مرّت أسابيع طويلة منذ غياب الأميرة. في القصر، كان القلق يتضاعف يومًا بعد يوم. لم يعتد الناس أن تغيب أميرة بلا أثر، ولا أن تختفي دون حاشية أو مرافق. ومع أنّ الملك حاول في البداية أن يُخفي الخبر عن العامة، إلا أنّ همسات السوق والطرقات سرعان ما ملأت المدينة: "الأميرة اختفت... الغابة ابتلعتها."
انتشرت الحكايات كالنار في الهشيم، حتى صار كلّ واحد يضيف عليها من خياله. بعضهم قال إن تنينًا أسود أخذها بين مخالبه، وآخرون أقسموا أنّهم سمعوا صرخاتها في منتصف الليل تأتي من أعماق الغابة. الأطفال صاروا يتهامسون باسمها، والنساء في الأسواق كنّ يرفعن أيديهن بالدعاء أن تعود سالمة. أما الجنود في القصر، فكانوا يشيحون بوجوههم إذا ذُكر اسمها، إذ لم يجرؤ أحد منهم على اقتحام تلك الغابة الموحشة التي لم ينجُ منها أحد دخلها وحيدًا.
الملك نفسه لم يكن ينام. كان يخرج ليلاً إلى شرفات القصر، ينظر إلى الأفق المظلم وكأن عينيه تبحثان عنها بين الغيوم. لم يجرؤ أن يُظهر ضعفه أمام وزرائه، لكنه في قلبه كان يشعر كأن قطعة منه قد اقتُلِعت.
وحين نفد الصبر، ولم يعد الصمت ممكنًا، دعا الملك إلى قاعة العرش فارسًا من أخلص رجاله، الأمير الشاب الذي كان أقرب الناس إلى قلب الأميرة منذ طفولتها. كان يعرفها أكثر من أي أحد آخر، رافقها في ألعابها، وتعلم معها ركوب الخيل، وكثيرًا ما جلسا في حدائق القصر يتأملان الطيور ويبتكران الحكايات.
دخل الأمير القاعة بخطواتٍ ثابتة، لكن قلبه كان يخفق بقوة. جلس الملك على عرشه، وقد بان التعب على وجهه، وعيناه مليئتان برجاءٍ يخالطه أمرٌ لا يحتمل الرفض. قال بصوتٍ مهيبٍ لكنه مكسور من الداخل:
– "لقد انتظرتُ طويلًا، ولم تعد الأميرة. لم يعد لنا خيار سوى أن نرسل من يثق به الجميع. ابحث عنها، أعدها إلينا مهما كلّف الأمر. القصر بلا أميرة كجسدٍ بلا روح."
انحنى الأمير بكل احترام، لكنه حين رفع رأسه رأى في عيني الملك دمعة لم تكتمل. شعر بثقلٍ عظيم يهبط على كتفيه. لم يكن الأمر مجرّد مهمة عسكرية أو تكليف ملكي، بل كان امتحان قلبه هو الآخر.
خرج من القاعة متجهًا إلى اسطبلات القصر، حيث ينتظره حصانه الأسود. أمسك بلجامه، وربّت على عنقه كأنما يهيّئه لرحلةٍ قد لا عودة منها. جمع بعض الزاد: خبزًا مجففًا، قليلًا من الجبن، وقربة ماء. حمل سيفه ودرعه، لكنه كان يعرف في قرارة نفسه أن السيوف لا تنفع كثيرًا أمام أسرار الغابة.
وقبل أن يغادر البوابة الكبرى، اجتمع حوله الناس. كانت وجوههم خليطًا من رجاء وخوف. امرأة عجوز رفعت يدها وقالت:
– "عد بها إلينا، يا بني. لا تتركنا نفقد الأمل."
طفل صغير تعلّق بعباءته وسأله بعفوية:
– "هل ستقاتل الوحوش لتعيدها؟"
ابتسم الأمير رغم ثِقَل قلبه، وانحنى ليقول للطفل:
– "سأقاتل كل ما يقف بيني وبينها، ولو كان ظلي نفسه."
ثم شدّ لجام حصانه وانطلق، وسط أنفاسٍ متقطعة من الناس الذين تابعوا خطواته حتى غاب عن أبصارهم.
مع أول حدود الغابة، تغيّر كل شيء. الطريق الممهّد صار ترابًا مبللًا تغوص فيه أقدام الحصان. رائحة الأرض كانت مختلفة، مزيجًا من عطر الأعشاب الرطبة ورهبةٍ قديمة تخنق الأنفاس. كلما تقدم خطوة، خيّل إليه أن الأشجار تقترب أكثر، كأنها تُشكّل سورًا خلفه يمنعه من العودة.
تذكر كلمات حراس القصر: "من يدخل الغابة لا يعود." لكنه لم يتراجع. في قلبه شعور واحد يسيطر عليه: أن الأميرة ما زالت حيّة، تنتظره. ربما تسمع وقع أقدام حصانه الآن وتدرك أنه جاء.
وبينما كانت الشمس تغرب وتلوّن السماء بلونٍ دموي، توقّف الأمير عند جدول ماء صغير. نزل عن حصانه، وركع ليشرب. انعكس وجهه في الماء، لكنه بدا غريبًا، كأنه لم يعد الشاب الذي غادر القصر صباحًا، بل رجل يتهيأ لمواجهة عالمٍ آخر.
رفع رأسه، ثم همس لنفسه:
– "لن أعود إلا بها. وإن لم أعُد... فسيعلم الجميع أني اخترتُ المصير بجانبها."
ثم قاد حصانه أعمق، حتى ابتلعته ظلال الغابة.
ـــــــ
غاص الأمير في عمق الغابة، ومع كل خطوة كان يشعر أنّها لا تقوده إلى مكان، بل إلى اختبارٍ جديد. لم يكن يسمع سوى صرير الأغصان تحت حوافر حصانه، وأصوات الطيور الليلية التي تتعالى كلما أوغل في الظلام. لكن داخله كان يقول له إن الأميرة قريبة، وإن الطريق إليها لا بدّ أن يمر عبر محنة.
لم تكُن رِحلةُ الأميرِ في أعماقِ الغابةِ مَفروشَةً بالزُّهور، بل كانت طريقًا وعراءً يكتنفُه الظلامُ وتَتَناهَبُهُ الرِّياح. كُلُّ خطوةٍ خطاها كانت تُواجِهُهُ بنداءِ امتحان، وكُلُّ عَقبةٍ كانت تُوشكُ أن تَسلبَ عزيمتَه. غير أنّ قلبَهُ ظلّ كالطودِ الشامخ، لا يَهتزُّ أمام العواصف، ولا يَنحني أمام الأشواك.
سارَ وهو يُؤمِنُ أنّ الصعابَ ليست إلّا أبوابًا سِحريةً تَفتحُ له دربَ اللقاء، وأنَّ كُلَّ جُرحٍ إنما هو نَجمةٌ تُضيءُ سماءَ الأمل. وظلَّ مُصمِّمًا ألّا يتوقّف، حتّى يبلُغَ الغايةَ الكبرى: أن يَعثُرَ على الأميرة، ابنةِ الملك، ونصفِ روحِه، وأقربِ الناسِ إلى فؤادِه.
الاختبار الأول: الخوف
في إحدى الليالي، بينما كان يسير بين الأشجار العالية، سمع عواءً يمزّق السكون. تردّد صدى الصوت بين الجذوع حتى بدا وكأن الذئاب تحيط به من كل جانب. سحب سيفه، لكن يده ارتجفت. لم يكن الخوف من الذئاب، بل من الفشل، من أن يعود إلى القصر فارغ اليدين.
وفجأة ظهر ذئب ضخم من بين الظلال، عيناه تلمعان مثل جمرتين. اقترب ببطء، كأنّه يختبر الأمير. رفع الأمير سيفه، لكن في اللحظة نفسها تذكّر الأميرة، وتذكّر أنها واجهت هذه الغابة من قبله. قال في نفسه: "إن كانت قد رأت الظلام بعينيها ولم تهرب، فلا يليق بي أن أرتجف."
أنزل سيفه، وتقدّم خطوة إلى الأمام. الغريب أن الذئب لم يهجم، بل توقّف، ثم رفع رأسه إلى القمر وعوى طويلًا، قبل أن يستدير ويختفي في الظلام. عندها فهم الأمير أنّ الخوف ليس عدوّه الحقيقي، بل ضعفه أمام نفسه.
الاختبار الثاني: الوهم
بعد أيامٍ من السير، وصل إلى وادٍ تملؤه الضباب. كان الضباب كثيفًا حتى إنه لم يعد يرى سوى خطواته القريبة. فجأة ظهرت أمامه صورة الأميرة. كانت ترتدي ثوبها الملكي، عيناها تلمعان، وتمدّ له يديها.
– "ألم تجدني أخيرًا؟" قالت بصوتٍ رقيق.
ركض نحوها، لكنه كلما اقترب، ابتعدت أكثر. حتى بدأ يشعر أن الأرض من تحته تتحوّل إلى مستنقع يغوص فيه. أدرك حينها أنّ هذه ليست الأميرة، بل وهم صنعته الغابة لتُضلّه.
أغمض عينيه بشدة وقال بصوتٍ عالٍ:
– "لن أخدع! أعرف أن الأميرة الحقيقية ليست صورة، بل روح تقاتل لتجد حقيقتها."
وحين فتح عينيه، تلاشى الضباب شيئًا فشيئًا، وعاد الوادي إلى طبيعته. شعر أن الغابة أرادت أن تختبر صدقه، وأن تمنحه درسًا: أن الحقيقة ليست ما تراه العين، بل ما يثبته القلب.
الاختبار الثالث: الإغراء
في اليوم التالي، عثر على كوخ صغير بين الأشجار. الدخان يتصاعد من مدخنته، ورائحة الطعام تعبق في الهواء. كان متعبًا جائعًا، فاقترب بحذر. طرَق الباب، فخرجت امرأة شابة جميلة، بعينين واسعتين وابتسامة ساحرة. قالت له:
– "تبدو مرهقًا أيها الفارس. ادخل، ارتح، تناول طعامك، ودعني أُزيل عنك هذا العناء. لماذا تبحث عن من لا تريد العودة؟ ابقَ هنا، وأنا أكون رفيقتك."
شعر الأمير بضعفٍ يتسلّل إلى قلبه. فكرة أن يتخلى عن الرحلة، أن يستريح، كانت تُغريه أكثر من أي شيء. لكنه تذكّر كلمات الملك: "القصر بلا أميرة كجسد بلا روح." وتذكّر طفولته معها، حين كانت تبتسم له وهو يسقط عن الحصان وتشجّعه أن يحاول من جديد.
نظر في عيني المرأة وقال:
– "جئتُ للبحث عنها، ولن أتوقف حتى أجدها. ليست الراحة ما جئتُ أطلبه، بل الحقيقة."
في لحظة، اختفت المرأة، واختفى الكوخ معها، وكأنها لم تكن إلا اختبارًا آخر.
الوصول إلى الأثر
بعد هذه التجارب الثلاث، شعر الأمير أنّه لم يعد الشخص ذاته. الغابة لم تكن مجرد مكان، بل كانت مدرسة تختبر عزيمته كما اختبرت الأميرة من قبله.
وعند الفجر، بينما كان يسير بين أشجار البلوط العتيقة، لمح شيئًا صغيرًا يتدلّى من غصن: شريطًا حريريًا أزرق، كان يعرفه جيدًا. إنه الشريط الذي اعتادت الأميرة أن تزيّن به شعرها. مدّ يده وأخذه، وشعر كأنه وجد خيطًا يقوده مباشرة إليها.
ابتسم رغم التعب، وقال لنفسه:
– "الآن أعرف أني على الطريق الصحيح. لم يبقَ بيني وبينها إلا القليل."
ثم تابع مسيره، والهواء حوله صار أخفّ، كأن الغابة نفسها صارت تبارك خطواته بعد أن اجتاز اختبارات الظلام.
ـــــــــ
Comments