التاج The Crown
الفصل الأول: "شرارة البداية"
في قلب قارة لافيتيريا الشاسعة، حيث تتشابك خيوط القدر بين ممالك عظيمة وإمبراطوريات عريقة، كانت الأجواء مشحونة بترقب غامض. لم يكن أحدٌ ليتخيل أن السلام الهش الذي عمّ القارة لسنوات طويلة على وشك أن يتحطم إلى أشلاء. في الشرق، كانت إمبراطورية دراكونيا العظمى، كالصقر الجارح، تراقب أراضيها المترامية الأطراف بعين يقظة، قوتها العسكرية لا تُضاهى، ونفوذها يمتد عبر الأراضي الخصبة والجبال الشاهقة. يحكمها الإمبراطور فيريديان، رجل ذكي وحاذق، يملأه الفخر بإمبراطوريته العظيمة، وتتوق نفسه للتوسع، ليزيد من رقعة نفوذ دراكونيا. عاصمة إمبراطوريته، دراكونيا العظمى، كانت مركزًا للحكم والقوة، حيث يرتفع عرين التنين الذهبي شامخًا، كرمز لسطوة الإمبراطورية.
شمالًا، حيث تتربع مملكة آيسغارد، عملاقٌ هادئٌ تحميه سهول الجليد الأبدية، كانت الحياة تسير بوتيرة بطيئة، سكانها اعتادوا على قسوة الطبيعة وصلابتها، مما جعلهم محاربين أشداء عند الحاجة. أما في الوسط، فكانت تنبض الحياة في مملكة سيلفانيا الخضراء، موطنًا للغابات الكثيفة والأنهار المتدفقة. يحكمها الملكة أوريليا، عذراء الغابة، وهي شخصية محايدة معروفة بحكمتها وعلاقاتها الوثيقة بالطبيعة، وتسعى للحفاظ على التوازن. وإلى الجنوب الغربي، تمتد فيونوريا بحدودها المتشابكة، حيث تلامس أطراف مملكة فولكان ذات الجزر الـ 133. يحكم فيونوريا الملك إيلاريون، وفي عاصمتها عين الصقر، تقع قلعة عين الصقر الحصينة.
تلك الممالك، رغم اختلافاتها الجوهرية، كانت تعيش في حالة من التوازن المعقد، تتشابك مصالحها وتتداخل علاقاتها الدبلوماسية والتجارية، في شبكة دقيقة من التحالفات والتوترات الكامنة. كانت دراكونيا وفيونوريا تشتركان في حدود صغيرة، منطقة سهلية رائعة الجمال تُعرف باسم سهول السُم، وذلك بسبب الزهور النادرة التي تنمو فيها وتحتوي على سموم قوية، كانت هذه المنطقة نقطة عبور حيوية بين الإمبراطوريتين، وشاهدة صامتة على التوترات الدائمة بينهما.
صدى الغضب في عرين التنين الذهبي
اهتز عرين التنين الذهبي من أساسه. خبر اغتيال الأمير كاليغار، الأمير الثالث لدراكونيا، في بعثة دبلوماسية إلى فيونوريا، كان كالصاعقة التي ضربت صميم الإمبراطورية. جلس الإمبراطور فيريديان في قاعة العرش، على كرسي التنين العظيم، وعيناه تشتعلان غضبًا لم يعهده أحد من قبل. لم يكن هذا مجرد اغتيال، بل كان إهانة لسيادة دراكونيا، وطعنة في كبريائها.
"لم نكن لنتخيل هذا القدر من الوقاحة!" زمجر الإمبراطور، وصوته يتردد في القاعة الفسيحة، حيث كان يقف إلى جانبه مستشاروه المقربون. مالغور، كبير السحرة، المعروف بدهاءه وعمق بصيرته، كان يقف صامتًا، يداه متشابكتان خلف ظهره، وعيناه الزرقاوان تراقبان تعابير الإمبراطور بدقة. إلى جانبه، كان يقف السيناتور كاسيان، رجل المهام الصعبة الصلب والجلف، وجهه خالٍ من أي تعبير، لكن قبضته كانت مشدودة.
"فيونوريا تظن أنها تستطيع أن تفلت بفعلتها هذه؟" أضاف الإمبراطور، وهو يضرب بقبضته على مسند العرش الذهبي. "ابني... كاليغار! كان في مهمة سلام، وقد ردوا على كرمنا بالغدر!"
تقدم مالغور خطوة، وبصوته الهادئ الذي يحمل نبرة من السحر، قال: "مولاي، لقد أرسل الملك إيلاريون وفداً فورًا. يدعون البراءة ويقدمون اعتذارهم، ويعدون بتحقيق شامل."
ضحك فيريديان ضحكة باردة خالية من الفكاهة. "اعتذار؟ وهل يعيد الاعتذار ابني؟ وهل يغسل عار إمبراطوريتي؟ لقد أرسلوا لنا تحقيقاتهم، وهي محض هراء! ادعاءات سخيفة عن لصوص طريق أو حوادث عابرة. هل يظنوننا أغبياء؟"
"لقد تم العثور على الدليل، مولاي." تدخل كاسيان بصوته الأجش. "خنجر عليه نقش إحدى العوائل النبيلة الفيونورية، عائلة لوسيان تحديدًا. عُثر عليه بالقرب من جثة الأمير، مدسوسًا بطريقة توحي بأنه تركه الجاني متعمدًا أو في عجلة من أمره. هذا لا يدع مجالًا للشك."
تجمد مالغور للحظة، ثم أومأ برأسه ببطء، وكأنما يؤكد المعلومة، رغم أن شيئًا في أعماقه كان يخبره بأن الأمور ليست بهذه البساطة. الإمبراطور فيريديان ألقى نظرة سريعة على كاسيان، ثم عاد بتركيزه إلى مالغور. "هل هذا يرضي شكوكك يا مالغور؟"
"الدليل دامغ، مولاي." أجاب مالغور بنبرة حيادية، لكن بصيصًا من القلق لم يفارقه. "لكن طرق فيونوريا معروفة بحذرها. مثل هذا العمل المتهور... قد يكون له عواقب وخيمة عليهم."
ابتسم فيريديان ابتسامة خفيفة، لكنها لم تصل إلى عينيه. "ربما ظنوا أنهم أذكى منا. أو ربما هذه هي فرصتنا، يا مالغور، لتذكير الجميع بمن هو سيد هذه القارة. لقد حان الوقت لإعادة ترتيب الخريطة. لقد سئمت من هذا التوازن الهش."
بينما كانت الكلمات تخرج من فم الإمبراطور، كان الجنود يتجمعون خارج القصر، أزيز السيوف يُسمع من بعيد، وقادة الجيوش يستعدون للتحرك. كانت الأوامر واضحة: التعبئة الشاملة. حربًا ضد فيونوريا.
قلعة عين الصقر: اليأس والتحقيق المكلل بالشك
في عين الصقر، عاصمة فيونوريا، كانت الأجواء مختلفة تمامًا. لم يكن هناك غضب، بل صدمة ويأس ممزوج بالخوف. داخل قلعة عين الصقر، كان الملك إيلاريون، وهو رجل معروف بحكمته وتفضيله للسلام، يتلقى التقارير باستمرار. وجهه شاحب، وعيناه تعكسان الإرهاق.
"لا يمكن أن يكون ذلك!" صرخ الملك إيلاريون وهو يمسك برأسه بين يديه. "قتل الأمير كاليغار؟ وفي أراضينا؟ هذا جنون محض! من يمكن أن يفعل شيئًا كهذا؟"
قرب الطاولة المستديرة في غرفة الحرب، كانت تقف سيلينا، كبيرة المخططين، وهي امرأة ذات عقل حاد ونظرة ثاقبة. كانت تحرك قطعًا خشبية على خريطة كبيرة تمثل لافيتيريا، بينما كانت ملامحها تعكس تركيزًا شديدًا. إلى جانبها، كان الجنرال فاليريان، قائد الجيوش الفيونورية، رجل ذو بنية قوية ووجه محفور بالتجارب العسكرية.
"مولاي، تحقيقاتنا الأولية لم تثبت أي تورط مباشر لنا." قال الجنرال فاليريان، وصوته ينم عن القلق. "لقد أرسلنا وفودنا، قدمنا الأدلة، وفتحنا أراضينا للمحققين الدراكونيين."
"لكنهم رفضوا كل شيء!" قالت سيلينا، وهي تضرب على الخريطة بقوة. "لقد عثروا على خنجر، خنجر يحمل نقش عائلة لوسيان النبيلة. هذا هو دليلهم الوحيد. هل جن جنون اللورد لوسيان ليرتكب مثل هذه الحماقة؟ عائلة لوسيان معروفة بولائها للتاج. كما أنها من أغنى العائلات ولديها مصالح تجارية ضخمة مع دراكونيا. لماذا يخاطرون بكل شيء؟"
"هل تم استجواب اللورد لوسيان؟" سأل الملك إيلاريون بلهفة.
"بالطبع، مولاي." أجاب الجنرال فاليريان. "لقد أصر على براءته وبراءة عائلته. وحتى عندما عثر المحققون الدراكونيون على الخنجر، ادعى أنه فُقد منذ أسابيع. لكنهم لم يصدقوه."
"بالطبع لن يصدقوه!" قالت سيلينا بنبرة مريرة. "الأمر لا يتعلق بالدليل الحقيقي، بل بالذريعة. فيريديان يريد حربًا. لقد كان يتوق للتوسع منذ سنوات. حدودنا المشتركة في سهول السُم كانت دائمًا نقطة احتكاك. الآن وجد حجته."
ساد صمت ثقيل في الغرفة، لم يقاطعه سوى صوت الرياح التي تضرب نوافذ القلعة. أدرك الجميع فداحة الموقف. الحرب قادمة، وهذه المرة، دراكونيا لديها ذريعة قوية، بغض النظر عن حقيقتها.
"ماذا سنفعل؟" سأل الملك إيلاريون، نظرته تتنقل بين فاليريان وسيلينا.
"علينا أن نستعد، مولاي." أجاب فاليريان بصرامة. "علينا أن نحصّن دفاعاتنا، ونعلن التعبئة العامة. دراكونيا قادمة بقوتها الكاملة."
"وعلينا أن نبحث عن تحالفات." أضافت سيلينا، عيناها مثبتتان على الخريطة، تحدق في مملكة سيلفانيا شمالًا. "ملكة أوريليا... قد تكون أملنا الوحيد."
الهمسات في غابات سيلفانيا
في غابات سيلفانيا الخضراء، حيث تتراقص أشعة الشمس بين الأوراق، كانت الملكة أوريليا، عذراء الغابة، تشعر باضطراب في نسج الحياة. لم يصلها الخبر بعد بشكل رسمي، لكن همسات الرياح وأغاني الطيور المتغيرة كانت تحمل لها أنباء الشر القادم.
كانت تجلس تحت شجرة بلوط عظيمة، تحيط بها حيوانات الغابة، وجهها الهادئ يعكس قلقًا عميقًا. لم تكن تحب الصراعات، وكانت تسعى دائمًا للحفاظ على التوازن الطبيعي للقارة.
"الظلال تزداد كثافة يا رفاقي." همست أوريليا للحيوانات المحيطة بها. "أشعر بالدم يفوح في الهواء، برائحة الحديد. حرب قادمة... وستلتهم كل شيء في طريقها."
كانت أوريليا تعلم أن دراكونيا قوية، وأن طموح الإمبراطور فيريديان لا حدود له. كما أنها كانت تدرك أن فيونوريا لم تكن لتكون غبية بما يكفي لقتل أمير في مهمة دبلوماسية على أراضيها. شيء ما كان خطأ، وشيء ما كان خفيًا.
وصلتها رسالة عاجلة من أحد حراس الحدود، تخبرها باشتعال التوترات بين دراكونيا وفيونوريا، وبدء التعبئة العسكرية على نطاق واسع. تأكدت أوريليا أن القارة على وشك الانجراف في صراع لم تشهد مثله من قبل. لم تكن مملكتها العسكرية قوية بما يكفي لمواجهة إمبراطورية كدراكونيا، لكنها كانت تمتلك شيئًا آخر: الحكمة، والبصيرة، والقدرة على رؤية ما وراء الظاهر.
وقفت أوريليا، وعيناها تحدقان في الأفق البعيد، حيث تلوح قمم جبال دراكونيا الشاهقة. "يجب أن نتدخل. يجب أن نفهم ما يحدث حقًا، قبل أن تبتلع النيران كل شيء." كانت الكلمات همسة، لكنها حملت تصميمًا لا يتزعزع.
كانت لافيتيريا على شفا الهاوية، والتوترات تتصاعد مع كل نفس. كانت سهول السُم تستعد لاستقبال جيوش الجانبين، بينما كانت الظلال الخفية تتراقص، تخبئ وراءها حقيقة أكثر قتامة مما يتخيله أي ملك أو جنرال.
Comments