المنبوذ الروحي
...حين يسمع المرء بالسكن الجامعي، قد يتبادر إلى ذهنه أولئك الأصدقاء الذين يتشاركون الغرفة، تعمّها الضحكات والهمسات المتبادلة عن الآخرين. غير أن واقعنا مختلف؛ فهنا يعيش الإنسان مع من يكره، حتى يتحول قلبه إلى صخرٍ أسود من شدة الحقد والضغينة. وأما تلك الغرف، فلم تكن يوماً مظلمة، أنوارها قائمة كأن الشمس لا تغيب عنها، حتى إذا حلّ الليل بسكونه، بقيت الهمسات الخفية تملأ الأرجاء....
...“بسام عماد”، ذلك الاسم الذي خُتم على ورقة وأصبح رفيقًا لي طيلة عشرين عامًا من عمري. سئمت مشاكل المنزل. نشأت وسط شجارات لا تنتهي، صراخ متواصل ليل نهار، طعام بائت، ونوم على جوع. حتى جاء أحدهم ذات مرة وقال لي: “غريب، عكس اسمك تمامًا، يا لك من وغد”. لم أُجِب، لكنّ الكلمة شدت انتباهي، إذ وصفني بالوغد. ما أغرب الناس، يرمون بالكلمات ثم يمضون، لا يبالون بما يخلّفونه....
...أن يكون الإنسان طيّب اللسان، يُعد في هذه الحياة ساذجًا؛ كالثمل الذي يقول كل ما في قلبه وهو في أضعف حالاته، لا يعلم ما يقول ولا لمن، ومن سيصغي إليه؟ فيُنظر إليه كمجنون، وتُؤخذ كلماته على سبيل السخرية أو يُشمَئَزّ منه بسبب رائحته الكريهة. مجرد اسم قد يغيّر حياة إنسان بالكامل، يرفعه أو يسحقه تحت التراب....
...هؤلاء الحمقى، لم يعلموا شيئًا. ذاك الفتى العشريني، الذي بلغ أشدّه للتو، أحاطت به الضغوط من كل جانب. كثيرًا ما سمع جملة: “ليس من الضروري أن يكون الإنسان غنيًّا ليكون سعيدًا”. قالها كثيرون، لا يعلمون أن هناك من ينام جائعًا، أو يبكي من شدة التعب وعدم القدرة على نسيان واقعه. المال، بالنسبة له، كان الأساس الأول الذي وضعه حين هرب من تلك العائلة التي لم تمنحه شيئًا....
...ها هو الآن، جالس في أحد المقاهي ذات الجدران المتصدعة، ينظر إلى المارة بملابسهم الفاخرة ومعاطفهم الزاهية. يراهم أنانيين، يتمنى أن يأتي اليوم الذي ينقلب فيه كل شيء على رؤوسهم، فلا يجدون ما يأكلونه....
...يتذكّر نفسه، وكل الكدمات التي غطّت جسده، من شدة الضرب الذي تلقّاه من والده، السكير الذي كان ينفق ما تبقى من المال على الخمر، ناسيًا أن له ثلاثة أطفال بحاجة إلى طعام وحاجات أساسية....
...طرد تلك الأفكار من رأسه، ثم نظر إلى انعكاس صورته في زجاج المقهى. يرتدي سترة قديمة فوق قميص خفيف بالكاد يدفئه، وحذاءً سرقه من والده، كان واسعًا عليه بعض الشيء. لا يرتدي جوربين، والبرد يشق طريقه إلى قدميه. رقائق الثلج تنزل عليه بينما يخرج من المقهى، رأسه منحني، يمشي بين الناس يبحث عن ذاته....
...إلى هذه الدرجة، يشعر الإنسان بالخجل، لمجرد أنه لا يستطيع شراء حذاء....
...خطا إلى داخل المبنى، غير أن المشرفة القائمة على الاستقبال أوقفته قائلة:...
...– انفض نفسك قبل الدخول!...
...شعر بشيء من الحرج، فتراجع قليلًا ونفض الثلج عن ملابسه، ثم مسح حذاءه ودخل. توجّه لاستلام مفتاح الغرفة المهجورة التي يسكنها وحيدًا، فقد غادر الجميع لقضاء عطلة الشتاء في بلدانهم، منهم من قصد نيويورك، وآخرون هولندا، وغيرهم توجهوا إلى أماكن مختلفة....
...نظرت إليه مديرة الاستقبال وسألته:...
...– لماذا لم تغادر لقضاء عطلتك؟...
...مرّر بسام يده بين خصلات شعره الطويل الذي لم يقصه منذ عام، حتى غطّى أذنيه، ثم أجاب:...
...– في الحقيقة، لا مكان لي أذهب إليه، ولا أحد بانتظاري....
...قالت له:...
...– تعال رافقني إلى اليونان، سأجد لك عملًا هناك....
...رفض الاقتراح بأدب، ثم أخذ مفتاح الغرفة رقم 73 وهمّ بالانصراف، لكنها استوقفته مرة أخرى قائلة:...
...– سأغادر هذا المساء، جهّز أغراضك ولا تتأخر....
...أغلقت مكتب الاستقبال، بينما صعد هو الدرج إلى الطابق السادس، يتأمل كلماتها الأخيرة: “سأجد لك عملًا!”. بدت له فرصة، لكنه لم يستبعد احتمال أن تكون خدعة. لم يترك لحظة تمرّ دون أن يعيد التفكير في ما قالته....
...في المساء، كانت هناك عربة سوداء يقف بجوارها السائق الذي كان ينقل حقائب المديرة. أراد بسام حزم أمتعته، لكنه تذكّر أنه لا يملك شيئًا في تلك الغرفة. أخذ منديلاً كانت قد صنعته له شقيقته الصغيرة قبل ثلاث سنوات، وضعه في جيبه، ثم نزل إلى حيث كانت تنتظره المرأة التي بلغت نهاية عقدها الخامس....
...نظرت إليه بعينيها الضعيفتين، ارتدت نظاراتها المُعلّقة في عنقها، ثم سألته:...
...– هل جهّزت أمتعتك؟...
...أجابها وهو يخرج يديه من جيبه:...
...– ليس لدي ما آخذه معي....
...قالت بدهشة:...
...– ماذا تقول! أين أغراضك التي أتيت بها منذ خمسة أشهر؟...
...– لقد تآكلت جميعها، ولم يتبقَ لي سوى ما أرتديه الآن....
...قالت بلهجة حاسمة:...
...– هيا اخرج، سأغلق السكن....
...خرج وانتظرها، حتى قالت له:...
...– ماذا تنتظر؟ اصعد إلى العربة قبل أن تزداد مرضًا!...
...قال في نفسه: ربما كانت هذه ألطف وأحنّ الكلمات التي سُمعت في حياتي....
...ركب العربة وجلس إلى جوار النافذة، يراقب تساقط رقائق الثلج. بعد لحظات، صعدت العجوز التي تدعى “ابتهام”، وقدمت له بعض فطائر الجبن قائلة:...
...– كُل شيئًا!...
...لم ينكر أنه كان جائعًا، فلم يتناول طعامًا جيدًا منذ عدة أيام. بدأ يأكل بشراهة، لكنه توقف حين شعر أن أحدًا يراقبه. رفع نظره، فرأى على وجهها ابتسامة خفيفة. لم يسبق له أن رآها تتعامل بودّ مع أي شخص في السكن، لكن الموقف هذه المرة كان مختلفًا. أخرجت من حقيبتها منديلاً وقدمته له قائلة:...
...– خذ....
...مدّ يده ليأخذه، لكنها سألته فجأة:...
...– بسام، كان اسمك أليس كذلك؟...
...ابتلع آخر لقمة، وأجاب وهو ينظر إليها:...
...– نعم....
Comments