...في صباح يوم السبت، كان قصر عائلة دو نيل يعبق برائحة الخبز الطازج والزهور التي تناثرت على أرجاء المائدة الطويلة. وصل ألكسندر بخطوات ثابتة، وألقى التحية على والده ووالدته اللذين استقبلاه بعناق دافئ وعاطفة صادقة. جلس الجميع حول المائدة التي ازدانت بأصناف فاخرة من الطعام والشراب، لكن والد ألكسندر لم يُخفِ قلقه وهو يتفحص ملامح ابنه....
..."أراك أصبحت أنحف يا بُني… هل تُرهقك الحروب؟" قالها بصوت يحمل مزيجًا من الفخر والخوف....
...أومأ ألكسندر برأسه وهو يجيب: "لن أكون رجلاً يا أبي إذا لم أخض تلك الحروب."...
...لم تمضِ لحظات حتى وصلت الآنسة كلير دو لانو برفقة والدها السيد لوران دو لانو. نهض ألكسندر مرحبًا بهما بكل نُبل، وجلس الجميع مجددًا. ابتسم والد ألكسندر قائلاً:...
..."انظر يا بني… هذه خطيبتك المستقبلية، الآنسة كلير دو لانو. ربما لا تتذكران بعضكما، لكنكما كنتما معًا في طفولتكما… شاءت الأقدار أن تفترقا وتلتقيا من جديد وأنتم شباب."...
...تعالت أصوات الضحك، إلا أن ألكسندر ظل صامتًا، وفي داخله شعور غامض بالانزعاج....
...بعد انتهاء الغداء، خرج ألكسندر يتمشى في حديقة القصر، يراقب أوراق الشجر وهي تتمايل مع الريح. اقتربت منه كلير بابتسامة هادئة وقالت:...
..."كيف حالك يا سيدي؟ كنتَ هادئًا على غير عادتك أثناء الغداء."...
...التفت إليها قائلاً: "وما رأيك أنتِ بهذه الخطبة؟"...
...ابتسمت بخفة وأجابت: "لا رأي لي… والدي هو من يقرر."...
...ضحك ألكسندر بسخرية خفيفة: "عجبًا يا آنسة… ألا رأي لكِ في أمر كهذا؟ أنا قائد حروب تتجنبني النساء لأن حياتي بين ساحات القتال أكثر من المنازل، معرض للموت في أي لحظة… ألا يضايقك ذلك؟"...
...أجابته بابتسامة أوسع: "هل تعطيني الأسباب حتى أرفضك؟ حينها سأكون الملامة… وإن لم ترغب أنت في هذه الخطبة، فلتخبر عائلتك بنفسك يا سيد دو نيل."...
...أومأ ألكسندر برأسه وقال: "أحييك على شجاعتك… لكن هل تظنين أنني جبان؟ سأخبرهم."...
...ابتعدت كلير بخطوات واثقة، تاركة ألكسندر في الحديقة يحاول تصفية ذهنه، بينما نسيم المساء البارد يعبث بخصلات شعره، ويشتت أفكاره أكثر مما يجمعها....
...بعد أن انفضّت الوليمة، جلس الكسندر أمام والده في قاعة الطعام، حيث لا يزال عبق الشموع يملأ الجو ورائحة اللحم المشوي تتسلل إلى المكان....
...رفع الوالد بصره إلى ابنه، ولاحظ ملامح التوتر تكسو وجهه:...
...— ما لي أراك شارداً يا بُني؟...
...زفر الكسندر ببطء، وكأنه يبحث عن الكلمات وسط ضجيج قلبه، ثم قال:...
...— يا أبي، قلبي مثقل بويلات الحروب. أنا قائد عسكري ملكي، أدافع عن الملك في زمن تعصف به نار التمرد، لكن… الزواج الآن؟ أشعر أني سأظلم الآنسة كلير دو لانو إن ارتبطت بي....
...انعقد حاجبا والده وهو يميل بجسده للأمام:...
...— يا بني، ناقشنا الأمر وانتهى. هذا الزواج سيجمع عائلتين شريفتين، والآنسة كلير فتاة متفهمة. الأفضل لك أن تبدأ عائلتك الآن، لا أن تبقى أسير ميادين القتال وحدك....
...أخفض الكسندر نظره ثم رفعه بعناد:...
...— لا طاقة لي على مجادلتك، لكن اعذرني… موقفي ثابت....
...نهض من مكانه، وقبل أن يغادر ألقى نظرة على والده وقال بصوت منخفض كطعنة:...
...— قلوب الرجال أقسى من الحجر....
...بقي الوالد جالساً، يطرق بأصابعه على الطاولة في صمت ثقيل. اقتربت منه زوجته، وضعت يدها على كتفه وسألته:...
...— ما بك؟ تبدو مرهقاً....
...أجاب وهو يشيح بوجهه:...
...— تمرد ابننا… سيجعل أيامنا القادمة أكثر صعوبة....
...في قلب باريس، كانت الشمس تلملم آخر خيوطها خلف الأفق، تاركة السماء بلون نحاسي يختلط ببرودة نسيم المساء. جلس ألكسندر على مقعد خشبي قرب ساحة صغيرة، قلبه مثقل، وعقله غارق في دوامة أفكار لا تهدأ....
...مزق صوت مألوف سكونه:...
...– "ما خطب قائدنا؟ أراه غارقًا في بحر من الهواجس... أم أن امرأة ما سلبت قلب الرجل الحديدي؟"...
...التفت ألكسندر ليرى هنري دي فالو، صديقه القديم، يبتسم بخبث وهو يقترب. نهض ألكسندر وعانقه بحرارة....
...– "متى عدت إلى باريس؟"...
...– "القلب العاشق أعادني، يا صديقي."...
...رفع ألكسندر حاجبه بابتسامة ساخرة:...
...– "ويحي! ومن تكون هذه التي دفعت هنري ليقطع المسافات عائدًا إلى هنا؟"...
...لم يُجب هنري مباشرة، بل أطلق كلمات غامضة تتغزل بجمال مجهول، وكأنها قصيدة لا يريد الإفصاح عن اسمها....
...– "تهانينا إذن أيها العاشق."...
...ابتسم هنري ثم ألقى نظرة فاحصة على صديقه:...
...– "لكن ما لي أراك مهمومًا؟"...
...تنهد ألكسندر ببطء:...
...– "وماذا قد يثقل قلب الرجل غير الحروب... وعائلته؟"...
...– "خيرا، ماذا هناك؟"...
...– "عائلتي تريد مني الزواج... حتى أنهم رتّبوا كل شيء بدوني."...
...ضحك هنري:...
...– "أخفتني يا رجل! ارفض ببساطة. إن لم ينبض قلبك، فلا جدوى من الموافقة."...
...ثم أضاف بابتسامة ماكرة:...
...– "دعني أدعوك الليلة إلى الشراب. هناك مكان يشدّني دائمًا، أريدك أن ترافقني."...
...نظر إليه ألكسندر بنصف ابتسامة:...
...– "وهل محبوبتك هناك؟"...
...أومأ هنري بثقة:...
...– "أجل... لكنها لا تعلم حتى الآن كم أحبها."...
...في أروقة العاصمة التي غمرها الليل، اختفى بريق الشمس خلف الأبنية القديمة، وغطّت الأزقة رائحة الخمر والدخان. من بعيد، كانت أصوات الضحك الصاخب تتعالى من حانة صغيرة يزدحم فيها البحّارة والجنود الهاربون من جبهات القتال....
...دفع هنري باب الحانة بخطوة واثقة، وإلى جواره كان صديقه ألكسندر يسير بصمت، يتفحّص المكان بعين حذرة. اختارا طاولة جانبية، وما إن جلسا حتى بدأ هنري يلتفت هنا وهناك، كطفل يبحث عن شيء ضائع....
...– "مالي أراك تتلفّت هكذا؟" قال ألكسندر، وعيناه تراقبانه بريبة....
...– "عندما يعشق الرجل…" ابتسم هنري بخفة، "…لا يدرك أنه عاد طفلاً يبحث عن محبوبته."...
...لكن كلماته انقطعت بصوت أنثوي عذب، جعل كلاهما يلتفتان. كانت إيزابيل تقف أمامهما، وعينيها تحملان بريقًا لا يشبه أي بريق آخر. اقتربت بخطوات بطيئة وقالت لهنري:...
...– "وما الذي جاء بالسيد النبيل إلى هنا؟"...
...ضحك هنري، وأجاب:...
...– "الشوق… ورغبة في أن أرفه عن نفسي وعن قلب صديقي ألكسندر المثقل."...
...التفتت إيزابيل نحو ألكسندر، وابتسامة ماكرة ترتسم على شفتيها:...
...– "وماذا يفعل النبيل العفيف بين هذه الجدران؟"...
...خفض ألكسندر بصره، متجنبًا الإجابة، بينما عادت هي للحديث مع هنري. لحظة صمت ثقيلة تبعتها أكواب الخمر التي امتلأت على الطاولة....
...اقترب ألكسندر من هنري هامسًا:...
...– "هل تلك هي محبوبتك؟"...
...أومأ هنري برأسه وهو يبتسم:...
...– "على مهلك… قد تسمعك."...
...– "هل جننت؟" قال ألكسندر بحدة خافتة، "إنها بائعة هوى… متاحة لكل الرجال."...
...– "إيزابيل مختلفة،" تمتم هنري بثقة، "ليست كسائر النساء الأخريات."...
...لكن في تلك اللحظة، التقت نظرات ألكسندر بنظرات إيزابيل. نظرة طويلة، بلا كلمات، وكأنها تحمل تاريخًا لا يعرفانه بعد....
...مع نهاية السهرة، كان هنري يسند جسده على كتف ألكسندر، مثقلاً بآثار الشراب. اقتربت إيزابيل، وعينيها تتفحّصانهما:...
...– "لقد أثقل السيد هنري بالشرب."...
...– "سأعتني به." رد ألكسندر ببرود....
...ابتسمت ابتسامة غامضة:...
...– "إذن، أيها النبيل العفيف… اهتم به جيدًا."...
...غادر ألكسندر دون رد، تاركًا إيزابيل واقفة عند المدخل، تحدق بهما حتى ابتلعهما الظلام....
Comments