حين أحببت من لايستحق
كان الجو باردًا والمطر يطرق نافذتها كأن السماء تبكي معها. جلست في زاوية غرفتها، يديها المرتجفتان تضمان جسدها، وعيناها ممتلئتان بخيبة لم تعد تعرف كيف تخفيها. كانت تهمس لنفسها بأسى: لماذا كسرتني؟ لماذا كان قلبي بهذا الضعف؟ لم تكن تطلب الكثير، فقط كلمة صدق، قلب يحتضن ضعفها لا يسخر منه. لكنها أعطت قلبها لمن لا يعرف معنى الحب، لمن ظن الرجولة في كسر فتاة أحبته بصدق.
قالت له ذات مرة بصوت مكسور: لماذا يحدث لي هذا؟ فأجابها ببرود قاتل: لأنك أنتِ من أردتِ. قالت: فقط أحببتك. فرد ساخرًا: ومن قال لكِ أن تحبيني؟ أجابت والدموع تغالب صوتها: ربما كنت غبية. فقال باحتقار: لا، بل أكثر من غبية. أهذا جزاء حبي؟ سألته وهي تمسح دموعها، فقال: من المستحيل أن أكمل طريقي مع فتاة تنتقل بين هذا وذاك. نظرت إليه بقلب يحترق وقالت: لكني لم أعرف سواك. ضحك، وقال بكل قسوة: صدقتك؟ بالطبع لا. ثم رحل، وتركها خلفه تنهار.
لم تبكِ بصوت، فقط ظلت ساكنة في مكانها، كأن روحها انفصلت عنها. وفي ظلمة تلك الليلة، وبين دموع لم يلاحظها أحد، وضعت جبينها على السجادة، وقالت بصوت منكسر: يا رب، اغفر لي… كنت أبحث عن دفء فوجدت نارًا. سامحني، فأنا أعود إليك.
ومن تلك الركعة، بدأت الرحلة. تغيرت. صارت تقرأ، تصلي، ترتدي حجابها بثقة، وتُغلق أبوابًا كانت تظنها حياة فتبين أنها هلاك. قلبها هدأ، وعيناها أصبحت تلمعان بنور مختلف، نور لا يمنحه سوى القرب من الله.
أما هو، فظن أنه انتصر، لكنه في أعماقه لم يعد كما كان. ظلال وجهها كانت تطارده في وحدته، وذكريات كلماته القاسية بدأت تطرق عليه قلبه الذي لم يكن يشعر بشيء من قبل. في إحدى الليالي، كان يقود سيارته بسرعة، يضحك ويُخفي ألمه بالصخب، إلى أن توقّف كل شيء فجأة. حادث مروّع، دماء، ظلمة، وخوف غريب كأنه الموت اقترب.
في لحظة بين الحياة والموت، لم يتذكّر أحدًا… سوى تلك الفتاة التي قالت له يومًا: اللهم اغفر له واهده، إني سامحته. تمتم وهو بين الغيبوبة والوعي: يا رب، إن كنت تسمعني، فلا تجعل هذه نهايتي. وعاد. نجا من الموت، لكن شيئًا كبيرًا داخله تحطم. لم يعد كما كان. أغلق على نفسه، وهجر الموسيقى، وقرر أن يعيد بناء ما هدمه قلبه. ترك تخصصه وتوجّه إلى الشريعة الإسلامية، درس بصدق، وتخرّج بعد سنوات، ثم أصبح إمامًا في مسجد صغير، بعيد عن ضجيج الماضي.
أما هي، فقد كانت تدرس الشريعة في جامعة أخرى، تمشي بخطى هادئة، وقد نسيت أمره تمامًا. لم تسمع عنه شيئًا، ولم تبحث. مضت في حياتها، تؤمن أن من تركته لله، فلن يخذلها الله أبدًا.
وذات يوم، أخبرتها صديقة أن مسجدًا بحاجة إلى مرشدة دينية. لم تتردد، تقدّمت وتم قبولها، لكنها لم تكن تعلم من هو إمام المسجد. في أول صلاة دخلت وجلست في قسم النساء، وعندما إنطلق صوت الإمام قائلاً: الله أكبر، ارتجف قلبها، ذلك الصوت… مألوف حد الألم. حاولت أن تطرد الفكرة، لكن شيئًا في داخلها أيقن الحقيقة.
مرّت الأيام، حتى التقت به صدفة داخل المكتب. رفعت رأسها فرأته، وتساقطت الأوراق من يدها. لم يتحدث، فقط نظر إليها وقال بصوت خافت: السلام عليكم أختي. ابتسمت بخجل وقالت: وعليكم السلام شيخ. لم يذكر أي منهما شيئًا عن الماضي، ولا حاجة لذلك. كلاهما كان يعلم أن الله غفر، وأن ما جمعهما اليوم ليس صدفة بل رحمة.
ومرت الأيام، وخُطبت الفتاة التي بكت في الليل، للشاب الذي بكى على أعتاب الموت. تزوّجا، لا على حبٍ خادع، بل على يقين صادق، على توبة جمعت بين قلبين بعد أن فرّقتهما الذنوب.
وفي النهاية، علّما الجميع أن ليس كل ما أبعده الله عنّا كان شرًا، فقد يكون بداية جديدة لم نكن نملك الشجاعة للسير فيها. أن كل باب أوصده الله، كان يحمل خلفه شرًا لا نراه، وكل باب فتحه لنا، وإن بدا غريبًا، كان خلاصًا ورحمة. فما أغلقه الله، هو بعينه النجاة، وما أبعده، هو بعينه الحُب.
Comments