العبور
تقدّمت ليلى ببطء نحو الباب، حيث الثلاث طرقات الأخيرة لا تزال تتردّد كصدى في قلبها. آدم أمسك ذراعها فجأة.
"انتظري… الطقوس لم تكتمل بعد. فتح الباب الآن يعني..."
لكنه لم يُكمل. بل صمت، وأطلق سراح يدها، كمن سلّم الأمر لقوة لا يفهمها.
كانت السلاسل الحديدية على الباب الخلفي قد بدأت تتحرّك… وحدها. صوت احتكاكها بالأرض كان كافياً لجعل الهواء في النُزل يُصبح أثقل.
همست ليلى لنفسها: "أنا لا أفهم... ما الذي يجري هنا؟"
لكن الجواب لم يأتِ من آدم… بل من المرآة خلفها.
انعكاسها لم يكن يتحرك معها. ظلّ يحدق فيها، وعيناه تمتلئان بشيء يشبه الشفقة… أو الحذر.
فجأة، تناثر زجاج المرآة، وكأنها انفجرت إلى الداخل، لا الخارج. ومن بين الشظايا، ظهر ممرّ طويل، مُضاء بضوء باهت، وجدرانه مليئة بالأبواب… كل باب يحمل رقمًا.
رقم 1، 2، 3... وصولًا إلى رقم 9…
ثم بعده، رقم 10… و11… و12…
شهقت ليلى، وأدركت:
> "النُزل… ليس له نهاية."
استدارت لتسأل آدم، لكنها لم تجده. لم يكن هناك.
لا غالية. لا أصوات. فقط الصمت…
صمتٌ يبتلع كل ما حولها، إلا الطرقات التي عادت من جديد… هذه المرة، من خلف أحد الأبواب.
نظرت ليلى إلى الباب رقم 9، وكان نصفه مفتوحًا.
همست في قلبها: "هل أنا الوحيدة؟... أم أن هناك غيري عبروا هنا من قبل؟"
---
وبعد لحظات…
تقدّمت، ودخلت.
أُغلق الباب خلفها دون صوت.
ومن بعيد، في ركن خفي من النُزل… اشتعلت شمعة جديدة.
كانت الغرفة تنبض كأنها كائن حي. الجدران تتنفس، والمرايا ترتعش. الباب رقم 9 خلفها... مازال مفتوحًا، كفمٍ ينتظر التهامها.
ليلى خطت خطوة إلى الداخل، وعقلها يدوي بأسئلة بلا أجوبة.
لكنها لم تلاحظ الظل الذي كان يتحرّك خلفها…
ظل آدم.
صوته أتى من العتمة، بنغمة لم تعهدها سابقًا: "كنتِ قريبة من الفهم… قريبة جدًا."
استدارت ببطء، لتجده واقفًا هناك، مبتسمًا… ولكن تلك الابتسامة لم تكن آدم.
عينيه أصبحتا بلونين غير متطابقين… كعيني غالية.
همست وهي ترتجف: "أنت… لست آدم."
ابتسم بهدوء، واقترب منها: "آدم لم يكن إلا وهمًا… صورة اختلقتها رغباتكِ أنتِ.
أنا كنت هنا قبلك… ومن قبلك كان هناك غيرك.
كنتُ أراقبكِ منذ لمستِ مقبض الباب لأول مرة.
كنتُ… مهووسًا بكِ، يا ليلى."
سقطت الكلمات على قلبها كسكاكين.
شهقت، وتراجعت، وهمست:
"جنّ عاشق… كل هذا الوقت؟"
أومأ دون خجل: "أردتكِ أن تبقي… أن تصبحي جزءًا من النُزل.
لكن الطقوس… تحتاج إلى ختم."
وفجأة، انفتحت الأرض خلفه، وصعد منها صاحب النُزل… المشعوذ، وجهه مغطى بطينٍ أسود، وصوت طبول يعلو من الجدران نفسها.
اقترب، وقال بصوتٍ أجوف:
"لا أحد يدخل هذا النُزل… ويخرج حيًّا بعد أن يعرف أسراره.
كنتِ مجرد قربان… تمامًا كمن قبلك."
لكن ليلى لم تعد خائفة.
شيء بداخلها انفجر… وصرخت:
"لماذا أنا؟! ماذا تريدون مني؟!"
ضحك المشعوذ، ثم قال:
"غالية وعدتني… وعدتني أن تمنحني الجاه، الذهب، والعبور إلى العالم السفلي… مقابل القربان الأخير."
وبينما يرفع يده لتبدأ الطقوس، ظهر دخان أسود في منتصف القاعة… ومنه خرجت غالية.
لكنها لم تكن تلك المرأة الغامضة فقط.
كانت تلبس ثوبًا من نار، تاجها من رماد، وعيناها تشتعلان ككوكبين.
قالت بصوتٍ يزلزل الأرض: "أنا لست خادمتك، أيها الأحمق… أنا ملكة من ملوك العوالم الملعونة. وعدتك بما يريده قلبك، لأني كنت أحتاج للقرابين… لا لتقوى. والآن… انتهى دورك."
أشارت بإصبعها، فاشتعل جسد المشعوذ بنارٍ خفية لا تُطفأ. صرخ، ذاب، ثم اختفى كأنه لم يكن.
أما آدم… فقد جثا على الأرض، يرتجف.
"غالية… لا تفعلي. أنا فقط… أحببتها."
نظرت إليه، وقالت ببرود:
"الحب الذي يولد من الهوس، ليس حبًا… بل لعنة.
والنُزل لا يريد المزيد من اللعنات."
ثم التفتت إلى ليلى، واقتربت منها بهدوء.
همست لها:
"نجوتِ… مؤقتًا."
ثم اختفت كما ظهرت.
استيقظت ليلى فجأة، كانت في سرير قديم داخل غرفة مظلمة، والجدران صامتة. لا أحد حولها.
حاولت النهوض، لكن جسدها لم يستجب.
وحين نظرت إلى المرآة المقابلة لها… لم ترَ نفسها.
بل رأت وجهًا آخر. امرأة تشبهها تمامًا… لكنها لم تكن هي.
كانت تحدّق بها، تبتسم، وتهمس:
> "أحيانًا… لا تخرجين من النُزل، بل يتحوّل النُزل إلى جزءٍ منك."
الفلسفة الواقعية :
قد تظن عزيزي القارئ أن كل هذا مجرد خيال. أن "نُزل رقم 9" ليس إلا رمزية، وأن ليلى مجرد شخصية...
لكن، هل سمعت من قبل عن نزل “Fern Hill” في الهند؟
أو عن بيت “آميتيفيل”؟ أو “بورلي”؟ أو “منزل لاليوري”؟
بيوت حقيقية... شهدت طقوسًا، أصواتًا، وظلالًا بلا أجساد.
ليلى قد تكون واحدة من آلافٍ عبروا الأبواب الخاطئة…
و"نُزل رقم 9"؟… ربما لا يملك اسمًا في الواقع. لكنه ينتظرك. فقط تذكّر: لا تطرق الباب... إن لم تكن مستعدًا للدخول.
النهاية .
Comments