باب الطقوس

الفصل الثالث: باب الطقوس

كان الصمت في الغرفة كثيفًا، حتى أن أنفاس ليلى صارت تصطدم بالهواء وتعود إليها مرتعشة.

الجدران ما عادت كما كانت، فملمسها صار ناعمًا دافئًا، كجلدٍ حيّ يتنفس ببطء... وكأنها لم تعد داخل نُزل، بل في أحشاء كائنٍ ضخمٍ لا يُرى.

كل شيء يضغط على صدرها... الضوء، الجدران، حتى الهواء.

وفجأة، انسحب آدم من أمامها، واختفى كما لو لم يكن هناك.

ومن أحد أركان الغرفة، ارتفعت همهماتٌ غريبة. لم تكن أصواتًا واضحة، بل خليطًا من أنين الريح وتلاوة متقطعة، كأنها صدى قديم يعود من فمٍ مهجور.

من الجدار المقابل، انشقّت فتحة ضيقة، لم تكن هناك قبل لحظات.

خرج منها ضوء باهت بلون العاج المحترق، تنبعث منه رائحة بخور فاسد.

تقدّمت ليلى بخطوات حذرة.

الممر أمامها كان طويلاً، تغطي جدرانه كتابات محفورة بلون داكن، كأنها كُتبت بجمرٍ مطفأ.

حروف لا تنتمي لأي لغةٍ تعرفها... لكنها حملت وزنًا غريبًا، كأن المعاني موجودة في الشعور، لا في التفسير.

> "كُتب عليكِ أن تُختاري، فاختاري ألا تُكتبي من جديد..."

ترددت هذه الجملة فجأة في عقلها، دون أن تُقال. أحست وكأن الجدران نفسها تتكلم.

في نهاية الممر، كان هناك باب خشبي عتيق، تتدلّى منه سلسلة معدنية تنبض بضوءٍ أحمر، كأنها تشتعل من الداخل.

على الباب، وُضعت مرآة دائرية، مشروخة من المنتصف، تعكس صورتها مشوهة.

كانت ليلى تحدّق فيها... فرأت وجهها، لكنه كان يبتسم.

ابتعدت فزعًة.

ثم ظهر آدم مجددًا، واقفًا إلى جانب الباب، لكن دون أن تلاحظ من أين جاء.

قال بنبرة ثابتة، لا تحمل مشاعر:

"هذا هو باب الطقوس... الدخول منه لا يُغيّرك فقط... بل يمحو كل ما كنتِ عليه."

اقتربت منه بخطوة، وغمغمت:

"ماذا يوجد خلفه؟"

ابتسم آدم... لكن ابتسامته لم تصل إلى عينيه.

"نسخة أخرى منكِ... النسخة التي اختارها النُزل."

قبل أن ترد، خرجت العجوز من الظل، عيناها غارقتان في السواد.

"لا تدخلي، ليلى..." قالت، "من يدخل من هذا الباب لا يعود كما خرج... هناك طقوس تُقال، لا تُفهم، لكنها تُنفذ."

أخرجت من عباءتها قطعة قماش رمادية، مطرزة بخيوط سوداء ملتفّة على شكل دوائر متداخلة.

"خذي هذه، إنها تمنع اللمسة الأخيرة... حين يحاول أن يوقّع بداخلكِ."

ليلى سألتها بصوت مرتجف:

"من هو؟"

أجابت العجوز، والهواء من حولها ازداد برودة:

"صاحب النُزل... لا يُرى، لا يتكلم، لكنه يختار. إن وقّع اسمكِ في السجل، تُصبحين من القاطنين... لا الزائرين."

ارتجفت ليلى، لكن يدها اقتربت من مقبض الباب... لم يكن مقبضًا، بل يدًا منحوتة من الحجر، تحمل بقعة دم قديمة.

المرآة على الباب بدأت تلمع.

ثم سمعَت الصوت الذي لن تنساه ما حييت:

> "ليلى... لقد تأخرتِ، والحفل لا ينتظر."

وفي اللحظة التي لامست يدها المقبض، خمد كل شيء.

الضوء... الأصوات... حتى أنفاسها.

وبقي شيءٌ واحدٌ فقط...

صدى ضربة الطبل الأولى.

لكن، هل يمكن لليلى أن تتراجع بعد أن خُتم اسمها؟

لم يكن الصمت مجرد غيابٍ للأصوات، بل أشبه بجدارٍ ثقيل، خنق أنفاس ليلى منذ لحظة ملامستها لمقبض الباب الحجري. شعرت بقشعريرة تسري في جسدها، كأن المكان كله يرفض وجودها.

انفتح الباب ببطء… وحده… دون أن تدفعه.

ظهر ممر قصير ينتهي بغرفة مضاءة بضوء أصفر باهت، ينبعث من مصباح يتدلّى من السقف، يتأرجح كما لو كان على وشك السقوط.

تقدّمت بحذر… لم تُكمل خطوتها الأولى، حتى دوّى صراخ خلفها:

> "ليلى!! لا تدخلي! لن تخرجي من هناك أبدًا!"

التفتت سريعًا… لكن لا أحد.

الغرفة أمامها بدت خالية، بجدران رمادية عليها آثار رطوبة وعفن قديم.

في منتصفها طاولة خشبية قديمة، تحيط بها أربعة كراسي، لا تشبه بعضها، وكأنها جُمعت من أماكن متفرقة.

كانت هناك صور معلقة على الحائط، جميعها بالأبيض والأسود.

رجال ونساء بملامح باهتة، أعينهم تحدق بالكاميرا بجمود مخيف، وكأنهم يعلمون أن أحدًا ما سيحدّق إليهم يومًا في هذا المكان.

اقتربت ليلى من إحدى الصور… فتسارعت دقات قلبها.

في الزاوية، وقف آدم.

شاب في منتصف العشرينات، مظهره أنيق، وعلى ذراعه وشم غريب.

وقفت مذهولة تحدق في الصورة، تتساءل:

> "كيف؟ متى؟ ومن يكون ذلك الرجل بجانبه؟"

أرادت الصراخ، لكن فجأة…

انطفأ المصباح.

الظلام دامس، لم تعد ترى شيئًا.

بردٌ حاد اجتاح المكان، برد لا يشبه الهواء، بل كأن الجدران نفسها تسرق دفء جسدها.

أحسّت بلمسة على كتفها… خفيفة، باردة… كأن الهواء نفسه يهمس لها.

ثم جاء صوت قرب أذنها، بصوت خافت كأنه آتٍ من عالم آخر:

> "وجودك هنا ليس صدفة… الحقيقة تحتاج دمًا كي تُفهم."

شهقت وتراجعت، بحثت بيدها عن الباب… اختفى.

تذكرت قطعة القماش الرمادية التي أعطتها لها العجوز. أخرجتها بسرعة وضمّتها إلى صدرها، كأنها الملاذ الأخير من السقوط في الجنون.

في تلك اللحظة…

انفتح الباب تلقائيًا.

دخل ضوء خافت، كاشفًا عن آدم واقفًا عند العتبة.

لكنه بدا متعبًا، عيونه منهكة، ووجهه فقد لونه.

قال بهدوء:

> "ما كان يجب أن تدخلي… هذا المكان لا يرحم من يشبهك."

اقتربت منه، تمسك بأمل صغير في صوت مألوف: "آدم، قل لي الحقيقة… من أنت؟"

نظر إليها، ثم إلى الطاولة، وقال بصوت منخفض:

> "كنت مثلك. دخلت هذا المكان قبل خمس سنوات… ولم أخرج."

شعرت بجسدها يتجمد، لكنه تابع:

> "صاحب النُزل لا يستخدم السحر فقط… بل الذنب. يستدرجنا لنترك شيئًا خلفنا… ثم نُصبح جزءًا من المكان."

سألته، وعيناها تشتعلان بخوف متداخل مع فضول: "لماذا أنا؟ لماذا اختارني؟"

أجاب بصوت مشوب بالندم:

> "لأنك زهرية."

صمتت… الكلمة لم تكن غريبة عنها تمامًا، لكنها لم تفهم معناها بوضوح.

"ما معنى هذا؟" سألت.

"أنتِ من الأشخاص الذين تجذبهم الطاقات… النُزل يشمّك من بعيد. ما إن تخطّي بابه، حتى يبدأ بقراءة ماضيك… ويختار طريقتك في الانهيار."

رنّ هاتف قديم كان على الطاولة… مرة واحدة فقط… ثم ساد الصمت.

اقترب آدم، رفع السماعة، صمت لحظات… ثم تغير وجهه.

همس بنبرة قلق:

> "يجب أن نخرج… الآن!"

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon