كان الليل قد أسدل ستاره على القصر الآشوري، فغرق الحجر الرمادي في ظلال ثقيلة، والمشاعل المعلقة على الجدران تنبعث منها ألسنة لهب صغيرة تقاوم العتمة. بدا المكان وكأنه يتنفس بهدوء غامض، كل زاوية فيه تهمس بسرّ لا يعرفه أحد.
دخلت إيلينا جناحها الجديد بصمت، تتبع خطوات الخادمة التي وضعت أمامها شمعة مضاءة ثم انسحبت سريعًا، وكأنها تخشى أن تبقى دقيقة إضافية. أُغلِق الباب خلفها، وبقيت وحدها وسط غرفة واسعة جدرانها مزينة بنقوش الطيور المجنحة والزهور.
وقفت أمام مرآة نحاسية كبيرة في زاوية الغرفة، والشمعة الخافتة تضيء وجهها من جانب واحد. نظرت إلى انعكاسها، وشعرت للحظة أنها لا ترى نفسها، بل غريبة نُزعت من عالمها وأُلقيت هنا.
كان شعرها الأشقر البارد ينساب على كتفيها حتى خصرها، خصلاته تحمل بريقًا فضيًا تحت الضوء الضعيف. بشرتها البيضاء الملساء بدت أكثر إشراقًا وسط العتمة، وعيونها الخضراء الزمردية تلمع بحدة غامضة، كأنها مرآة لبحرٍ عميق يخفي أكثر مما يظهر.
همست مع نفسها وهي تلمس طرف المرآة بيد مرتجفة:
"هل أصبحتُ عروسًا أم أسيرة؟"
تنهدت وجلست على حافة السرير الحجري الذي غُطي بأقمشة ثقيلة مطرزة بخيوط ذهبية. حاولت أن تنام، لكن عينيها ظلتا مفتوحتين، تلاحقان الظلال على الجدران، وكأنها تتحرك من تلقاء نفسها. أصوات الريح تتسلل من النوافذ العالية، مختلطة بصفير بعيد يشبه الهمسات.
لم تستطع الاحتمال، فنهضت وخرجت إلى الشرفة. الهواء الليلي كان باردًا، يعصف بخصلات شعرها الأشقر، والمدينة الممتدة أسفل القصر بدت ساكنة كلوحة حجرية. وقفت هناك، تحدق في الأفق، تبحث عن لحظة هدوء وسط الفوضى التي اجتاحت حياتها.
لكن الهدوء لم يدم طويلًا.
سمعت وقع خطوات ثقيلة تقترب خلفها، رتيبة كدقات طبول. التفتت بسرعة، ورأت أدريان يقف عند مدخل الشرفة، كأن الظلام نفسه قد شكّل هيئته.
كان طويلًا، مهيبًا، عباءته السوداء تتمايل مع الريح، ووجهه الوسيم يزداد قسوة تحت ضوء القمر. عيناه العسليتان تحدقان بها بعمق، يدرسان ملامحها كما لو كان يقرأ نقشًا غامضًا على جدار معبد.
ابتسم ابتسامة قصيرة بلا دفء وقال:
"القصر لا يرحم في ليلته الأولى… يبدو أنه سرق نومك."
لم ترد. رفعت ذقنها قليلًا، عيناها الزمردية تلمعان بتحدٍ، كأنها تقول له: لن أخضع.
اقترب خطوة بخطوة، صوته منخفض لكنه يحمل ثقلًا غريبًا:
"أتعلمين؟… لم أتوقع أن تجرؤي على الرد عليّ في القاعة. معظم النساء يخرسن حين أتكلم."
شدّت قبضتها على حافة الشرفة، لكنها لم تبتعد. بل أجابت بصوت هادئ لكنه مليء بالتصميم:
"أنا لست مثل معظم النساء، ولن أكون دمية تتباهى بها أمام مجلسك."
ساد صمت مشحون. نظراتهما التقت، اشتعلت بينهما شرارة غير مفهومة؛ مزيج من الغضب، الكبرياء، والانجذاب الذي لم يجرؤ أحدهما أن يعترف به.
وفجأة، هبت ريح قوية أطفأت المشاعل في الشرفة، تاركة المكان في عتمة تامة. لم يبقَ سوى ضوء القمر، ينعكس على شعرها الأشقر وعينيه الداكنتين. لحظة غريبة، بدت فيها كأنها قادمة من عالم آخر، وهو ظل أسود يحاصرها.
اقترب أكثر، حتى بات صوته قريبًا من أذنها:
"لا تختبئي خلف شجاعتك… هذا القصر يبتلع كل من يتحداه."
لكنها لم تهتز. بل نظرت في عينيه بثبات، وقالت ببرود:
"إذن فليحاول ابتلاعي… ولن ينجح."
—
وهكذا انتهت تلك الليلة، بين مواجهة لم تكتمل، ونظرات لا تُفسَّر.
في أعماق القصر، أسرار تستيقظ، وفي قلوبهما، نار صغيرة بدأت تتقد… نار لم تكن كراهية خالصة، ولا حبًا بعد، بل بداية قصة لا يعرف أحد إلى أين ستقود.
Comments