...مرت الأيام التالية ببطء شديد بالنسبة لجوهيوك، وبسرعة مذهلة بالنسبة لنارينا. كانت نارينا غارقة في دراستها ومتطلبات التدريب بمكتب المحاماة الخاص بصديق جوهيوك المقرب، لكن كلما سنحت لها لحظة فراغ، كانت تجد نفسها تفكر في رئيس شركة سيو المعمارية الضخمة، ذو العينين الجادتين والابتسامة النادرة. أما هو، فكانت كل ساعة تمر تقربه خطوة من موعده معها....
...في مساء اليوم التالي، وكما وعد، اتصل جوهيوك بنارينا. كان صوته هادئًا وواثقًا، لكن نارينا التقطت لمسة من الترقب والحماس في نبرته. اتفقا على العشاء ليلة الجمعة في أحد المطاعم الراقية بوسط مدينة طوكيو، وهو مكان يشتهر بأجوائه الفاخرة وإطلالته الساحرة على أضواء المدينة المتلألئة....
...ليلة الجمعة......
...كانت أضواء طوكيو تتلألأ كشبكة من المجوهرات المتناثرة أسفل المطعم. اختارت نارينا فستانًا بسيطًا وأنيقًا يبرز قوامها الرشيق، وشعرت ببعض التوتر الممزوج بالإثارة وهي تدخل المطعم الفاخر. لم يمض وقت طويل حتى لمحته جالسًا على طاولة بجانب النافذة، يرتدي بدلة داكنة مصممة بعناية زادت من وسامته وهيبته كرئيس لشركة عملاقة. كانت ملامحه الجادة تخفي لمعانًا خفيفًا من الإعجاب في عينيه عندما رآها تقترب....
...وقف جوهيوك على الفور، وابتسامة دافئة رسمت على شفتيه، ابتسامة أصبحت الآن أقل خجلًا وأكثر دفئًا في وجودها. "مرحبًا نارينا، تبدين رائعة الليلة." كانت نبرته هادئة لكنها تحمل إعجابًا واضحًا. سحب لها الكرسي بإيماءة مهذبة وعناية فائقة. "أتمنى أن المكان يعجبكِ."...
...جلست نارينا، وشعرت بخدها يحمر قليلاً من مجاملته الصادقة التي لم تتوقعها. "مرحبًا بكَ أيضًا جوهيوك. وأنتَ أيضًا تبدو... أنيقًا ورائعًا. المكان جميل جدًا، والإطلالة مذهلة!" ألقت نظرة سريعة على طوكيو المتلألئة أسفلها، ثم عادت بنظرها إليه، شعرت بالراحة التي كانت تنمو بينهما. "شكرًا لك على اختيار هذا المكان."...
..."يسعدني أنكِ أحببته يا نارينا." قال جوهيوك وهو يضع يده على الطاولة بالقرب من يدها، دون أن يلمسها، وكأنه يكتفي بقربها. "أعتقد أن هذه الليلة يجب أن تكون مخصصة للاحتفال. احتفال بالفرص الجديدة، وربما... بداية صداقة رائعة ومميزة." عاد إلى نبرته الهادئة، لكن عيناه كانتا تتأملان وجهها بتمعن وشوق. "ماذا تحبين أن تطلبي؟ لنبدأ الليلة بطعم جيد."...
...نظرت نارينا إلى قائمة الطعام الأنيقة التي وضعها النادل أمامهما، ثم رفعت عينيها نحو جوهيوك بابتسامة خفيفة. "مممم، كل شيء يبدو شهيًا للغاية. لكنني أعتقد أنني سأختار... طبق السوشي المشكل. لا يمكن أن تخطئ في السوشي في طوكيو، أليس كذلك؟" ثم أضافت بمرح: "وماذا عنك يا جوهيوك؟ هل لديك طبق مفضل هنا، أم ستفاجئني باختيارك؟"...
...ابتسم جوهيوك ابتسامة واسعة، وقد بدت عيناه تضيئان ببعض المرح. "اختيار ممتاز يا نارينا! السوشي هنا لا يُعلى عليه. أما أنا... حسناً، ربما سأتبع حدسي الليلة. هناك طبق 'ساكانا نو نيتسوكي' الخاص بهم، وهو سمك مطهو على الطريقة اليابانية... إنه رائع." ثم مال قليلاً نحوها، وكأنما يشاركها سرًا. "لكن بصراحة، ما أفضله هو متابعة تعابير وجهكِ وأنتِ تتذوقين الأطباق الجديدة. هذا بحد ذاته تجربة ممتعة."...
...شعر خد نارينا بالدفء مرة أخرى عند مجاملته، لكنها ضحكت بخفة، محاولة إخفاء خجلها. "هذا... هذا مثير للاهتمام! سأحاول ألا أظهر أي ردود فعل مبالغ فيها إذن." عادت إلى نبرتها الجادة قليلاً، ولكن بلمسة ودودة. "بالمناسبة، لم تُتح لنا الفرصة للحديث عن عملك بالهندسة المعمارية بشكل أعمق في المقهى. قيادة شركة بهذا الحجم في طوكيو... هذا أمر مثير للإعجاب حقًا. هل هو أمر كنت تحلم به منذ صغرك، أم أنك وجدت شغفك به لاحقًا؟"...
...استمع جوهيوك إليها باهتمام، ثم أومأ برأسه بتفكير. "إنه سؤال جيد يا نارينا. في الواقع، لم يكن حلم طفولة بالمعنى التقليدي. لطالما أحببت البناء والإنشاء، ولكن حجم الشركة ومسؤولياتها جاءت لاحقًا." اتكأ على كرسيه، ونظر إلى أضواء طوكيو المتلألئة خارج النافذة للحظة. "لقد بدأت بشغف بسيط نحو تحويل الأفكار إلى واقع، نحو رؤية التصاميم على الورق تتحول إلى مبانٍ يمكن للناس أن يعيشوا ويعملوا فيها. ومع كل مشروع، كبر الطموح، وكبرت المسؤولية. الأمر لا يتعلق فقط بالهياكل الخرسانية والفولاذية، بل يتعلق بخلق مساحات تؤثر في حياة الناس، وتحكي قصصًا صامتة عن التقدم والجمال."...
...عاد بنظره إليها، وعيناه تحملان وهجًا من العاطفة. "أعتقد أن هذا الجانب من عملي، خلق شيء يدوم ويترك أثرًا إيجابيًا، هو ما يربطني بما قلتِه أنتِ عن العدالة وإحداث الفرق. نحن نهدف إلى بناء أسس متينة، سواء كانت للمجتمع أو للهياكل المعمارية."...
...شعر قلب نارينا ببعض الدفء عند كلماته، وامتلأت عيناها بنظرة فهم وتقدير. لأول مرة في حياتها، ورغم الاختلاف الظاهري في طبقتهما الاجتماعية، شعرت أن أفكارهما تتشابك بطريقة عميقة وغير متوقعة. لم يبدُ كنوع الشباب الأغنياء الوقحين والأنانيين الذين سمعت عنهم، بل بدا متواضعًا ومسؤولًا بشكل لافت....
..."هذا... هذا ربط رائع حقًا يا جوهيوك." قالت نارينا بصوت هادئ، وعيناها مثبتتان عليه، تعكسان دهشتها وارتياحها. "لم أفكر أبدًا في الهندسة المعمارية بهذا العمق، لكنك محق. كلا المجالين، القانون والعمارة، يسعيان لإرساء أسس، سواء كانت للعدالة أو للمساحات التي نعيش فيها. وكلاهما يمكن أن يترك أثرًا يدوم."...
...توقفت للحظة، ثم أضافت بتفكير: "أعتقد أن هذا الشغف المشترك بخلق شيء ذي معنى، شيء يخدم الناس ويدوم، هو ما يجعل عملنا أكثر من مجرد مهنة. إنه... رسالة بطريقة ما. هذا ما يجعلني أستيقظ كل صباح وأنا متحمسة للذهاب إلى المكتب."...
...ابتسم جوهيوك بصدق، وشعر بقلبه يخفق بارتياح كبير. لقد فهمته. لقد تجاوزت السطح ورأت العمق في كلماته. "بالضبط يا نارينا! رسالة... هذا وصف دقيق جدًا. إنها ليست مجرد أرقام وتصاميم، أو نصوص قانونية جافة، بل هي مسؤولية تجاه المجتمع والأجيال القادمة."...
...ارتشف من كأسه، ثم مال قليلًا، بنبرة أكثر حميمية. "وأن أجد شخصًا يفهم هذا الشعور بهذه السهولة، بهذا العمق... هذا نادر جدًا. يجعلني أتساءل، هل هذه هي المرة الأولى التي تجلسين فيها هكذا وتتحدثين عن هذه الجوانب العميقة من حياتك؟ أم أنكِ تتحدثين عن شغفك بهذه الطريقة مع الكثيرين؟" كانت عيناه تستقران عليها، تحملان فضولًا ممزوجًا ببعض الأمل الخفي....
...شعرت نارينا بقلبها ينبض بخفة. كانت تكره الكذب والنفاق، وكانت ترغب في أن تكون صادقة تمامًا معه، خاصة بعد هذا التفاهم الذي تشكل بينهما. لكنها خافت أن يُساء فهم صراحتها كدليل على إعجاب رومانسي، بينما بالنسبة لها، الراحة التي شعرت بها معه كانت مجرد أساس لبناء أي شعور أعمق، وليس هي نفسها الإعجاب. إنها ليست شخصًا مندفعًا في الحب بقلبها، بل لديها أساسيات عقلانية تسبق تقبل قلبها لأي مشاعر....
...نظرت إليه نارينا بعمق، ثم أزاحت نظرتها للحظة نحو أضواء طوكيو المتلألئة، ثم عادت إليه، وابتسامة خفيفة، لكنها صادقة، ارتسمت على شفتيها. "سأكون صادقة معك يا جوهيوك." قالت بصوت هادئ، ممزوج ببعض التأمل. "أنا لا أتحدث عن هذه الجوانب العميقة من نفسي مع الكثيرين. في الواقع، لم يحدث أن جلست وتحدثت بهذا الشكل مع أي شخص من قبل، وخاصة عن أحلامي ودوافعي الحقيقية."...
...توقفت للحظة، ثم أضافت بوضوح ودفء: "الراحة التي شعرت بها وأنا أتحدث معك اليوم، وفي المقهى أمس، هي... شيء جديد بالنسبة لي. وهذا هو السبب في أنني منفتحة للحديث معك بهذا الشكل. إنه شعور لطيف جدًا، وأنا أقدره."...
...ظل جوهيوك يحدق بها، وعيناه لا ترمشان، يمتص كل كلمة. بدا أن الصدق في صوتها قد أثر فيه بعمق. رغم مظهره الخارجي الذي يوحي بالصلابة والجفاء كقوالب الإسمنت التي يتعامل معها في عمله، إلا أن داخله كان طفلًا فقد حنان والديه. أمه التي كرهت زواجها ووالده ولم تهتم بالطفل الذي ولدته حتى ماتت، ووالده الذي كان قاسي القلب ورباه بطريقة جافة وباردة. لهذا، تعلق بدفء وصدق نارينا كطفل يبحث عن الحب والحنان....
..."هذا... هذا شرف كبير لي يا نارينا." قال جوهيوك بصوت خافت، يكاد يكون همسًا، وقد بدت عيناه اللتان كانتا قاسيتين في غالب الأحيان تلمعان بصدق نادر، وكأن جدارًا قد انهار بداخله. "أن أكون أول شخص تفتحين قلبكِ له بهذه الطريقة... يعني لي الكثير جدًا." لقد فهم رسالتها، رسالة عن الراحة والثقة، وليست بالضرورة إعجابًا عاطفيًا مباشرًا، لكن هذا لم يقلل من وقع كلماتها عليه. بل زاد من تعلق روحه التي تشعر بالوحدة بدفئها الصادق....
...مال جوهيوك أكثر نحوها، متجاهلاً النادل الذي مر بجوارهما. "أنا... أنا أقدر صدقكِ هذا أكثر مما تتخيلين. ربما... ربما لهذا السبب أشعر بهذا الارتياح العميق معكِ أيضًا. نادرًا ما أجد شخصًا... شخصًا بهذه الشفافية وهذا النقاء." كانت كلماته تأتي وكأنها تخرج من مكان عميق فيه، مكان لم يُسمح لأحد بالوصول إليه من قبل. "أريد أن أكون شخصًا يمكنكِ أن تستمري في الشعور بهذه الراحة معه، يا نارينا. أن أكون... ملاذًا لهذه الأحاديث الصادقة."...
...تأملت نارينا كلماته، وشعرت أن قلبها يخفق بإيقاع مختلف. كان صوته يحمل ضعفًا لم تكن تتوقعه من رجل بمكانته، وكان هذا الضعف هو ما جعلها تشعر بنوع من الارتباط العميق به. لقد استشعر وحدته، وحاجته للحنان، وهو ما لمس وترًا حساسًا بداخلها كفتاة عاشت هي الأخرى وحيدة. لم تكن تريد أن تندم لاحقًا على عدم إعطاء فرصة لشيء قد يكون فريدًا وجميلًا....
...رفعت نارينا يدها بهدوء، ووضعتها فوق يده التي كانت تلامس حافة الطاولة، في لمسة خفيفة وعابرة لكنها مليئة بالمعنى. ابتسامتها كانت دافئة وصادقة، تعكس قبولًا وهدوءًا. "أعتقد أنني أيضًا أرغب في ذلك يا جوهيوك." قالت بصوت خافت، عينيها مثبتتين على عينيه. "أنا... أنا أقدر كونك صادقًا معي إلى هذا الحد. وأنا مستعدة لمنح هذه العلاقة... فرصة. فرصة لنرى إلى أين يمكن أن تأخذنا هذه الراحة وهذا الصدق الذي نتشاركه."...
...لم تسحب يدها على الفور، تاركة لمستها الخفيفة تتردد لثوانٍ معدودة قبل أن تسحبها بلطف. كانت تلك اللحظة كافية لنقل رسالة واضحة: هي مستعدة، ولكنها تتخذ خطواتها بحذر، بوعي وعقلانية، دون اندفاع....
...شعر جوهيوك بلمستها كصدمة كهربائية دافئة تنتشر في جسده. عيناه اتسعتا للحظة من الدهشة النقية، ثم امتلأتا بوهج لامع من السعادة والأمل. لقد فهمها تمامًا. لمسة لم تكن وعدًا بالحب، بل إشارة إلى الثقة والاستعداد للمضي قدمًا....
..."فرصة... فرصة رائعة يا نارينا." قال بصوت متقطع بالكاد، ابتسامة عريضة وصادقة رسمت على وجهه. لم يكن يعلم أن مثل هذا الدفء وهذا القبول يمكن أن يوجدا في حياته. كانت كلماتها كالمطر الذي يروي أرضًا جافة. "أعدكِ أنني لن أخذلكِ. سأحرص على أن يكون هذا... شيئًا يستحق كل لحظة."...
...بعد تلك اللحظة التي تبادلا فيها وعدًا صامتًا، خف التوتر بينهما بشكل ملحوظ. ساد الحوار حول مواضيع أخف وأكثر متعة. تحدثا عن الأفلام المفضلة، والأماكن التي يودان زيارتها في طوكيو، وحتى عن الطقوس اليومية البسيطة التي يتبعونها. ضحكت نارينا بخفة عدة مرات، واستمتعت برؤية جوهيوك يبتسم ابتسامات عريضة صادقة لم تكن لتتصورها عليه في البداية....
...مع وصول طبق الحلوى، التفت جوهيوك إلى نارينا بنظرة يملؤها الدفء. "لقد كانت هذه الليلة... أفضل بكثير مما توقعت يا نارينا. كل دقيقة قضيتها في الحديث معكِ كانت ممتعة للغاية."...
...ابتسمت نارينا بامتنان. "استمتعت كثيرًا يا جوهيوك. حقًا، لقد مر الوقت بسرعة مذهلة."...
..."بالفعل." قال جوهيوك، ثم أخذ نفسًا عميقًا. "أعلم أن هذا قد يكون سابقًا لأوانه، ولكن هل... هل تسمحين لي باصطحابكِ في نزهة صباحية خلال عطلة نهاية الأسبوع؟ هناك حديقة جميلة جدًا على بعد مسافة قصيرة من هنا، تكون هادئة تمامًا في الصباح الباكر، وأظن أنكِ ستحبينها." كان صوته يحمل ترقبًا خفيًا، وكأن قبولها لهذه النزهة سيؤكد له ما بدأت هذه الليلة ببنائه....
...نظرت نارينا إليه، وابتسامة مشرقة ارتسمت على شفتيها. تذكرت حديثهما في المقهى عن تقديرها للحظات الهدوء والبساطة، وعلمت أنه يتذكر. "أحب ذلك كثيرًا يا جوهيوك. حديقة هادئة في الصباح الباكر تبدو فكرة رائعة."...
...أضاء وجه جوهيوك بسعادة لا تُوصف. "ممتاز! سأكون في غاية السعادة. سأتصل بكِ غدًا لتأكيد التفاصيل، ما لم يكن لديكِ اعتراض."...
..."لا اعتراض على الإطلاق." أجابت نارينا، وشعرت أن قلبها يخفق بسعادة خفية....
...بعد أن دفع الفاتورة، نهض جوهيوك وسحب كرسي نارينا لها. مشيا جنبًا إلى جنب نحو مخرج المطعم، ثم إلى الخارج حيث الهواء البارد في طوكيو ليلاً كان منعشًا. عندما وصلا إلى سيارته الفاخرة، فتح لها الباب بلطف. "شكرًا جزيلاً لكِ على هذه الليلة يا نارينا. أتطلع لصباح نهاية الأسبوع."...
..."شكرًا لكَ أنتَ يا جوهيوك على العشاء الجميل والمحادثة الممتعة." قالت نارينا وهي تستقر في مقعدها، وابتسامة صادقة على وجهها. "أراك قريبًا."...
...أغلق جوهيوك الباب خلفها بلطف، وتوجه إلى مقعد السائق. عندما انطلقت السيارة في شوارع طوكيو المتلألئة، كان قلب كل منهما يحمل شعورًا جديدًا من الأمل والترقب. كانت نارينا تنظر من النافذة، تفكر في مدى غرابة أن يكون شخص مثل جوهيوك، ذو السلطة والثراء، قادرًا على أن يظهر هذا الجانب الحساس والمهتم. أما جوهيوك، فكانت أفكاره جميعها تدور حول ابتسامة نارينا، وكيف سيجعل تلك الابتسامة تشرق أكثر في الحديقة الهادئة نهاية الأسبوع. كانت هذه الليلة مجرد بداية....
Comments