لم تعد إلين ترى الأشياء كما كانت. منذ أن فتحت ذلك الباب ونزلت إلى السرداب، تغير كل شيء. البيت، الذي كان يوماً مكاناً يحمل ذكرياتها، أصبح أشبه بفخ مغلق بإحكام. صوت الأبواب وهي تُغلق فجأة، ظلال تتراقص على الجدران دون مصدر ضوء واضح، والهمسات الخافتة التي لم تعد تستطيع تجاهلها.
كانت تجلس في زاوية الغرفة التي كانت مليئة بالغبار. الأوراق المبعثرة حولها تحمل كلمات لم تفهمها، وكأن الحروف تتحرك تحت عينيها. يداها ترتعشان رغم دفء الغرفة، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة غير طبيعية. كان هناك صوت داخلي يخبرها أنها فقدت السيطرة، لكن شيئاً آخر يدفعها للمضي قدماً، وكأنها مدفوعة برغبة مجهولة.
ليالٍ بلا نوم.
كانت تجلس أمام المرآة، تتفحص ملامح وجهها وكأنها تبحث عن شيء ضائع. تحت عينيها هالات داكنة تشبه ظل الليل، وابتسامتها التي كانت يوماً تضيء وجهها صارت مجرد خط باهت. لا تتحدث كثيراً، حتى مع نفسها، لكن صمتها لم يكن هدوءاً؛ كان أشبه بصراع مكتوم، كأن عقلها صار ساحة معركة تتراكم فيها الأفكار حتى تتداخل وتتلاشى.
في أحد الأيام، استيقظت لتجد آثاراً على ذراعيها. لم تكن تعرف كيف حدث ذلك، لكنها شعرت وكأنها شاهد على حدث لم تحضره. كان عقلها مشوشاً. هل كانت تمشي أثناء نومها؟ أم أن هناك شيئاً في هذا البيت يعبث بها؟ لم تسأل أحداً، لم تخبر أحداً، لكنها كانت ترى نفسها تتفتت ببطء، كسفينة تتآكل بفعل العواصف.
الزوايا الحادة
بدأت إلين ترى أشياء لم تكن هناك. وجه والدتها ينعكس في زجاج النافذة للحظة قصيرة، عيناها مليئتان بالرجاء والخوف. أحياناً، كان صدى صوتها يتردد في أرجاء المنزل، يهمس بكلمات مبعثرة: "إلين... لا تنسي من تكونين". لكن كلما اقتربت من مصدر الصوت، كان يختفي، ويتركها وحدها مع فراغ أشد وطأة من الوحدة نفسها.
كانت تحاول أن تأكل، لكن اللقمة في فمها كانت تشبه حجراً. تتفادى النظر إلى انعكاسها في الأطباق، وكأنها تخشى أن ترى شيئاً آخر غير صورتها. الكتب التي كانت تعشق قراءتها أصبحت مجرد كتل من الورق، وعندما حاولت الكتابة في دفاترها، اكتشفت أن كل كلمة تخطها تشبه خدشاً عشوائياً على سطح أملس.
الغرق البطيء
في إحدى الليالي، جلست إلين في غرفة نومها، تمسك بيدها ساعة والدتها القديمة. كانت عقارب الساعة تدور عكس الاتجاه، لكنها لم تفعل شيئاً. مجرد النظر إليها جعل صدرها يضيق. رفعت رأسها لتنظر إلى المرآة، ولكن ما رأته لم يكن صورتها. كان هناك ظل يقف خلفها، يحدق بها بعينين فارغتين. لم تصرخ، فقط حدقت طويلاً حتى شعرت بشيء ثقيل على كتفيها.
كل شيء من حولها صار وكأنه يتهامس خلف ظهرها. حتى صرير الأرضية بدا وكأنه يسخر منها. شعرت بأنها غريبة عن نفسها، وكأنها عالقة بين عالمين، غير قادرة على الانتماء لأي منهما.
رسالة في العتمة
وفي لحظة من الإرهاق المطلق، عندما كانت تجلس على الأرض محاطة بفوضى الأوراق والكتب، مدت يدها لتلتقط ورقة واحدة بدافع غريب. عليها توقيع والدها. توقفت للحظة، ثم بدأت تقرأ:
"إلين، عندما تصلين إلى هذه النقطة، سيكون الأوان قد فات. نحن آسفون على كل ما حدث، لكنك الآن... مسؤولة عن إنهاء ما بدأناه. العالم الذي فتحنا بابه ليس مكاناً ترغبين بالعيش فيه، لكنك جزء منه الآن. تذكري: ليس كل الظلال أعداء. بعضها يريدك أن تنجحي. والبعض الآخر يريدك أن تفشلي. احذري من نفسك، لأنك قد تكونين أسوأ عدو لكِ."
أغلقت عينيها للحظة، لكن الورقة كانت لا تزال بين يديها، أثقل من أي شيء حملته من قبل. كل شيء أصبح أوضح وأعمق وأكثر غموضاً في آنٍ واحد.
---
Comments