الفصل الرابع : مازلت أنا

مرت عدة أيام منذ وصولي إلى هذا العالم الغريب . في البداية كان كل شيء مربكاً ، مشوشاً ، وكأنني أعيش حلماً لا أفهمه . أما الآن ... فقد بدأت أتأقلم .

أصبحت أستيقظ كل صباح مع أول خيوط الشمس التي تتسلل من بين أغصان الأشجار ، أتمدد قليلاً ، وأتوجه إلى جدول الماء القريب لأغسل وجهي وأشرب ما يكفيني من الماء النقي ، البارد والمنعش ، وكأنه الشيء الوحيد الذي يذكرني بنقاء عالمي القديم .

بعدها أتوجه إلى العمل . لا يزال العمل مُرهِقاً ، فرفع الصناديق الثقيلة ، ونقل المعدات يتطلب قوة لم أكن أملكها من قبل ، لكن جسدي بدأ يعتاد الأمر تدريجياً .

أصابعي أصبحت أكثر صلابة ، وكتفيّ لم يعودا يؤلمانني كما في البداية . كنت أعمل بصمت ، أركز على كل مهمة تُعطَى لي ، ومع كل يومٍ جديد ، أُتقِنُ ما أفعله أكثر من اليوم الذي سبقه .

بنهاية اليوم ، أقبض أجري _ عشرة دولارات . ثم أتجه مباشرة إلى المطعم الصغير نفسه . أصبحت أتعرف على بعض الوجوه هناك ، حتى أنَّ النادل لم يعد يسألني عن طلبي ، فقط يبتسم ويقول :

" كالعادة ؟ "

وأومئ له بتعبٍ صامت ، فأنا بالكاد أملك طاقة للكلام .

كانت الوجبة هي نفسها : الأرز ، اللحم ، الأعشاب ، الشوربة ، والخبز بالزبدة . خمس دولارات مقابل دفء في المعدة وراحة مؤقتة .

بعد الوجبة ، أعود إلى الغابة . أجد المكان نفسه ، أستلقي على الأرض ، أتنفس بعمق ، وأغفو .

هكذا كانت أيامي تمر : عمل ، طعام ، نوم .

كأنني دخلت في دوامة رتيبة ، لكنها كانت بالنسبة لي بداية للاستقرار .

بداية لحياة جديدة .

لكن في إحدى تلك الليالي ، بعد يومٍ متعب آخر ، جلست في مكاني المعتاد بين الأشجار ، ورأسي مثقل بالأفكار . لم أستطع النوم بسهولة . الحنين بدأ ينهش قلبي من الداخل .

تذكرت وجوههم ... أمي ، أبي ، إخوتي .

صوت ضحكهم . دفء المنزل . تفاصيل صغيرة كنت أعتبرها عادية أصبحت الآن كنزاً مفقوداً .

نظرت إلى الهاتف الذي كنت أحمله معي منذ اليوم الأول . حاولت جاهداً أن لا ألمسه طوال هذه الفترة . لم يكن لدي شاحن ، ولم أكن مُتَأكِداً إن كان هذا العالم يملك كهرباء كما نعرفها ... لكنني لم أعد أحتمل .

" فقط نظرة واحدة ... فقط محاولة . "

ضغطت على زر التشغيل . الشاشة أضاءت بوهجٍ خافت في الظلام ، وتسلل النور إلى عينيّ كشعاع من ذكرياتي . فتحت تطبيق الاتصال . كان من السخف أن أتوقع وجود تغطية أو إنترنت ، لكنني حاولت . ضغطت على اسم " أمي " في قائمة المكالمات الأخيرة .

رن الهاتف ... مرة ... مرتين ...

لا إجابة .

أعدت المحاولة مع رقم أبي ... ثم أحد إخوتي ... ولا أحد يجيب .

أغلقت الهاتف وتنهدت ، ودمعة صغيرة كادت تهرب من زاوية عيني .

وقبل أن أطفئ الهاتف كلياً ، لمحت تطبيقاً جديداً لم أره من قبل .

كان اسمه : " ما وراء المجهول "

قطبت حاجبيّ . لم يكن موجوداً في قائمة التطبيقات سابقاً .

فضولي غلبني ، ففتحته .

ظهرت شاشة سوداء ، ثم رسالة قصيرة بسيطة ، وكأن أحداً كتبها لي خصيصاً :

" أنت ، يا من تحمل هذا الهاتف ...

لا تستخدمني إلا للضرورة .

فأنت تستطيع استخدامي خمس مراتٍ فقط . "

استخدمني بحكمة . "

تأملت الكلمات ، ثم انفجرت ضاحكاً رغم كل شيء .

" حتى في عالم غريب ، يظهر لي تطبيق غامض ؟ "

كانت الضحكة صادقة ، نادرة . شعرت بأن التطبيق الغريب لم يأتِ ليقدم لي خدمة ... بل ليذكرني بأن أبتسم . ضحكت ، وأغلقت الهاتف ، ثم نظرت إلى السماء التي تغطت بالنجوم ، وهمست :

" شكراً ، أياً كنت ... على الضحكة . "

...

استيقظت في الصباح على صوت العصافير وهي تزقزق فوق رأسي ، كأنها توقظني من حلمٍ لم ينته بعد .

نهضت من مكاني تحت الأشجار ، وغسلت وجهي بمياه الجدول الباردة . كنت أشعر بثقل غريب في صدري ، وكأن شيئاً بداخلي لا يريد أن أكمل هذا اليوم ... ليس بسبب التعب ، بل بسبب شعور داخلي لا أستطيع تفسيره .

بينما كنت أستعد للذهاب إلى العمل ، سقط القلم من جيبي .

انحنيت لالتقاطه ، نظرت إليه طويلاً ... قلم عادي ، لكنه الوحيد الذي بقي معي من عالمي السابق ، إلى جانب الهاتف . ورغم أنه لم يُستَخدم حتى الآن ، فإنني لم أستطع التخلي عنه .

تساءلت بصوتٍ منخفض :

" ماذا يجب أن أفعل بهذا القلم ؟ "

صمتٌ قصير .

ثم ابتسمت .

" سأحتفظ به ... هو ، وهاتفي ... هما الشيئان الوحيدان اللذان يربطانني بعالمي السابق . طالما هما معي ، فأنا مازلت أنا . "

وضعت القلم في جيبي بعناية ، وكأنه كنزٌ ثمين ، ثم توجهت نحو العمل .

وصلت إلى مكان العمل . نفس العربة ، نفس الحمولات الثقيلة ، نفس رائحة الخشب والتعب .

لكن اليوم ، الجو كان مُختَلِفاً .

بينما كنت أجر إحدى العربات ، مررت بجوار مجموعة من العمال يتحدثون بحماسة .

" يقولون إن هناك المئات ، بل الآلآف يأتون كل يوم ! "

" من الأرض ؟ "

" ليس فقط من الأرض ... من أنميات ، مانهوات ، مانغات ، حتى من الأفلام والمسلسلات ! "

" مستحيل ... "

" صدقني ، رأيت بنفسي رجلاً يحمل سيفاً ويقفز مسافة عشرة أمتار ، لم يكن طبيعياً أبداً . "

توقفت للحظة . تجمدت خطواتي .

شعرت كأن العالم يدور من حولي ، لكني واقف في مكاني .

" شخصيات خيالية ... تنتقل إلى هنا ؟ " همست لنفسي .

تسلل الحماس إلى قلبي ، هل يمكن أن أقابل شخصياتي المفضلة ؟ هل من الممكن أن أراهم أمامي ، ليس صوراً على شاشة ... بل لحماً ودماً ؟

لكن سرعان ما تبدد هذا الحماس .

" انتظر ... هذا يعني أن هذا العالم يستقبل كل شيء ... أي شيء ... من أي عالم ؟ "

نظرت إلى السماء ، كانت صافية ، لكنها بدت وكأنها تخفي أسراراً لا حصر لها .

" كيف سأجد عائلتي في عالم كهذا ؟ "

اتسعت عيناي بتوتر .

" وماذا لو انتقلت شخصيات شريرة ؟ شخصيات تملك قوة لا يمكنني حتى تخيلها ؟ "

فجأة ، شعرت كم أنا صغير ... كم أنا ضعيف .

" هل سأتمكن من البقاء ؟ " قلت في داخلي .

ثم وضعت يدي على جيبي ، شعرت بالقلم .

أغمضت عيني .

" لا بأس ... طالما أنا مازلت هنا ، فسوف أستمر . "

مع نهاية اليوم ، كنت قد سحبت قدمي من التعب . ظهري يؤلمني . كتفي منهك . لكن التعب هذه المرة لم يكن جسدياً فقط ... بل عقلياً أيضاً .

كلام أولئك الرجال لا يزال يدور في رأسي .

" عالمٌ يجمع كل شيء ... حتى المستحيل ؟ "

كيف سأجد عائلتي وسط هذا الازدحام من العوالم ؟ كيف سأحمي نفسي إن ظهرت شخصيات خارقة ، شريرة ، لا تعرف الرحمة ؟

أنا فقط ... شخص عادي .

شعرت بقلق يتسلل إلى قلبي كالماء البارد .

لكنني ، رغم كل شيء ، وقفت للحظة ، نظرت إلى السماء مجدداً ، وتنفست بعمق .

" سوف يكون كل شيء على ما يرام . " قلتها بصوت مسموع هذه المرة ، كأني أحتاج أن أصدقها .

" سأواصل . سأقوى . وسأجدهم . مهما تطلب الأمر . "

ثم سرت بخطى بطيئة نحو الغابة ... حيث نومي المعتاد . لكن قلبي ، هذه الليلة ، كان أثقل من المعتاد .

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon