الخميرة السوداء
^^^استيقظت ليان عند الخامسة إلّا قليلًا. نهضت بصمت، ارتدت مئزرها الكتاني، وجمعت شعرها البرتقالي في عقدةٍ ضيقة لا مجال فيها للترف.^^^
^^^الفرن ينتظر.^^^
^^^المخبز غارقٌ في السكون، أشبه بسرّ مدفون في صدر المدينة، لا يوقظه ضوء ولا رائحة.^^^
^^^أخرجت المفتاح من جيبها.^^^
^^^دارت أسنان المعدن في قفل الباب القديم، فأنفتح بتنهيدة خشنة.^^^
^^^“الخميرة السوداء”^^^
^^^اسم لا يُخطئه أحد في الحيّ، وذكرى متجذّرة منذ الثمانينات.^^^
^^^كان الأكبر، والأشهر، وربّما الأكثر غموضًا.^^^
^^^خبزه يُعرف بانتفاخه، وحلواه مشهورة بكريمة الفانيلا… البيضاء الناعمة، كأنها تُخفي شيئًا ما.^^^
^^^أضاءت المصابيح الأربعة.^^^
^^^امتدّ الضوء على الرفوف، الجرار، طاولة العجن، كأنّه يُلقي بشكّه على الأشياء لا نوره.^^^
^^^وبينما كانت تتفقد المكان، لمحت شيئًا ينساب أمام عينيها.^^^
^^^تقدّمت.^^^
^^^نظرت خلف الخزانة التي تُخزّن فيها السكاكين… لا شيء.^^^
^^^ذهبت إلى الفرن الطيني. فتحته.^^^
^^^الفحم متكدّس، محترق، يبعث رائحةً كأنها نُبذت من صدر الموت.^^^
^^^قالت بهدوء خافت:^^^
^^^“لماذا يُلقى على عاتقي دومًا تنظيف الفرن؟… رائحته كالمقابر.”^^^
^^^أحضرت الكيس من الزاوية، وبدأت تفرغ الرماد الأسود داخله دون تذمّرٍ ظاهر، كمن يُمارس طقسه اليومي.^^^
^^^لم تكد تنتهي حتى فُتح الباب بقوة.^^^
^^^دخلت عمتها، بثيابها الداكنة المعتادة، وعيناها لا تحملان سوى التوقيت.^^^
^^^– “ألم تنتهي بعد؟ علينا أن نبدأ قبل أن تُعلن الساعة السادسة.”^^^
^^^قالت ليان وهي تغلق كيس الفحم:^^^
^^^– “إنها الرابعة والنصف فقط. استعجالك يصنع من الصباح فوضى.”^^^
^^^– “العمل لا ينتظر من يتأمل. المخبز سيكون لكِ يومًا، ولن يعصمك من فشلك سوى السرعة والإتقان. الزبون لا يحب الانتظار.”^^^
^^^– “ألم تخبزي البارحة؟ رائحة الفحم تشعل حلقي. لماذا لا نستخدم الحطب؟”^^^
^^^– “الحطب…! طعمه أطيب، نعم. لكنه يتطلب وقتًا، ويبعث دخانًا لا فائدة منه. الفحم عمليّ. لا تجادلي فيما لا نملك تغييره.”^^^
^^^– “تعاملين المخبز كما لو أنه شيء مقدّس. تعلمت منك كل شيء، ومع ذلك، لا أزال تحت المراقبة.”^^^
^^^– “المراقبة؟ بل عينٌ تخاف عليكِ من أن تحترقي كما احترق من سبقك.”^^^
^^^– “الشهر المقبل أبلغ الثانية والعشرين… وأظن أنّ الوقت قد حان لأُفكر في فارس أحلامي، لا فقط في درجة حرارة الفرن.”^^^
^^^– “أشبعي الجوع أولًا، ثم تكلّمي عن العاطفة. الرجل لا يحب الجوع ولا الانتظار. وهذا سرّ لن تجديه في الكتب.”^^^
^^^– “هل وجدتِ أنتِ ذلك الرجل؟”^^^
^^^– “وجدته. ثم فقدته. وتعلمتُ أن الصبر لا يكون فقط في الحب، بل في خسارته أيضًا.”^^^
^^^قالت ليان وهي تمسح عرقها:^^^
^^^“لم أفقد أحدًا بعد. لكن الفحم وحده يكفي ليعلّمني ما يعنيه الصبر.”^^^
^^^مرت ساعتان ثقيلتان، ثم خلعت عمتها المئزر وقالت:^^^
^^^– “سأخرج. اهتمي بالمخبز.”^^^
^^^– “إلى أين؟”^^^
^^^– “إلى مونيكا. أريد ثوبًا جديدًا.”^^^
^^^خرجت كعادتها، تترك ليان وحدها، وتغيب بحجج تُشبه الحقيقة لكنها لا تُلامسها.^^^
^^^لحضات بعد ان خرجت.^^^
^^^دخل شاب في العشرينات، ملامحه هادئة، صوته عميق:^^^
^^^– “آنستي، هل تعرفين رجلًا يُدعى كارس ميلان؟ عجوز، يعمل في محلّ الأحذية؟”^^^
^^^– “نعم. منزله مقابل بائع الخضار، أول شارع على اليسار. إن لم تجده، اترك له رسالة على الباب.”^^^
^^^– “شكرًا. لن أنسى جميلك.”^^^
^^^– “بالتوفيق.”^^^
^^^خرج الشاب، وبقيت هي.^^^
^^^جلست أمام الزجاج، تتأمل الشارع.^^^
^^^الناس يمرّون، ولا أحد يشتري.^^^
^^^“ترى، لِمَ لا يدخل أحد…؟”^^^
^^^وفجأة، صوت غريب من الغرفة المبردة.^^^
^^^ركضت.^^^
^^^كانت القطة الرمادية مجددًا، تقفز بين الصناديق، تبحث عن شيء للأكل ^^^
^^^– “أيتها الجشعة…”^^^
^^^أمسكت المكنسة، طاردتها حتى أخرجتها من الشباك.^^^
^^^وقبل أن تغلقه، لمحت شيئًا سقط منها.^^^
^^^قلادة.^^^
^^^صغيرة، سوداء، يتدلّى منها اسم غير مفهوم، حروف غريبة كأنها نُقشت في ليلٍ بلا قمر.^^^
^^^وضعتها في جيبها وثم نظفت المكان.^^^
Comments