من جدران القصر إلى رحاب الحياة

رغم أنّ طفولتها كانت مزيجًا من الحُلم والجرح، إلّا أنّ الأيام صاغت ملامحها على هيئة لغزٍ حيّ. كانت الأميرة تكبر بين جدران القصر، لكنّ عينيها ظلّتا تلمعان ببريقٍ غامض، وكأنّهما تحملان أسرارًا أبعد من طفولتها. لم يكن أحدٌ يفهم حقًا من أين يأتي ذلك الحزن العميق الذي يسكن قلبها، ولا كيف يمكن لطفلةٍ أن تحمل ثِقَل العاصفة في صدرها الصغير.

يكتنفها الضباب الكثيف كأنّها معلّقة بين السماء والأرض، تحمل في عينيها بريق الحُلم، وفي قلبها شظايا من الحزن لم يفهم سرّها أحد. كان الناس يرونها كزهرةٍ نادرةٍ في بستانٍ من شوك، جميلة الملامح، رقيقة الصوت، ولكنها تحمل على كتفيها عبئاً لا يليق بعمرها الصغير.

لم يكن قصرها كما يظنّ الجميع جنةً من بهجة، بل كان سجناً مُزخرفاً، تتلألأ جدرانه بالذهب وتُزيّن سقوفه بالنجوم، لكن داخله يخنق الأنفاس. منذ طفولتها، عاشت محاطةً بالأسوار العالية والحُرّاس الذين لا يسمحون لها بالاقتراب من بوابة الحرية. كل خطوةٍ لها كانت محسوبة، وكل نظرةٍ تُراقَب، حتى أنّها نسيت طعم العفوية التي يعرفها الأطفال في حدائقهم.

كانت أيّام الأميرة تمضي متشابهة، كأنّها مرسومة بريشة واحدة لا تعرف التغيير. مع إشراقة الصباح، كانت تستيقظ على صوت الجواري وهنّ يفتحن نوافذ الغرفة المذهّبة، فيتسرّب ضوء الشمس عبر ستائر الحرير. كانت تجلس بهدوء أمام مرآتها الكبيرة، تنظر إلى وجهها البريء، وتحاول أن تفهم كيف يمكن لملامحٍ صغيرة أن تخفي وراءها همًّا أكبر من عمرها.

بعد الإفطار، يبدأ برنامجها اليومي: تجلس مع المعلّم لقراءة كتب التاريخ والحكمة، ثم تتدرّب على فنون الخطّ والرسم. لم يكن ذلك مجرد تعليمٍ ملكيّ، بل كان عزاءها الوحيد؛ إذ وجدت في الحروف ملاذًا من صمت القصر، وفي الألوان نافذةً تفتح لها عالمًا أوسع من الجدران العالية.

أحيانًا كانت تُؤخذ إلى قاعة الموسيقى، حيث تعزف المعلمات على العود والناي، فتجلس تُنصت بصمت، كأنّها تغزل من كلّ نغمة حلمًا صغيرًا تهرب به من ثقل يومها. أمّا حين يأتي وقت التدريب على آداب البلاط، فكانت تمشي ببطء فوق أرضية الرخام، تتعلّم الانحناء بخفّة، واختيار الكلمات برصانة، وكأنّها تُدرَّب على أن تُخفي قلبها خلف قناع الملوك.

وفي المساء، حين يسكن القصر ويغفو الجميع، كانت تعود إلى ركنها الخاصّ حيث تحتفظ بكتب قديمة ورثتها عن جدّها. هناك، تحت ضوء الشموع، تغوص في عالمٍ آخر، تتخيّل نفسها تجوب الصحارى، تعبر الغابات، وتسمع أصوات شعوبٍ لم ترها قط. لقد كان الخيال صديقها الأوفى، والكتب بوابتها الوحيدة إلى الحرّية.

ومع ذلك، لم يكن يخلو يومها من لحظات الوحدة الحادّة. كانت أحيانًا تقف عند شرفة القصر العالية، تنظر إلى القرى البعيدة، وتتساءل: "هل يعيش الأطفال هناك حياةً أبسط وأجمل من حياتي؟ هل يضحكون حقًّا من قلوبهم؟" ثم تعود إلى غرفتها وقد ثقل قلبها بأسئلةٍ لا تجد لها جوابًا.

وهكذا كانت أيّامها: مزيجًا من العلم والوحدة، من الأناقة المفرَضة والأحلام المخبّأة. لم يكن أحدٌ يعلم أنّ تلك اللحظات الصغيرة كانت تُنقش في روحها لتصنع منها امرأةً مختلفة عن كلّ الأميرات.

لم يكن تعليم الأميرة مقتصرًا على الكتب والموسيقى فقط، فقد رأت أن المعرفة لا تكتمل إلا حين يقوى الجسد كما يقوى العقل. في ساحة القصر الواسعة، تحت إشراف أحد الفرسان المخلصين، بدأت رحلتها مع الخيل والسيف.

في البداية، كانت تخشى الاقتراب من الحصان الأسود الضخم الذي أُعدّ لها. يلمع وبره تحت الشمس كأنه قطعة من الليل، وعيناه تقدحان شررًا من العزم. ارتجفت يداها حين حاولت أن تلمسه، لكنّ الفارس قال لها بابتسامة:

"الخيل يا سيدتي لا يُروض بالقوة، بل بالثقة. إن شعر بخوفك، خاف منك، وإن شعر بصدقك، منحك ظهره."

أخذت نفسًا عميقًا، ومدّت يدها الصغيرة نحو عنق الحصان، ثم مسحته برفق، فإذا به يخفض رأسه مطمئنًا. ومن تلك اللحظة، بدأت بينهما صداقة خفية، كأنها وُلدت لتجري معه في ميادين أوسع من جدران القصر.

كانت ساعات التدريب شاقة، تسقط أحيانًا عن ظهر الحصان، وتنهض وفي عينيها إصرارٌ أشد من الألم. تعلّمت أن توازن جسدها مع خطوات الخيل، وأن تُمسك اللجام كما لو كانت تمسك قدرها بيديها. وكلما تقدّمت الأيام، صارت الفتاة الصغيرة فارسةً ماهرة، قادرة على أن تطوي الميدان في لحظاتٍ قليلة.

أمّا السيف، فكان قصة أخرى. في البداية كان أثقل من يدها، يجرّها إلى الأرض كلما حاولت رفعه. ضحك الفارس، وقال لها:

"السيف ليس قوة الذراع، بل فنّ الروح. من يجعل قلبه ثابتًا، صار سيفه أخفّ من الهواء."

تدرّبت طويلًا على الضربات والحركات، تنزف يداها من خشونة المقبض، لكنها لم تشتكِ. كانت ترى في كل جرحٍ صغير خطوة نحو قوّةٍ أكبر. شيئًا فشيئًا، صارت حركاتها أكثر ثباتًا، وضرباتها أكثر دقّة، حتى بدا وكأن السيف صار امتدادًا ليدها، والخيل امتدادًا لروحها.

وهكذا، لم تعد الأميرة أسيرة الكتب وحدها، بل صارت تملك جناحين؛ جناح الحكمة وجناح القوة. وكانت كلّ مساء، حين تغرب الشمس خلف أسوار القصر، تشعر أنّها لم تعد طفلة ضعيفة، بل امرأة في طور الولادة، تُعدّها الأقدار لشيءٍ أعظم مما تراه عيناها الآن.

وذات مساء، حين كانت تقف على شُرفة عاليةٍ تطلّ على الغابة المظلمة، هبّت ريح باردة كأنها تهمس في أذنها: "ليس هذا مكانكِ... دربكِ أبعد من هذه الجدران". ارتعش قلبها، وأحسّت بأن هناك شيئاً ينتظرها في عالمٍ مجهول، طريقاً لا تعرف إن كان خلاصاً أم هلاكاً، لكنه بدا أكثر صدقاً من ابتسامات المقرّبين المزيّفة.

الأميرة لم تكن أسيرة القيود الحديدية، بل أسيرة المرارة التي تنبض في صدرها مع كل فجر. كانت تسمع في الليل بكاءها يتردّد بين جدران القصر، ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منها. كانت تعرف أنّ أباها الملك، رغم جبروته، يخشى مواجهتها، لأن في عينيها مرآة تكشف زيف انتصاراته ودماء ضحاياه.

كبرت الأميرة وهي تحمل في أعماقها سؤالاً لا يهدأ: "لماذا كُتِب عليَّ أن أعيش بين الجدران، بينما الأرواح خُلِقت لتطير؟" وكلما حاولت أن تجد الجواب، ازدادت مرارتها، كأنها تشرب كل يوم من كأسٍ لا ينضب.

في إحدى الليالي القمرية، تسللت إلى مكتبة القصر، تبحث في كتبٍ قديمة لعلّها تجد فيها أثراً يخفف عنها. وبين الغبار والجلود المهترئة، وقعت يداها على مخطوطٍ غامضٍ عنوانه: "درب المرارة". كان نصّاً مجهول الكاتب، يصف طريقاً مليئاً بالأشواك، لا يسلكه إلا من يبحث عن الحقيقة خلف الوهم. قرأت الكلمات بشغفٍ، وكل سطرٍ كان يشعل في صدرها ناراً، حتى شعرت أنّ المخطوط كُتب لها وحدها.

ومنذ تلك اللحظة، لم يعد القصر مكاناً تتحمّله. صار ضيّقاً كالكفن، وصار الهواء فيه ثقيلاً كالغبار في صدر مريض. كانت تتمنّى أن تفرّ، حتى لو أدركها الموت على أول عتبة من الطريق. لكنّ الخوف كان يقيد قدميها؛ خوف من المجهول، وخوف من الحقيقة التي ربما تكون أكثر إيلاماً من الأسر.

ومع كل فجرٍ، كانت الأميرة تسأل نفسها: "هل أظلّ أسيرةً بين الذهب والجدران، أم أواجه درب المرارة وأكتشف ما يخبّئه لي القدر؟"

هكذا بدأت حكايتها... حكاية أميرةٍ لم تكن تبحث عن التاج ولا عن العرش، بل عن ذاتها الضائعة. وكانت تعلم في سرّها أنّ الطريق لن يُفرش بالورود، بل بالأشواك والدموع، لكنّها أيضاً كانت تؤمن أنّ بين ركام الألم، تولد دوماً بقايا نورٍ قادرة على إنقاذ روحٍ تتشبّث بالحياة.

وبينما كان الليل يبتلع آخر أنفاسه، وقفت الأميرة أمام النافذة، تنظر إلى الأفق البعيد. لم يكن أحد يعلم أنّها في تلك اللحظة قد اتّخذت قرارها: أن تغادر قصرها، وتخطو نحو المجهول... نحو درب المرارة، حيث ستكتشف أنّ الحرية أحياناً ليست سوى وجهٍ آخر للألم، وأن الحقيقة قد تكون أثقل من السلاسل.

وحين بزغ الصبح، كان كل شيء يبدو كما هو في القصر: الجدران العالية، الممرات الموشّاة، الحُرّاس بوجوههم الجامدة. لكن في قلب الأميرة، كان شيءٌ قد تغيّر. لم تعد نظراتها هي نفسها، ولا أنفاسها، كأن روحها قد أُيقظت من نومٍ طويل. لقد اتخذت القرار، والقرار في قلبٍ جريحٍ أخطر من السيوف.

في الليل التالي، حين سكنت الأروقة ولم يبقَ سوى وقع خطوات الحُرّاس، ارتدت الأميرة ثوباً بسيطاً لا يليق بعرشٍ ولا بأميرة. لفت عباءةً سوداء حول جسدها، وأخفت ملامحها خلف نقابٍ خفيف، ثم سارت بخفةٍ كظلٍّ عابر. كل خطوةٍ كانت تشبه ارتجافة قلبٍ يخطو نحو المجهول.

اقتربت من البوابة الخلفية للقصر، تلك التي لم يقترب منها أحد إلا الخدم، وكان القمر يرافقها كأنّه شاهدٌ صامت على تمرّدها. رفعت بصرها إليه، وهمست:

"يا قمر، إن كنتَ شاهداً على أسرار القلوب، فكن لي رفيقاً في هذا الدرب، علّك تُضيء عتمتي."

لكن الأقدار لا تمنح الحرية بلا امتحان. فقد رآها أحد الحرّاس، وصاح بها متسائلاً. ارتجفت في لحظة، ثم استجمعت كل ما بقي لها من قوة وقالت بصوتٍ مبحوح:

"أنا خادمة أرسلتني الملكة... إلى السوق القريب."

نظر إليها الحارس بريبة، غير أنّ الظلام والنعاس أنقذاها، فلوّح بيده متكاسلاً، وتركها تمضي. عندها، أحسّت الأميرة لأول مرة بطعم الانتصار الصغير، كأنها نجت من قبضة موتٍ محقق.

خرجت من أسوار القصر، وسارت في طرقاتٍ لم تعرفها من قبل. لأول مرة تلمس قدماها تراب الأرض بلا بساطٍ حريري، ولأول مرة تسمع صمت الليل الحقيقي، لا صمت الجدران. كل شيء بدا لها غريباً، لكنها كانت تعرف في أعماقها أنّ هذا الغريب هو الحقّ، وأن ما تركته خلفها لم يكن سوى وهمٍ مصاغ من ذهب.

وما إن ابتعدت خطواتها عن آخر ظلٍّ للقصر، حتى أحست بثقلٍ غريبٍ يزول عن صدرها. كأن السلاسل التي كبّلتها أعواماً قد تكسّرت، لكن بدلاً من أن تشعر بخفةٍ مطلقة، اجتاحها خوفٌ أعظم:

"إلى أين؟"

كانت الطرق أمامها ثلاثة: دربٌ يمرّ بالغابة المظلمة التي لا يجرؤ أحد على دخولها، وآخر يقود إلى المدينة التي طالما سمعت عنها حكايات الفقر والجوع، وثالث يتيه في صحراء لا يعرف لها أحد نهاية. وقفت مترددة، والريح الباردة تعصف بعباءتها، حتى بدا لها أنّ القدر نفسه يختبرها.

سمعت في داخلها صوتاً، لم تعرف أهو صدى قلبها أم نداء غامض من الغيب:

"لن تجدي الحقيقة إلا حيث الألم، ولن تبلغي الحرية إلا إذا ذُقتِ المرارة."

رفعت بصرها إلى الغابة، حيث الأشجار متشابكة كالأسرار، والظلال ترقص على ضوء القمر، فشعرت بأنّها هي الطريق الذي كُتب لها. تنفست بعمق، وبدأت تخطو نحوه، كمن يقدّم نفسه قرباناً لحلمٍ لم يكتمل.

ومنذ تلك اللحظة، عند عتبة الغابة، أدركت أنّ حياتها القديمة قد انطفأت، وأنّ صفحةً جديدة توشك أن تُكتب.وحين ابتلعتها ظلال الغابة، بدا كأنّ الأشجار تهمس باسمها، وكأنّ القدر ذاته قد أغلق خلفها كلّ أبواب العودة.بخطواتٍ مترددة، دخلت عالم الغابة... عالمٌ سيختبر قلبها أكثر مما اختبرته جدران القصر.

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon