دمعه القمر Moon'S Tear
في مدينة لم يعد الليل فيها ينتهي…
وفي زمن نسي فيه الناس كيف يشعرون،
كانت هناك فتاة تقف كل ليلة على سطح البرج القديم… تبكي.
لم يكن بكاؤها مسموعًا،
ولم تكن دموعها كأي دموع…
كانت تتوهج بلون القمر، كأنها نُزعت من السماء نفسها.
اسمها "نيرا"،
الفتاة التي يقولون إنها "ملعونة من القمر"،
وإن من يقترب منها… لا ينجو من الألم.
لكن لا أحد يعلم أن نيرا، لم تكن تبكي من الضعف…
بل من الذكريات.
---
الساعة الثانية بعد منتصف الليل،
كانت نيرا واقفة وسط الرياح الباردة،
شعرها الأسود الطويل يتطاير من حولها كأجنحة مكسورة،
وعيناها البنفسجيتان تحدّقان في السماء الحمراء.
القمر فوقها لم يكن أبيضًا…
كان مغطى بشقٍ أسود، كأن أحدهم جرحه ذات يوم.
نيرا رفعت يدها بهدوء…
لامست شيئًا في الهواء، شيئًا لا يراه أحد.
"أنت تبكي الليلة أيضًا، أليس كذلك؟"
همست لنفسها، بينما دمعة زرقاء سقطت على خدها بصمت.
لم تكن دمعتها وحدها…
قطرة أخرى نزلت من السماء…
لكنها لم تكن مطرًا، كانت دمعة حقيقية تسقط من القمر نفسه.
نيرا التقطتها بكفّها المرتجف…
وأغمضت عينيها.
وفي لحظة واحدة…
انفتح باب الذكريات.
---
مشهد سريع، أشبه بالحلم:
طفلة صغيرة تركض وسط الظلام…
تصيح باسم أحدهم… "أوني-تشان!! أوني-تشان!!"
رجل بملامح باهتة يركع بجوار جسد مكسور…
صوت انفجار…
وصوت همسة حزينة:
"لو رأيت دمعة القمر… لا تنظر للخلف."
---
عادت نيرا إلى الواقع، أنفاسها متقطعة، وعيناها تدمعان بشدة.
"هذا ليس حلماً…"
قالت بصوت خافت،
"إنه يعود… الألم… النداء… والهو."
---
في مكان آخر، في أحد الأزقة الباردة للمدينة،
كان هناك فتى طويل يقف تحت الضوء الخافت، يحمل سيفين متقاطعين على ظهره.
"أزورا"…
وجهه شاحب، شعره يغطي جزءاً من عينه،
وفي عينه الزرقاء لمعة غريبة… كأنه فقد شيئًا لا يستطيع تذكره.
"هل بكت الليلة أيضًا…؟"
سأل نفسه، بينما نظر إلى السماء.
كان يشعر بها… رغم أنه لا يعرف من هي.
في قلبه، كان هناك صوت يناديه كل ليلة:
"اذهب إليها… قبل أن ينكسر كل شيء."
---
في اليوم التالي،
كانت نيرا تجلس وحدها في الفصل الدراسي المهجور،
مدرسة بلا طلاب… بلا معلمين… فقط هي.
المكان كله متصدّع، النوافذ مغلقة،
لكنها تأتي كل صباح، وتكتب شيئًا على السبورة:
"هل هناك من يشعر؟"
كانت تكتبها بنفس الخط، كل يوم… وتمسحها قبل أن تغادر.
وفي هذا اليوم…
كان هناك من قرأها.
"أشعر."
كُتبت الكلمة بخط مختلف بجانبها.
نيرا تجمدت مكانها…
لم تكتبها هي.
التفتت ببطء…
وهناك، عند الباب، كان يقف أزورا.
"أنت… من تكون؟"
قالت بصوت مرتجف، كأن الكلمات تُكسر داخلها بعد صمت طويل.
"أنا… لا أعرف."
أجابها وهو يتقدم بخطوات بطيئة.
"لكنني أحلم بكِ كل ليلة… وأرى دموعك."
---
سكون…
نظرات صامتة…
ثم قالت نيرا، بعينين ممتلئتين بالدمع:
"أنت الآخر… رأيت دمعة القمر؟"
---
في هذه اللحظة، توقف الزمن للحظة قصيرة.
كأن شيئًا في السماء ارتجف،
كأن الحاضر تفتت، والذكريات اندفعت من جديد…
---
مشهد سابق – منذ 10 سنوات:
طفل صغير يسقط من برجٍ عالٍ، وفتاة تحاول الإمساك به.
دمعة واحدة تسقط من السماء…
ثم صراخ…
ثم سواد.
---
عاد أزورا إلى وعيه، يلهث، وعيناه متوسعتان.
"أنا… أعرفك…!"
قالها بدهشة،
لكن نيرا اقتربت بهدوء وهمست:
"أنا التي نسيتها
السماء لا تزال مغطاة بذلك السواد الكثيف...
لكن القمر هذه الليلة بدا أكثر حُمرة من أي وقت مضى.
كأن جرحًا جديدًا قد انفتح فيه.
كأن ذكرى ما تحاول الصعود من قلب الظلام إلى أعيننا...
لكن لا أحد يجرؤ على النظر إليه.
نيرا كانت واقفة وسط الممر الطويل للمدرسة المهجورة، تحدّق في اللوحة الصغيرة التي كُتب عليها "الموسيقى".
لم تدخل هذا الفصل من قبل.
كان شيئًا بداخلها يمنعها.
لكن هذه الليلة... خطواتها تحرّكت وحدها.
دفعت الباب بصمت، فانفتح بصرخة خشبية حزينة.
الغبار يتراقص في الهواء، والمقاعد الخشبية مغطاة بطبقات من الزمن.
وفي منتصف الغرفة... كان هناك بيانو قديم مغطى بقطعة قماش رمادية.
اقتربت منه، يداها ترتجفان.
رفعت الغطاء ببطء، وعيناها البنفسجيتان تلمعان في الضوء الشاحب.
بيانو القمر.
هكذا كانت تسميه في أحلامها، رغم أنها لم تره من قبل.
جلست أمامه، ووضعت أناملها على المفاتيح الباردة.
ضغطت واحدة منها...
"طِن…"
صوت حزين، كأنه صدى لقلبها المكسور.
وبدون أن تدرك، بدأت تعزف.
أنغام ناعمة، مألوفة بشكل مخيف.
وفجأة… كانت ترى المشهد يتكرر:
طفلة صغيرة تجلس على حضن رجل، تعزف معه على البيانو نفسه.
ضحكتها ناعمة، دافئة...
لكن الضحكة تنقطع فجأة بصوت تحطم زجاج.
الطفلة تصرخ...
والرجل يُسحب بعيدًا وسط الظلال...
"لا تتركها تسمع اللحن… إن سمعته، ستتذكّر!"
---
صوتٌ قوي أفزعها.
استدارت نيرا بسرعة،
وهناك… عند الباب… كان أزورا يقف، يلهث، يده على قلبه.
"ذلك اللحن..."
قال وهو يقترب منها بسرعة،
"من أين… تعرّفتِ عليه؟!"
نيرا صمتت، نظرت إليه بعينين مرتجفتين،
"أنت أيضًا… سمعته؟"
أزورا تراجع خطوة، ويده ترتعش.
"أنا… كنت أعزفه لأختي… حين كنا صغاراً… قبل أن تموت."
نيرا فتحت عينيها بصدمة،
"أختك…؟"
أزورا اقترب أكثر، عينه الزرقاء تحدق في عينيها،
"اسمها… كان نيرا."
---
صمت.
العالم توقف للحظة.
الهواء أصبح ثقيلاً كأن الزمن رفض التحرك.
نيرا كانت تحدق فيه بصدمة، ثم وضعت يديها على رأسها،
"كفى…! لا… لا تقل هذا…!"
أزورا انحنى بجانبها،
"أنا… لا أتذكر وجهها بوضوح…
لكن كلما نظرت في عينيك… أشعر أني أقترب من الحافة… حافة شيء كبير، مؤلم، ومضيء."
دموع نيرا بدأت تتساقط بلا توقف.
"أزورا… أنا… رأيتك تسقط من البرج… قبل سنوات…
وكنت أصرخ باسمك… وكنت… صغيرة جداً…"
أزورا شهق:
"كنت أنا… من سقط…؟ أنتِ… التي نادتني؟"
---
الصورة أصبحت أوضح الآن…
كان هناك طفلان، على سطح البرج، يلعبان في الليل.
القمر فوقهما كان أبيضًا، جميلًا، ممتلئًا.
لكن عند لحظة واحدة…
أحدهما سقط.
والآخر… نسي.
---
"القمر… أخذ ذكرياتنا."
همست نيرا وهي تمسك بيده.
"وترك فقط… دموعنا."
---
في تلك اللحظة، اهتزّت الأرض.
وكأن الزمن بدأ يُكسر من جديد.
النافذة خلفهما تحطمت، والهواء البارد اندفع بعنف.
وسط الظلال… ظهر شخص غريب.
رجل بملامح مغطاة، يحمل عصًا طويلة… وعلى صدره رمز القمر المكسور.
"وجدتكما أخيرًا…"
قال بصوت يشبه الريح.
"من أنتما؟!" صرخ أزورا وهو يسحب سيفه.
الرجل ابتسم بتكلف:
"أنا حارس القمر.
ومن يرَ دمعة القمر… يجب أن يُسحب إلى الظلال."
مدّ يده، وإذا بالجدران تُطوى كالورق،
والمكان يتحول إلى ضباب كثيف…
كل شيء اختفى… إلا نيرا وأزورا… والحارس.
---
نيرا نظرت لأزورا، ثم أمسكت يده بقوة.
"لن أتركك تسقط مجددًا."
قالتها بصوت ثابت… لأول مرة بصوتها الكامل.
أزورا رفع سيفه… والدمعة التي كانت على خد نيرا تحوّلت إلى نور.
ولأول مرة… بكى القمر من الفرح.
Comments