بين الحب والحريه
...بعد أن هدأت أصوات المعركة، وانخفض دوي القنابل والبنادق، عمّ الهدوء نسبيًا في المكان. في زاوية من الحانة، جلس ألكسندر على أحد المقاعد الخشبية، يسكب في كأسه رشفة من النبيذ الأحمر، ونظراته تتجول بين رفاقه الذين يضحكون ويغنون، يغمرهم جو من المرح محاولين التخفيف من وطأة الحرب....
...فجأة، ارتفعت أصوات في الحانة، حيث صرخ صاحبها بأعلى صوته:...
..."تكريماً لجنودنا الأبطال، جهزنا لكم الليلة مجموعة من الفتيات الجميلات، سيعملن على إراحة نفوسكم. لا تقلقوا، هنَّ فاتنات وماهرات!"...
...دخلت الفتيات مرتديات أزياءً فاضحة بعيداً عن الحشمة، تجولت بين الجنود الذين لم يتوقفوا عن المزايدة والمغازلة....
...وقفت إيزابيل هناك، تنظر حولها بعينين تكتنفهما الحزن، بينما اقترب منها أحد الجنود وهمس بلهجة وقحة:...
..."أيتها الجميلة، ما ثمنك؟"...
...نظرت إليه ببرود وقالت:...
..."أنا باهظة الثمن، لا تستطيع الحصول علي."...
...ضحك الجندي بقهقهة عالمة، وصاح بصوت عالٍ للرفاق:...
..." تقول هذه العاهرة انها باهظة الثمن؟"...
...توالت الضحكات الساخرة من الجنود، وغاص قلب إيزابيل في بحر من الألم والخذلان....
...لكن فجأة، وقف ألكسندر، صوته صارم:...
..."أيها الأوغاد، ما شأنكم بالسخرية من امرأة؟"...
...اقترب بوقار نحو إيزابيل وقال:...
..."أعتذر إن أزعجك جنودي، آنستي."...
...ابتسمت إيزابيل بخفة، محاولة أن تخفي ألمها:...
..."سيدي، يا صاحب الموقف النبيل، سيدي سيوبخني إن لم أجذب أحدًا لتسلية هذه الليلة."...
...ابتسم ألكسندر قائلاً:...
..."أنا رجل عفيف."...
...ضحكت بخفة وقالت:...
..."وماذا يفعل الرجل العفيف في دار الهوى؟"...
...فجأة، اقترب سيدها منها بعنف، وصفعها حتى سقطت على الأرض....
...اندفع الرجل معتذرًا إلى ألكسندر عدة مرات....
...ابتسم ألكسندر مطمئنًا:...
..."لا بأس، هي لم تخطئ."...
...نظر إلى إيزابيل وأضاف بنبرة هادئة:...
..."وجودي هنا لا يعني أنني أريد شيئًا من أي امرأة. أنا فقط أرفه عن نفسي وعن جنودي."...
...التفت وعاد إلى مكانه، بينما همس السيد في أذن إيزابيل بغضب:...
..."انهضي وأكملي عملك، إن لم تقنعي أحدًا سأطردك الليلة."...
...اعتدلت إيزابيل في وقفتها، نظرت إلى ألكسندر وقالت:...
..."شكرًا لك على تذكيري بفضلك، سأطرد ."...
...ابتسم ألكسندر ورد بلطف:...
..."على الرحب والسعة، آنستي."...
...حلّ منتصف الليل، وغادر الجميع، وساد الهدوء في الحانة البائسة. لكن في أعماق إيزابيل، كان بركان من الألم والغضب يغلي بلا توقف....
...جسدها المملوء بالكدمات والجروح من توبيخ سيدها كان يئن من التعب، إذ أُجبرت على أداء مهامها بلا هوادة، بلا رحمة....
...غادرت الحانة بخطوات متثاقلة، وعادت إلى منزلها الصغير والكئيب. دخلت، وجلست على الكرسي المتهالك، وأغمضت عينيها لبرهة، قبل أن تتمتم بصوتٍ منخفضٍ يخترق صمت الليل:...
..."سحقًا لهذا العالم الذي لا يرحم أحدًا... وسحقًا للأثرياء والنبلاء، مدعي الشرف والكذب. ليت العالم ينصف الفقراء... ليت الحروب تدمر النبلاء."...
...رفعت عينيها إلى سقف الغرفة المظلم، واصفة نفسها بحسرة:...
..."كم أشفق على نفسي... حافظت على شرفي رغم كوني بائعة هوى... كم أكره سماع مغازلة الرجال..."...
...أغمضت عينيها ثانية، وحاولت أن تخفي دموعها خلف جفونها، وأضافت بصوتٍ مكسور:...
..."لا يهم أن كان الألم يغطي جسدي، لا يهم أن أتعرض للضرب كل يوم... فقط أدعو الله أن يرحمني، وينقذني من هذه المحنة التي لا تنتهي."...
...في قلب باريس، حيث الليل خيم بسكونه على المدينة، كان ألكسندر جالسًا خلف مكتبه، تحيط به هالة من الرقي والنبل. فجأة، طرق الباب بخفة، فطلب منه الدخول....
...دخل الجندي وهو يحمل رسالة رسمية من والده، سلمها إلى ألكسندر، الذي طلب من الجندي المغادرة....
...جلس ألكسندر ببطء، رفع الرسالة بين يديه، ونظرة قلق تخترق وجهه الصارم. همس لنفسه:...
..."لا أرى فيها خيرًا..."...
...فتح الرسالة وقرأ محتواها بصوت داخلي:...
..."بني ألكسندر، أحييك على شجاعتك ونبلك في قيادة الحروب. والدفاع عن الملك ببساله فرنسا تفتخر بقادتها وجنودها الأبطال....
...أدعوّك إلى الحضور إلى المنزل لعقد قرانك بالسيدة كلير دو لانوا، ابنة أحد الشرفاء، السيد لوران دو لانوا....
...ننتظر قدومك هذا السبت حيث ستجتمع العائلات....
...طِبْتَ سالماً."...
...اضطر قلب القائد القوي لأن يعصر من التوتر والقلق. وضع الرسالة جانبًا، وقال بصوت مكبوت:...
..."يا الله، أدعوك أن تبعد عني هذا الأمر، فلا طاقة لي بتحمله الآن."...
...صباحٌ بارد لفَّ العاصمة باريس، حيث غطّى الضباب شوارعها الضيقة وأبقى نوافذ الحانات مبللة بالندى....
...دفعت إيزابيل باب الحانة الخشبي ودخلت، تبحث بعينيها عن وجه مألوف بين الزبائن. اقتربت منها إحدى العاملات وهمست:...
...– " إيزابيل… هناك رجل نبيل يسأل عنك."...
...التفتت إيزابيل بسرعة، فإذا به السيد الشاب هنري دي فالوا يقف بانتظارها. ارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها، وأسرعت نحوه لترتمي في حضنه، وهمست:...
...– "اشتقت إليك."...
...ابتسم هنري وقال بصوت دافئ:...
...– "الشوق لا يفارق قلبي."...
...جلسا معًا حول إحدى الطاولات الخشبية في ركن الحانة. أمالت إيزابيل رأسها قليلًا وسألته:...
...– "متى وصلت إلى باريس؟"...
...رد بابتسامة خفيفة:...
...– "الحروب تحتاج إلى جنودها… والقلوب تحتاج إلى سيداتها."...
...ضحكت وقالت:...
...– "أراك مفعمًا بالنشاط والحيوية."...
...– "رؤية عينيكِ تملأ قلبي بالقوة."...
...ابتسمت بخجل وقالت:...
...– "كفاك غزلًا أيها النبيل."...
...تنهدت ثم أضافت:...
...– "سيدي النبيل، لا يليق برجل مثلك أن يجلس في مكان كهذا."...
...ضحك بخفة:...
...– "وماذا عنكِ أنتِ؟"...
...نظرت إليه نظرة طويلة وقالت:...
...– "هل نسيت طبيعة عملي؟"...
...اقترب منها أكثر وهمس:...
...– "أحمل لكِ أخبارًا ستسرك."...
...اتسعت عيناها بشغف:...
...– "ما هي؟"...
...تنفس بعمق وقال:...
...– "توفي والدك… بعد صراع طويل مع مرضٍ مزمن."...
...أطرقت إيزابيل برأسها، وصوتها يخرج متهدجًا:...
...– "لقد تحقق دعائي… دعوت الله أن يذيقه الألم والمرارة، وألا يموت إلا وهو يتألم… لقد تحققت العدالة الإلهية."...
...أومأ هنري برأسه ببطء، وقال:...
...– "تهانينا على تحقق دعائك…"...
...جزء من ماضي ايزابيل :- ...
...كانت السماء ملبدة بالغيوم، والمطر ينقر على سقف الأكواخ الفقيرة كأن الطبيعة تبكي حال ساكنيها. جلست إيزابيل الصغيرة، ذات الاثني عشر ربيعًا، على طرف السرير الخشبي المهترئ، تحتضن دميتها البالية بكل قوة وكأنها آخر ما تبقى من عالمها البريء....
...فتح الباب فجأة، ودخل والدها بخطوات ثقيلة ووجهه متجهم. كان يحمل في عينيه بريقًا غريبًا، خليطًا من اليأس والطمع....
...قال بصوت أجش:...
..."قومي… ارتدي هذا الفستان."...
...نظرت إليه بخوف وهي تقول:...
..."لماذا؟ إلى أين سنذهب؟"...
...لم يجبها، بل أمسك بذراعها بقسوة، حتى شعرت بأصابعه تنغرز في جلدها. خرج بها إلى الشارع المبتل، والبرد ينخر جسدها الصغير. توقفت أمام حانة يعلو بابها ضوء أحمر خافت، وهناك كانت تقف امرأة ضخمة الجسد تبتسم ابتسامة باردة....
...سلّمها والدها لتلك المرأة، وتبادل معها بضع كلمات سريعة لم تفهمها، قبل أن تلمح إيزابيل في يده بضع عملات فضية. شعرت بشيء ينكسر في قلبها… لم يكن مجرد الخوف، بل الخيانة....
...صرخت وهي تبكي:...
..."أبي! لا تتركني! أعدني إلى البيت!"...
...لكن صوته جاء بارداً، وكأنه لم يكن يومًا والدها:...
..."البيت لا يُطعم الجائعين يا إيزابيل… ستعيشين حياة أفضل هنا."...
...ورحل، تاركًا خلفه ابنة تباع لأول مرة… وبداية حياة لم تخترها....
Comments