على الأريكة الكبيرة، ضمت قدميها إلى صدرها، ونظرت إلى صديقتها بابتسامة خفيفة.
"ربما… لم أقرر بعد."
"ماذا تعنين لم تقرري بعد؟! هذه فرصتك. العرض سيحضره أهم النقاد، وربما حتى بعض الشخصيات السياسية. لا يمكنكِ تفويته!"
لكن آنا ظلت صامتة. لم يكن خوفها من المسرح أو من الناس، بل من والدها. تعلم أن أي قرار تتخذه قد يصبح حجة جديدة ضده.
فالورينا اقتربت منها، وضعت يدها على يدها:
"أتعلمين؟ أحيانًا أشعر أنكِ لستِ من هذا العالم. أنتِ ترقصين وكأنكِ تملكين السماء كلها، ثم تختفين في صمت كأنكِ لا تريدين شيئًا. هذا مؤلم يا آنا."
آنا نظرت إليها بعينين تلمعان قليلًا، لكنها لم تقل شيئًا. الصمت كان لغتها الوحيدة حين لا تجد الشجاعة لتصرخ بما في قلبها.
---
مع غروب الشمس، كان البرد يزداد قسوة. الشوارع تحت النافذة غطتها طبقة جديدة من الثلج. آنا ارتدت زيها مجددًا، دخلت غرفة الرقص، وبدأت الحركات.
هذه المرة لم يكن الأمر تدريبًا بل كان هروبًا حقيقيًا. جسدها يطير، ساقاها تلتفان، ذراعاها تمتدان نحو السماء، وكل قفزة كانت كأنها محاولة للنجاة.
في المرآة، لم تر نفسها فقط، بل رأت طفلة صغيرة تبكي في زاوية غرفة مظلمة، رأت أمها وهي تبتسم لها، رأت والدها وهو يصرخ. الرقص حوّل هذه الصور كلها إلى خطوات وإلى قفزات.
الليل تقدم، والمدينة أضاءت أكثر. آنا لم تكن تدري أن خلف أحد هذه النوافذ البعيدة كان هناك عين تراقبها. عين لا تعرفها، لكنها ستغير حياتها يومًا ما.
Comments