مرت ساعات... أو هكذا شعرت سُهى.
الظلام في الخارج اشتد، والساعة الحائطية توقفت عند الثالثة فجرًا، عقاربها ساكنة كأن الزمن نفسه رفض أن يستمر داخل هذا المنزل.
كانت ما تزال على الأريكة، تمسك بالسبحة، تهمس بالأدعية، تحدّق نحو الخزانة التي انقطعت منها الطرقات، لكنها لم تجرؤ على الاقتراب.
وفجأة...
خطوة.
ثم أخرى.
الصوت لم يعد من الطابق العلوي.
بل من الممر.
ذاك الممر الطويل المؤدي إلى غرف النوم.
كان الصوت واضحًا... خطوات لشخص يمشي حافي القدمين على أرضية الخشب.
"ما في أحد معي... أنا لحالي..."
همست، لكنها لم تكن متأكدة من صحة كلماتها.
قامت ببطء، قدماها بالكاد تحملانها، وبدأت تمشي نحو الممر.
الضوء الخافت من الغرفة خلفها لم يصل إلى نهاية الممر.
كل شيء كان مغطى بالظلال.
لكن مع كل خطوة تقترب فيها من بدايته... الصوت كان يبتعد.
كأن من يمشي فيه، يجرّها للدخول.
في منتصف الممر، توقف الصوت فجأة.
سُهى تجمدت.
أرادت أن تعود، أن تهرب... لكن شعورًا غريبًا، أقرب إلى النداء، شدّها للأمام.
وعند نهاية الممر، بجانب غرفة والدها المتوفى... كان الباب مفتوحًا.
تقدّمت أكثر، وكل خلية في جسدها تصرخ: "ارجعي!"
لكنها دخلت الغرفة.
ظلام دامس.
مدّت يدها نحو مفتاح الإضاءة، فاشتعل المصباح بصوت طقة سريعة... ثم خف نوره فجأة ليكشف ما على الجدار.
كلمات مكتوبة بالفحم أو بشيء أكثر سوادًا:
"هو ما خرج أبدًا..."
شهقت سُهى، وتراجعت للخلف... لكن الباب أغلق خلفها بعنف.
حاولت فتحه، سحب المقبض بكل قوتها، لكن لا فائدة.
ثم عاد الصوت...
الصوت في الممر... مجددًا... يقترب.
لكنها هذه المرة داخل الغرفة... لا يمكنها الهروب.
رفعت رأسها نحو المرآة القديمة بجانب السرير... وظهرت المرأة.
المرأة التي رأت ظلّها خلف الصورة.
لكن الآن، كانت تقف أمامها، بوضوح.
تبتسم.
.
.
سُهى حدّقت في المرأة التي ظهرت في المرآة...
ابتسامة باهتة، كأنها تعرفها منذ زمن، كأنها تنتظرها.
لكن الأغرب...
لم يكن هناك أحد فعليًا في الغرفة.
المرأة لم تكن في الواقع، فقط في الانعكاس.
سُهى حاولت أن تلتفت للخلف، لترى إن كان شيء يقف فعلاً... لكن لا شيء.
كل شيء في الغرفة ساكن، بارد، وكأن الزمن مجمّد فيها.
ثم بدأت المرآة تتعكّر، سطحها يهتزّ كالماء.
وفي وسطها... بدأت تظهر صور.
أشخاص. وجوه. رجال ونساء وأطفال.
كلهم يحدّقون، وكلهم يظهرون واحدًا تلو الآخر...
حتى وصلت الصورة الأخيرة.
كانت صورة سُهى.
لكنها لم تكن كما هي الآن...
كانت ممددة على الأرض، عيناها مفتوحتان، والسبحة إلى جانب يدها.
شهقت بقوة، وتراجعت إلى الخلف لترتطم بشيء...
لكنها لم تكن الجدار.
كان صدر أحدهم.
استدارت ببطء، عيناها تدمعان، وكل نفس فيها يرتجف.
كان والدها.
أو على الأقل... هيئته.
لكنه بدا مختلفًا، شاحبًا، عيناه سوداوان بالكامل، وصوته حين تحدّث خرج كهمس من قاع بئر:
"ما لازم تكوني هنا يا سُهى..."
قالها واختفى فجأة، وكأن جسده تلاشى في الهواء.
ثم فُتح الباب.
وخرج الصوت مجددًا...
الصوت في الممر... لكن هذه المرة لم يكن وحده.
كان يتبعه همسات... خطوات... وضحكة خافتة.
سُهى ركضت خارج الغرفة، الممر كان أضيق مما تتذكر، والضوء بدأ يخفت تدريجيًا.
لكنها لم تتوقف.
ركضت نحو السلم، وعندما وصلت إليه...
وجدت صورة لها معلّقة على الجدار.
صورة لم تلتقطها من قبل، لكن كانت حديثة... وفي الخلفية، ظهر نفس الظل.
تجمدت، لكنها سمعت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقها.
باب الطابق السفلي يُفتح.
الباب الذي لم تفتحه أبدًا، والذي ظنت أنه مغلق منذ سنوات.
وخرج منه صوت ثقيل، كأن شيئًا يُزحف من أعماق الأرض...
سُهى وقفت على رأس الدرج، جسدها يرتجف، وعيناها على باب القبو المفتوح.
الظلام تحرك في الأسفل... كأنه حي.
الصوت استمر، زحف ببطء، ثم توقّف.
ثوانٍ مرت، ثم خرج منه همس خافت جدًا... لكنه واضح:
"افتحي الخزانة."
التفتت سُهى نحو الخزانة القديمة في غرفة المعيشة، نفس الخزانة التي بدأت منها الطرقات.
كأن كل شيء... بدأ منها، وكأن كل شيء ينتظرها هناك.
ترددت.
ثم مشت.
اقتربت.
مدّت يدها ببطء نحو المقبض...
وفجأة، الهاتف رنّ.
صوت رنينه اخترق الصمت، صاخبًا، غير منطقي، كأنه جاء من عالم آخر.
كان موضوعًا على الأرض، أمام الخزانة مباشرة.
سُهى انحنت ورفعته، الشاشة كانت مطفأة... لكنه ما زال يرنّ.
وضغطت على "رد".
جاءها صوت أنثوي ناعم، هامس، مألوف:
"سُهى... لا تفتحي الباب."
ثم انقطع الخط.
سُهى رفعت عينيها ببطء نحو الخزانة...
وفي اللحظة التي همّت فيها بالتراجع...
انفتح الباب من تلقاء نفسه.
وانتهى الجزء الثاني
Comments