الهرب
الفصل الأول: الهرب
صوت الطبول كان يخترق أذنيها كالسكاكين، دقات ثقيلة، مجنونة، تتسابق مع نبضات قلبها المضطرب. عيناها تفتحان ببطء، محاطتين بضوء أحمر خافت، ورائحة دخان كثيف ممزوجة برائحة دم قديم.
كانت ماريا ممددة على منصة حجرية باردة، يداها مربوطتان بحبال خشنة تنغرز في جلدها، وفمها مكمم بقطعة قماش داكنة الطعم، بطعم الرماد.
أمامها، وقف عشرات من الأشخاص في دائرة، أجسادهم شبه عارية، تغطيها وشوم غريبة تتوهج تحت الضوء الأحمر. كانت عيونهم مغمضة، وأفواههم تردد تراتيل بلغة غريبة، لغة بدت مألوفة رغم غرابتها، كأنها محفورة في أعماق الذاكرة.
في وسطهم، وقف رجل طويل بجلباب قرمزي، وجهه مغطى بقناع معدني، وصوته خرج جهوريًا:
"اقتربت الساعة... دم المختارة سيفتح البوابة."
ماريا حاولت الصراخ، حاولت أن تفهم... من هؤلاء؟ ولماذا هي هنا؟ لكن شيئًا في أعماقها تكسّر. كانت تعرف أن هذا ليس حلمًا. هذه اللحظة حقيقية... وهذه هي النهاية.
ولكن... كيف وصلت إلى هنا؟
---
قبل خمسة أشهر
نسيم الربيع كان يداعب شعرها وهي تضحك بصوت صافٍ، تمشي وسط الغابة بصحبة أصدقائها في رحلة جامعية خططوا لها منذ أسابيع. كانت تحمل كاميرتها، تلتقط صور الأشجار والضحكات والوجوه السعيدة، وتحاول أن توثّق كل لحظة.
إلى جانبها كان شون، حبيبها، الذي تعرفت عليه منذ السنة الأولى في الجامعة. كان وسيمًا، هادئًا، يملك ابتسامة تبعث الطمأنينة، ونظرة تشع دفئًا. بينهما كانت هناك قصة حب ناعمة، لا يصرخان بها، لكنها تُرى في أبسط تفاصيلهما.
"ماريا، انتظري!"
ركض خلفها، ممسكًا بزجاجة ماء، لاهثًا بابتسامة مرهقة.
"قلت لكِ ألا تبتعدي عن المجموعة."
"كنت ألتقط صورة... تلك الشجرة هناك تبدو وكأنها خرجت من عالم خيالي."
"كل شيء يبدو خياليًا حين تنظرين إليه، حتى الصخور."
ضحكت بخفة، ثم وقفت تستنشق الهواء. اقترب منها، أمسك بيدها، وقال:
"أتعلمين؟ حين نعود... أريد أن أخبر أمي عنك."
"حقًا؟"
"نعم. أريدكِ أن تكوني جزءًا من عالمي، ليس فقط هنا، بل بعد الجامعة أيضًا."
سكتت للحظة، ثم ابتسمت، بعينيها أكثر من شفتيها. "أنا فعلًا أحبك، شون."
قبّل يدها، ونظر في عينيها طويلاً دون أن يتكلم. لم يكن هناك حاجة للكلمات.
---
كانت الرحلة تضم عشرة طلاب، لكل واحد منهم طابعه الخاص. هالة، صديقة ماريا المقربة، كانت فتاة مشاكسة، مرحة، لا تهدأ. ليان، كانت صامتة، تقرأ كثيرًا وتلاحظ أكثر مما تتحدث. آدم، منظم الرحلة، شاب مهووس بالمغامرات، لا يعرف الخوف، ويحب السيطرة. ريان، كان دائمًا يمزح، حتى في الأوقات غير المناسبة.
في الليلة الأولى، اجتمعوا حول نار المخيم. الحطب يت crackle، والضحكات تملأ المكان.
"أخبرينا يا ماريا..." قال آدم وهو يرشف قهوته، "ما سر تلك النظرة الحالمة؟ هل وقعتِ في الحب مجددًا؟"
"بل ما زلت غارقة فيه." ردّت ماريا وهي تنظر إلى شون، الذي ابتسم بمكر.
"لحظة رومانسية جديدة؟" قال ريان ضاحكًا.
"بل قصة لا تنتهي." أجاب شون وهو يلف ذراعه حول ماريا.
الجميع ضحك، وتشاركوا القصص والمواقف. كل شيء بدا مثاليًا... حتى تلك الليلة.
---
في اليوم الثالث، ظهر مارك.
شاب غريب، دخل عليهم في منتصف النهار، من طرف الطريق المؤدي إلى الغابة. طويل القامة، شعره داكن، وعيناه بلون غريب، مزيج بين الرمادي والأخضر. على ذراعيه وأجزاء من صدره المكشوف كانت هناك وشوم، ليست عادية... رموز معقدة، دوائر، عيون، أشكال تشبه الطلاسم القديمة.
"من هذا؟" همست هالة لماريا.
"لا أدري. يبدو وكأنه من خارج الجامعة."
"أو من خارج العالم." ضحكت هالة بخفّة، لكن ماريا شعرت بانقباضٍ في صدرها.
مارك عرّف نفسه ببساطة: "سمعت عن الرحلة من أحد الزملاء، وقررت اللحاق بكم."
آدم، كعادته، رحّب بأي مغامر جديد. "مرحبًا بك، كلما زاد العدد... زادت المتعة."
لكن المتعة بدأت بالاختفاء من لحظة وصول مارك.
---
تلك الليلة، لم يضحك أحد كما في السابق. كانت ماريا تنظر إلى النار، وتشعر بأن شيئًا تغير. حلمت بكوابيس، أصوات همسات، وشعور بالبرد يخترق عظامها.
وفي الحلم، رأت وجه مارك... لا يبتسم، لا يتكلم... فقط يحدّق.
---
ثم بدأت الأمور الغريبة.
أدوات اختفت من المخيم. طعامهم نُقل من مكانه. شجارات صغيرة بدأت تندلع بين الأصدقاء، وكأن توترًا غير مفسر بدأ يشتعل. ليان أصبحت صامتة أكثر من قبل، وهالة لم تعد تضحك كثيرًا.
وفي صباح اليوم الخامس، اختفت ليان.
لم تكن في خيمتها. لم يرها أحد منذ العشاء.
"ربما ذهبت للتنزه وحدها." قال مارك، لأول مرة يشارك برأيه.
لكن ماريا لم تصدق ذلك. شيء في داخله كان مظلمًا. نظراته، صوته، وحتى وجوده... كان كأنه ظل.
ومن هنا، بدأت رحلة الهرب فعلاً.
Comments