رصبا جلست في صمتها المعتاد، تتأمل الفراغ الذي يحيط بها كلوحة مُعلقة بلا إطار. في زاوية العقل، تلقت وميضًا من إدراك غامض، شعور بالحضور الذي لم يأتِ بعد، ولم تُسمّه بعد. كان شيئًا يطفو على سطح الواقع، يتردد بين الظل والنور، لكنه حقيقي بما يكفي لتشعر به على عمق أعصابها.
هناك، في قلب الغرفة الفلسفية لعقلها، بدأت تتشكل صورة الأنانية التي تراها، ليست ككيان منفصل عن الآخرين، بل كخلل مركزي يتغلغل في أعماق كل حركة وكل نفَس. لم يكن سهلًا أن تُسمي هذا الخلل، فكل محاولة لتسميته تُشعرها بالبرد، كما لو أن الكلمة نفسها ستسحب الروح معها. ولكنها، بحذرها المعتاد، بدأت ترتب الأحداث في تسلسل منطقي داخلي: الأنانية ليست مجرد طلب، ليست مجرد رغبة في التحكم، بل هي شعور بانعدام الاكتمال الداخلي، يُحاول تعويضه في الخارج على شكل سيطرة، على شكل مطالب، على شكل أفعال تجرح دون أن تُدرك أحيانًا.
رصبا لاحظت، كما لو كانت مراقبة علمية، أن كل خطوة للأنانية، كل نَفَس من هذه الشخصية الغامضة، هو محاولة لملء فراغه الداخلي. كل تصرفاته التي تُظهر القوة أو السيطرة ليست إلا صدى لنقص لا يُعترف به، فراغٌ يتغلغل في الروح. وكل محاولة لإيذاء الآخرين، لإخضاعهم، هي محاولة لملء هذا الفراغ من الخارج، بدلاً من مواجهة نفسه.
تقدمت رصبا خطوة، ليس بالضرورة في العالم الخارجي، بل في عمق وعيها. "ماذا لو كان يعلم؟" همست لنفسها، لكنها سرعان ما أوقفت السؤال. لم يكن المهم أن يعرف، بل أن يُفهم، أن تُحلّل الطبقات التي يختبئ خلفها. فالوعي هو المفتاح، والفهم هو السبيل للخلاص.
بدأت حوارًا داخليًا، كما لو كانت تشرح للجمهور المخفي في زوايا العقل، للجمهور الذي لا يرى إلا الظاهر: "انظروا، الأنانية الحقيقية لا تأتي من رغبة في الامتلاك، بل من خوف داخلي، من شعور بالتهديد المستمر للذات. كل محاولة للسيطرة على الآخرين، كل تفضيل للنفس على حساب الآخر، هي مجرد مرآة لعدم الاكتمال الداخلي. ومهما بدت الأفعال مُثمرة في الخارج، فهي تؤذي الداخل أولاً وأخيرًا."
كل كلمة كانت تنساب في عقلها كنسيم ثقيل، تحمل معها أثقال التحليل النفسي، تخترق طبقات الدفاع، وتكشف النقاب عن أنانية مُتقنة، لا تتعلق فقط بالأفعال، بل بالمبادئ، بالنية، بالشعور بالحق المطلق في العالم. "لاحظوا، هذه الشخصية لا تدرك أنها تُحطم نفسها، أن كل فشل في التحكم، كل إحباط داخلي، يعيدها إلى البداية، إلى الصفر، إلى الفراغ الذي يحاول الهروب منه."
ثم توقفت لحظة، تتأمل الأسلوب الذي يمكن أن تتعامل به مع هذا الغموض. لم يكن مجرد مواجهة باللطف أو بالحادّة، بل مواجهة بالوعي، بملاحظة التفاصيل، بفك الشفرات. "لا يمكن أن تُصلح ما لا يُفهم،" قالت لنفسها، وابتسمت بمرارة هادئة. "والفهم هنا هو الأداة الأقوى. كل تحليل، كل تأمل، هو خطوة نحو تحييد الضرر قبل أن يصل إلى الآخرين، وأيضًا خطوة نحو حماية الذات من التلوث النفسي."
ومع ذلك، لم يكن الأمر كله نظريًا. فداخل كل تفكيرها كانت هناك نبضة عملية: "إيجاد نقاط التوازن، مراقبة الحدود، تحديد ما يمكن تحمله وما لا يمكن، تعلم الصمت عندما يُحاول الآخر فرض واقعه، والقدرة على الانسحاب بهدوء دون الشعور بالذنب." كل هذه كانت استراتيجياتها، لكنها لم تُعلنها، بل تركتها كهمس بين طبقات العقل، كخطوة أولى لتعليم الآخرين كيفية التعاطي مع شخصيات مشابهة، شخصيات لا تعرف التوازن، ولا تقدر اكتمال الآخرين، ولا ترى سوى انعكاس نقصها الداخلي على العالم.
رصدت رصبا تأثير الأنانية على تلك الشخصية نفسها، بعيدًا عن كل الآخرين. لاحظت كيف ينهار داخليًا، كيف تصبح الأفعال التي تبدو صلبة على السطح، مرتجفة من الداخل. "كل هذا الغضب، كل هذا الضغط، كل هذا الإحساس بالعجز عند عدم السيطرة، هو مجرد انعكاس لعدم الاكتمال الذي يحمله بداخله. هو ضحية ذاته قبل أن يكون ضحية للآخرين."
ثم انزلقت الأفكار إلى مكان أعمق، حيث الفلسفة تصبح أكثر قتامة وسحرًا في الوقت نفسه: "الأنانية، في جوهرها، ليست قوة، بل ضعف يختبئ وراء قناع. كل محاولة لتبريرها، كل محاولة لإظهارها على أنها قوة، هي مجرد استهلاك للطاقة الداخلية، تدمير للذات دون وعي. ومهما بدا أنها تنجح، فإن الفشل ينتظر عند كل زاوية، صامتًا، صامدًا، لا يُخطئ."
في تلك اللحظة، شعرت رصبا بمتعة غريبة. لم يكن مجرد تحليل أو فلسفة، بل شعور بالتمكين الداخلي: القدرة على فهم ما يدور حولها، القدرة على حماية نفسها، القدرة على تحويل الفوضى إلى درس، إلى استراتيجيات، إلى قوة هادئة. شعرت بالسكينة، لأنها تعرف الآن أن القوة ليست في السيطرة على الآخرين، بل في فهمهم، وفي فهم الذات، وفي القدرة على السير في العالم دون أن يُخنقها خلل الآخرين.
استمرت في الحوار الداخلي، كأنها تُعطي درسًا في الصمت: "تعلموا، أيها العقل المراقب، أن مواجهة الأنانية ليست صراعًا خارجيًا، بل رحلة داخلية. كل مرة نُلاحظ الخلل، كل مرة نحلله، كل مرة نضع حدًا للضرر قبل أن يصل إلينا، نحن نكتسب قوة جديدة. القوة الحقيقية ليست في التهديد، ولا في الصراخ، ولا في فرض السيطرة، بل في المعرفة والوعي والقدرة على الصبر والانفصال النفسي عند الحاجة."
ثم ارتاحت لحظة، لكنها لم تتوقف عن الملاحظة. لاحظت كيف أن كل محاولة لإشباع الرغبة الشخصية، كل هوس بالذات، كل تجاهل لاحتياجات الآخرين، يعيد الأنانية إلى دائرة مفرغة، يُجبرها على مواجهة نفسها في كل منعطف. "تلك هي العقوبة الأبدية للأناني: لا يجد الراحة أبدًا، لا يصل إلى الاكتمال، لا يشعر بالسلام الداخلي."
رصبا ابتسمت داخليًا، ووجدت في هذا الابتسامة قدرًا من السلام. لم يكن مجرد ابتسامة عابرة، بل إدراك أن المعرفة، والتحليل، والوعي، هي الأدوات التي تمنحها القوة، حتى أمام أكثر الشخصيات اختلالًا، حتى أمام أكثر الأنانيات تشوهًا. ومع كل تفصيل، وكل طبقة، وكل لحظة تأمل، كانت تصنع طريقها الخاص نحو الحرية الداخلية، نحو الاستقلال العقلي، نحو الانتصار على الفوضى التي تحملها الشخصيات الأخرى.
وفي النهاية، كانت رصبا تعرف، كما يعرف القارئ العاقل الذي يراقبها من بعيد، أن الأنانية، مهما بلغت من القوة الخارجية، مهما حاولت السيطرة أو التلاعب، هي مجرد مرآة، مجرد انعكاس للخلل الداخلي، وأن الانتصار الحقيقي ليس في الصراع المباشر، بل في فهمه، مراقبته، وحماية النفس بوعي تام، بذكاء عميق، وبروح فلسفية تتجاوز الظاهر إلى أعماق النفس البشرية، حيث يكمن السر الحقيقي لكل توازن، وكل سلام، وكل اكتمال.
Comments