...كان قدري معه مرهونًا بالرقم "ستة"....
...رقمٌ صغير، لكنه في قصتنا... كان أشبه بخيطٍ خفيّ، ربط بين أرواحنا في صمت....
...كنتُ شاردةً، وعقلي يعود من تلقاء نفسه إلى تلك البداية البعيدة، حيث وُلد كل شيء دون أن نشعر....
...كل شيء بدأ عندما جلسنا معًا على نفس المقعد، بعد توزيع الطلاب على صفوفهم في السنة الأولى من الثانوية....
...كان ذا شعر قصير أنيق، وملامح حادة آسرة، وتغمر وجهه ابتسامة هادئة لا تفارقه، تعمّقها غمازة صغيرة تحت زاوية فمه، وكأنها وُجدت فقط لتُثير القلب الذي ينظر....
...رغم أن ذاكرتي قد بهتت بشأن تلك الأيام، إلا أن كلماته ما زالت حيّة في مكانٍ عميق مني، تعود كلما فكرت به....
...* * *...
...حين وطئتُ أبواب الثانوية، كنت ما أزال غريبةً على هذا العالم الجديد....
...كنت منطوية، خائفة، لا أرغب حتى في مشاركة مقعدي مع فتى لا أعرفه....
...جلستُ بصمت، أحدّق في الطاولة أمامي كأنني أهرب من الواقع....
...دخل هو بعد برهة، كان ينظر إلى نتائج امتحان تحديد الصفوف....
...ما إن رآني، حتى ابتسم وقال بابتسامة فخورة:...
..."لقد تفوقتُ عليكِ بستّ درجات!"...
...نظرتُ إليه في حيرة، لا أفهم ما يعنيه....
...تابع حديثه بلطف:...
..."كنا معًا في المدرسة الإعدادية... هل تتذكرينني؟"...
...لكنني، بكل صدق، لم أتذكره....
...ضحك بخفوت، بصوت يشبه نسمة خريفية:...
..."كنتُ في الصف الخامس. كنا زملاء في الصف المتقدم مرة واحدة."...
...آنذاك، لمعت في ذهني صورة باهتة... بدأتُ أتذكره....
...كنت فتاة هادئة في تلك المرحلة....
...غارقة في كتبي، لا ألتفت لمن حولي، لا أذكر حتى وجوه من كانوا يجلسون إلى جانبي، فكيف بمن هم في صفٍ مختلف؟...
...قال إنه لاحظني حين كنّا في الصف الثالث من الإعدادية....
...كنتُ أحتلّ المركز السادس، مركزًا لطالما حلم هو بالوصول إليه، لكنه لم ينجح قط....
...ثم سألني بابتسامة:...
..."هل تحبين الرقم ستة؟ كيف تبقين ثابتة فيه طوال الوقت، وكأن أحدًا لحَمكِ بالمكان؟"...
...ابتسمت، ولم أخبره بالحقيقة:...
...أن الذين سبقوني كانوا أوائل لا يمكن مجاراتهم، فأصبحتُ السادسة إلى الأبد، حتى لقبني الجميع بـ"الستة الصغيرة"....
...لكنني لم أفضِ له بشيء....
...قال وهو يضحك بفرحٍ طفولي:...
..."هذه أول مرة أكسر فيها اللعنة وأتجاوزك، لا تتخيلي سعادتي!"...
...ضحكته تلك كانت مُعدية، جعلتني أبتسم بدوري وأقول له بهدوء:...
..."مبارك لك."...
...لم نكن نعلم آنذاك، أن هذا الرقم البسيط سيكون الحبل الذي يربط أرواحنا كلما ابتعدنا....
...* * *...
...في السنة الثانية، افترقنا بين التخصصات: هو في العلمي، وأنا كذلك... لكن المصادفة أبقتنا في نفس الفصل....
...ولم أدرِ متى بدأنا نقضي وقتًا أطول، ومتى بدأت مشاعري تخرج عن نطاق المألوف....
...في أول امتحان في السنة الأخيرة، فرّقت بيننا ست درجات أخرى....
...لكن هذه المرة، أنا حصلت على توصية للالتحاق بجامعة مرموقة في الشمال، وهو لم يُمنح الفرصة ذاتها....
...تغير... خفت ضوؤه، خفّت ابتسامته، لم يعد يذهب للعب، أصبح يجلس في صمت، يذاكر وحده....
...كنت أودّ أن أقول له:...
..."لا تُجهد نفسك... لا تجعل من التوصية نهاية العالم."...
...لكنني صمتُّ... عضضتُ على كلماتي، ووضّبتُ حقيبتي استعدادًا للرحيل....
...حين مررتُ قربه، استوقفني بصوته الذي تغير:...
..."مستقبلك سيكون مشرقًا."...
...لم أتمالك نفسي... شكرتُه والدموع تتساقط من عيني كأنها تعتذر نيابةً عني....
...* * *...
...عندما عدتُ إلى المدرسة لالتقاط صور التخرج، ناولني ورقة قديمة....
...كانت خريطة المقاعد....
...وأشار إلى المقعد السادس... مقعدنا الأول....
...الأسماء تغيّرت، لكن اسمينا ظلّا محفورين جنبًا إلى جنب، كما لو أن الزمن لم يتحرك....
...قال لي:...
..."وجدتها أثناء تصفحي لكتاب قديم. كنتُ أراها مصادفة، لكنني لم أستطع رميها. فلنحتفظ بها... كتذكار منّا."...
...المقعد السادس... رماد الأيام، ودفء الذكرى....
...* * *...
...بعدها... لم أعد أراه....
...لكنني، دون أن أدرك، كنت قد بدأتُ أفقد نفسي في دوّامة هادئة من الحنين إليه....
...* * *...
...أول لقاء بعد الفراق كان أمام بوابة المدرسة يوم الامتحان الجامعي....
...كنت أقف تحت ظلّ شجرة، أُمسك باقة من الزهور، أراقبه من بعيد يتحدث إلى والديه....
...وكأن قلبه شعر بي، التفت فجأة....
...كانت بيننا جموع كثيرة، بحر من البشر... لكن أحدًا منّا لم يتحرك....
...عندها فقط أدركت أن زمن "المدرسة" قد انتهى... لنا معًا....
...* * *...
...اللقاء الثاني كان على رصيف محطة القطار السريع في مدينة "L"....
...قال لي:...
..."مرحبًا."...
...نظرتُ، فعرفته، وقلت بدهشة:...
..."يالها من مصادفة!"...
...ابتسم وقال:...
..."نعم... مصادفة عجيبة."...
...كان قد قُبل في جامعة جنوبية، وبدأ يستعد للتدريب العسكري....
...أما أنا، فوجهتي كانت شمالًا....
...قطاران... يسيران في اتجاهين مختلفين....
...* * *...
...اللقاء الثالث حدث في جامعتي، بعد أن تخرجت. ...
...كنت أزور أستاذي السابق....
...وأثناء صعودي السلم، منشغلة بمكالمة، رفعت رأسي... ...
...ورأيته ينزل من الجهة المقابلة، بقميص أبيض....
...توقفنا، هو في الأسفل، وأنا في الأعلى....
...تجمّدت اللحظة....
...لم نتبادل سوى جملة باهتة:...
..."مر وقت طويل..."...
...لكن في عيوننا... كانت ألف جملة....
...* * *...
...اللقاء الرابع كان في ليلة رأس السنة، في بلدة صغيرة....
...الثلج كان يتساقط برقة....
...أصدقائي شدّوني معهم إلى الساحة، كانت مكتظة بالناس....
...وفي خضم الزحام، رأيت هيئةً مألوفة....
...نعم... هو....
...لكن هذه المرة، لم يكن وحده....
...إلى جانبه فتاة جميلة، يحدّق فيها بعينين مملوءتين بالطمأنينة....
...كان واقعًا في الحب....
...* * *...
...وبقي الرقم ستة... يلاحقني، لا كرقم، بل كأثر....
...كظلٍّ يلامس قلبي كلما تذكّرته....
...* * *...
...اللقاء الخامس كان في حفلٍ لجمع شتات زملاء الدراسة....
...سنوات مرّت منذ آخر مرة اجتمعنا، ولم أتخيّل أنني سأراه هناك....
...حين حضر، راح البعض يمزح على طريقتهم:...
..."ثلاث سنوات وأنتما تتشاركان نفس الطاولة، ثم لا صداقة تجمعكما اليوم؟"...
...ضحكتُ... لكنّ قلبي لم يضحك....
...* * *...
...اللقاء السادس... كان الوداع....
...لم يكن وداعًا بصوتٍ عالٍ، بل وداعًا يُقام وسط الزينة، والابتسامات، وأغاني الأعراس....
...كانت دعوته تصلني للمرة الأولى، ففهمت أن زواجه قد اقترب....
...العروس هي نفسها التي رأيتها ذات شتاءٍ في ساحة المدينة، واقفة بجواره، تتمايل بضحكتها كزهرة ناعمة في الريح....
...في صورة الدعوة، كانت تميل برأسها على كتفه، بثقة امرأة تعلم أنها سكنت قلب الرجل أمامها....
...وفي الحفل......
...لم تتبدّل النظرات، ولا تغيّر ذلك الصمت العاشق بينهما....
...لم يكن يُخفي حبّه لها....
...كان واضحًا... كما لو أنّ عينيه لا تتقن النظر إلا إليها....
...* * *...
...حين جاءا ليشربا نخب الحياة الجديدة، ابتسمتُ له، وقلت كلمات التهنئة التي يقولها الناس في مثل تلك المناسبات....
...أما هو، فابتسم لي بمكرٍ أخويّ وقال:...
..."أنتِ لم تعودي صغيرة. حان الوقت لتجدي من يُحبّك حقًا."...
...ابتسمت......
...وكانت ابتسامتي أشبه بكلمة وداعٍ لا أحد يسمعها....
...* * *...
...بعد ذلك... اختفى من أيامي....
...رأيته ذات صدفة، عبر صورة نشرها على تطبيق "اللحظات" — صورة له مع زوجته وطفلهما، يستعدون لمغادرة البلاد نحو حياةٍ جديدة في الغربة....
...حينها......
...أدركت أنّ قلبي بدأ يُسامح....
...بدأ يُحرّر نفسه من ذكرى دامت أكثر من نصف عُمري....
...أدركت أن القصة انتهت....
...* * *...
...بعدها بأشهر، نُقلت إلى محافظة أخرى بقرارٍ من العمل، وعشت هناك لسنواتٍ طويلة....
...لم نلتقِ من جديد......
...ولا حتى مرة....
...* * *...
...وذات يوم، جاءت ابنتي تركض نحوي، تمسك بورقة بيضاء، وتهتف بسعادة:...
..."ماما! هذه الورقة فيها سر!"...
...وضعتها تحت ضوء أزرق، فظهرت عليها كتابة خافتة:...
..."ميانميان، أنا أحبك."...
...في تلك اللحظة......
...انفجر الزمن في قلبي....
...تدفّقت الذكريات، وامتلأت عينايَ بصمتٍ لا يُبكَى....
...ياللأسف......
...كُنّا فقط مجرّد ذكرى......
...في ذاكرة بعضنا البعض....
...•••...
...ماذا لو عاد إليكِ من كنتِ قد دفنتِه في الذاكرة، ليقول: "ما زلت أحبك"؟...
...في العام السادس عشر منذ لقائنا الأول......
...عاد إلى البلاد لتلقّي العلاج....
...جاء إلى المدينة التي أعيش فيها، ودخل المستشفى الذي لا يزوره سوى من أرهقهم التعب....
...كنت أنا الشخص الوحيد الذي يعرفه هناك، فذهبتُ لرؤيته....
...كنا قد بلغنا الثانية والثلاثين، لم يعد ذاك الفتى الذي كان يركض خلف الأهداف ويضحك في ردهات المدرسة....
...كان قد هُزِم، جسده بدا هشًا، كمن يحمل مرضه على أكتافه كما يحمل المُذنب صمته....
...جلستُ عند سريره، وغرقتُ في صمتٍ طويل، وفي ذهني كانت ذكريات الماضي تتقافز كظلال لا تهدأ....
...ابتسم لي، وسأل:...
..."هل أبدو قبيحًا الآن؟"...
...قلت، وأنا أشيح بنظري عن ذبول وجهه:...
..."لست كما كنت حين التقينا، لكنّك ما زلت أنت."...
...ثم تنهد وقال، وعيناه نحو سقف الغرفة:...
..."كنّا في السادسة عشرة حين التقينا. والآن نحن في الثانية والثلاثين، نحمل أطفالًا وبيوتًا ووجوهًا تُشبهنا... ولا يمكننا العودة."...
...سألته، بصوتٍ ناعم:...
..."هل تفتقد تلك الأيام؟"...
...لم يجب....
...لكنه استدار ناحيتي، وقال بصوتٍ أشبه بالهمس:...
..."أظن أنني... أقترب من الموت."...
...كتمت أنفاسي....
...ثم ضحكتُ ضحكة المرتبك، وقلت:...
..."ما الذي تقوله؟ كُفّ عن هذا الحديث، إنك متعب فحسب، ولا تدري ما تقول."...
...لكنّه ظلّ ينظر من نافذته الصغيرة، وهمس:...
..."أعرف جسدي جيدًا. وأظنّ أنّني... لن أرى الصيف هذا العام."...
...* * *...
...غادرتُ سريعًا تلك الليلة، كأنني أهرب من شيءٍ لا أستطيع تسميته....
...لكن بعد تلك الزيارة، أصبحت أعرف زوجته....
...كانت تبحث عن مدرسة لابنهما، ولم أستطع أن أقاوم حين رأيت الطفل... ...
...كان يُشبهه إلى حدٍّ يُبكيني....
...ساعدتها....
...وجعلت ابنها في الصف نفسه مع ابنتي....
...ومنذ ذلك الحين......
...كنت أراه....
...لا هو، بل ملامحه الصغيرة تمشي، تتشاجر، وتضحك من جديد....
...* * *...
...ثم أتى الربيع....
...وفي بدايته... رحل....
...لم يسمع صخب الصيف كما قال....
...أقيمت جنازته في المدينة التي شهدت أول لقاء لنا....
...وقفتُ أمام صورته، لا أبكي، ولا أتنفّس، فقط... أنظر....
...عدتُ بعدها إلى مدينتي، وعملت كأن شيئًا لم يكن....
...* * *...
...لاحقًا، دعتني زوجته لزيارتها، برفقة ابنتي....
...دخلنا البيت، وركض الأطفال للعب....
...أما أنا، فتأملت المكان بهدوء،...
...حتى وقعت عيناي على رفٍ خشبيّ صغير، عليه صورة مؤطّرة لخريطة مقاعد دراسية قديمة....
...خريطة... من سنتنا الأولى في الثانوية....
...اقتربت منها، تحدّثني:...
..."تتذكّرينها، أليس كذلك؟ لقد احتفظ بها كل هذه السنوات، حتى عندما سافرنا، أصرّ على أخذها معه. قال إنها ذكرى لا تُنسى."...
...* * *...
...جلستُ إلى جوارها، وسألتها عن نواياها القادمة....
...فقالت بهدوء:...
..."سأكرّس حياتي لطفلي، ولا أظن أنني سأتزوّج من جديد."...
...نظرتُ لها، وقلت:...
..."الوحدة صعبة، كوني مستعدة."...
...فابتسمت بعينين حمراوين، وقالت:...
..."ميانميان... لقد كان زواجنا تقليديًّا، بلا حب. عشنا معًا، وتشاركنا الحياة، لكنه لم يُحبّني قط."...
...شهقتُ، ولم أعرف كيف أُجيب....
...فأكملت، بصوتٍ مكسور:...
..."حين طلبني والديه، صارحني بأنه يحبّ فتاة أخرى. قال لي إن لم أقبل بذلك، فليذهب كلٌ في طريقه. لكنني... كنت أحبّه. وقبلت، رغم كل شيء."...
...ثم صمتت لحظة، وأردفت:...
..."احترمني، وعاش معي بلطف. لكنّي كنت أعلم... أنّ قلبه في مكانٍ آخر."...
...همستُ:...
..."ولِمَ تخبرينني بهذا الآن؟"...
...نظرت إليّ نظرة ممتلئة بالصمت، ثم قالت:...
..."لأنني حين عدنا إلى هنا، أدركت من كنتِ أنتِ. أنتِ... تلك التي سكنت الخريطة، والذكرى، والقلب."...
...صمتُّ، لا أعرف ماذا أفعل....
...فقالت، وهي تضحك ببكاء:...
..."في هذه الحياة... كنتُ أنا من أجبره على البقاء. أما في الحياة القادمة... فسأتركه لكِ."...
...* * * ...
...منذ ذلك اليوم، بقيتُ على تواصلٍ معها....
...كنت أشعر أنني مدينة له... برعاية من بقي من عالمه....
...أما زوجي، فكان رجلًا طيبًا، محترمًا، لكن بيننا لم يكن حب....
...مجرد مودة......
...صداقة على هيئة زواج....
...كنا نحمل أسماء بعضنا، لكن قلوبنا كانت تسكن أماكن أخرى....
...* * *...
...وذات مساء، وأنا أروي لابنتي قصة قبل النوم،...
...عانقتني فجأة وسألتني:...
..."أمي... هل يعيش الناس حياةً أخرى بعد هذه الحياة؟ إن كانت هناك حياة ثانية... عليكِ أن تُحبّي والدي وتُحبّيني أيضًا... حسنًا؟" ...
...صمتُّ....
...ولحسن الحظ، نامت قبل أن أُجيب....
...مددتُ يدي على خدّها الصغير، وقلت لها هامسة، لا تسمعها سوى قلبي:...
..."أنا آسفة، صغيرتي... لكن في حياتي القادمة، سأحبّ رجلًا آخر."...
...••••...
...𝑇ℎ𝑒 𝐸𝑛𝑑...
Comments