" عين رعد" [ بلسان رعد ]
أنفاسي ثقيلة .. العبء أثقل .. أشعر أنني أغرق .. المكان مظلم، بارد، جاحد !،
إلى أين يجب أن أتجه .. أين سبيل النجاة ؟!! لا أعلم أين هي الإتجاهات .. ! كلها تشير إلى الأسفل، إلى القاع .. إلى الضياع .. إلى المجهول .. إلى المهول !
أين أنا .. كيف وصلت إلى هنا ؟!
النجدة،، فليلتقطني أحدكم ..
النجدددة أنا أهوي ..
النجدة،،
ألا يسمعني أحد ؟!
سحقاً .. أتوسل إليكم: ساعدوني .. النجدددددددددددددددددددددددددددة
أطلقت صيحة الحشر ! أو تهيأ لي أنني فعلت .. لكن لِمَ لم يحضر أحد ؟!
– مهلا…. أتراني أخطأت وأطلقت نقيضتها ..هل هم خامدون ؟!
كلا .. كلا .. هذا أمر مستبعد!
فحتى أنا كنت عاجزا عن سماع أي شيء !
فمهما صرخت .. لا أسمع أي شيء.!
لا حشرجة .. لا أنفاس منهكة .. لا نبرة أخرجها ..
و لا صدى يعود إلي ..
لا صوت لضميري .. ولا أزيز لشياطيني!
الصمت هو المهيمن!
أحب الهدوء .. من لا يحبه؟ يتيح لنا تصفية أذهاننا ! لكن الصمت المطبق مخيف!
ليس ثمة أسوأ من أن تكون محاطا بالحمقى وبؤس الحياة الصاخب، إلا أن تكون محاطا بك أنت واللاشيء .. من يظن أن الوحدة أمرٌ جيدٌ، لم يفكر بعد في شكلها المطلق!
أن تكون لوحدك في الفراغ .. لا شيء يصحبك، لا أفكارك .. لا اذكارك .. لا رغباتك .. لا صلواتك ..لا مادتك .. لا ارادتك .. لا صفاتك ..لا علمك .. لا جهلك .. لا مهلك ..لا عجلتك .. لا اسمك .. لا رسمك .. لا حِلمك .. لا هوسك .. ولا نفسك التي اعتدت الحديث إليها .. لا شيء عداك ! أنت فقط .. و العدم المطلق .. أليس هذا مخيفاً ؟!
– أوافقك الرأي .. وحقيقة أننا نقف عاجزين عن تخيل واستيعاب ذلك تجعل منه أكثر إخافة حتى! فمجرد التفكير في العدم ينفي عدميته ! ومجرد تخيل اللاشيء يصنع منه شيئاً !
هكذا قاطعني صوت غريب لم اسمعه من قبل .. وكرضيع استيقظ، فجأة، ليجد نفسه في الخمسين بعد الثلاثمائة .. صعقت متبلداً، لا أدري أيهما أشد وطأة: ما سمعته، أم كوني سمعته ؟! ؟!
– ما هذا .. صوت من يكون .. مايكون .. ماهو .. ؟!!
أيعقل أن ثمة شيئاً لا أعرفه يعيش بداخلي ؟!
كنت أصارع عبث التساؤلات ومحاولاً فهم مايجري، قلت:
– ممممم .. ممممهلاً .. ممن ..!!!
لكنه أزهق حياة محاولتي مقاطعاً:
– اخرس واستمع إلي جيداً !!
لن تعي أبداً حقيقة الوحدانية إن لم تعِ حقيقة العدم!
ألا يبعث هذا على الشعور بالرهبانية والخشية ؟
أن تدرك أمراً لايسعك إستيعابه ؟!
من كان يظن أن الصفر والواحد بهذه الإستحالة ؟!
يمكنك أن تكون بمفردك لوقت طويل لكنك لن تكون لوحدك طرفة عين،
سيظل هنالك شيء ما، أمر ما، أحد ما، يرافقك أينما ذهبت.
حتى وأنت في غياهب ظلماتك أيها الغريب، ثمة أشياء ستصاحبك على الدوام!
الظلمة .. الخوف .. البؤس .. وأنا!!
لم أكن أرَ شيئاً سوى الظلام، لم يكن للصوت اتجاه معين .. بدا وكأن الظلمات نفسها تتحدث! كنت أصغي، لكنه ليس كصوت عادي أقوم بسماعه بأذني .. كلا بل كان أمرا يجبرني على الإصغاء له بحواسي الخمس مجتمعة .. ومخاطباً إياه بها مجتمعة أيضاً سألته:
من أنت إذاً، وماذا تفعل في الداخل ؟!
ليرد قائلاً:
– هذا سؤال يفترض بي أن أوجهه لك، أنت من يقف على العتبة، أما أنا كنت في الداخل منذ البداية .. لذا فلتجبني بدورك، من أنت أيها الغريب الطارق ؟!
على أمل أن يخبرني عن هويته، أجبت:
– أنا رعد الميموني.
ليرد نافياً:
– هذا اسم أطلقه عليك والدك ولقب اكتسبته من قبيلتك!
هذا لست أنت، غبي مثلك لايعرف بعد من يكون .. ما الذي أتى به إلى هنا ؟!
لم أكن أعلم أن سؤالا مثل هذا قد يحمل في طياته لغزا محيرا! تساءلت في نفسي:
– من أنا فعلاً .. ؟! ماخطب العمق اللامتناهي للصفر والواحد أيضاً .. ؟! ما الذي أقحمت فيه ؟!
يا إلهي!!
صرخت باكياً:
– بحق الواحد الأحد الذي خلق الصفر والعدم ثم خلق كل شيء منهما، فلتخبرني من أنت وما الذي أفعله هنا ؟!
ليجيب هادئاً كعادته:
– أنا البرزخ الذي يفصلك عن الوحدانية! أنا السقف المضيء والقاع المظلم، أنا العرفان والجنون!! أنا العالم المكنون في الأعماق السحيقة ..
أنصت أيها الغريب التائه .. قد تفقد الكثير في حياتك .. أمك إن خذلك الدواء .. ثقتك إن خذلتك الظروف .. شقيقك إن خذلتك الحرب .. أصدقاؤك كذلك .. لكنك لن تفقد "نفسك" إلا إن خذلك إيمانك! ويبدو أنك خذلت وقذف بك إلى هنا.
هذا مايحدث عندما تؤمن بمن لايرقى، وتكرس حياتك لمن لايستحق، وتعقد آمالك على قشة وتقوم بقطع المسافات، ظناً منك أنك على الطريق .. لكنك غريق، و سهم بوصلتك لم يكن إلا حد مقصلتك، وسمو منزلتك لم يكن إلا حلقات سلسلتك التي ستجرك إلى قعر الجحيم!
سكتَ لبرهة .. واستأنف قائلا:
– لقد داهمك بلا شك ذلك الإحساس الثقيل بالخجل من نفسك، ما دفعك إلى لومها وشتمها والسخرية منها معتقداً أن النكات ستفي بالغرض .. لكنها لم تفعل، الأمر الذي أرغمك على كرهها وبغضها ثم إضاعتها، لينتهي بك الحال تطرق بابي لا تعرف ما تريد!
اسمع .. هل فقدت والدتك ؟! .. ليس بعد ؟!
ستفقدها .. ولن ينسيك ألم ذلك إلا ألم فقدان نفسك كما لن ينسيك ألم فقدان نفسك إلا ألم فقداني ..
يحدث ذلك إن خذلت أنت إيمانك، إياك أن تفعلها، فما أن أضيع لايمكن أن أعود!
كان هذا آخر ماسمعته منه .. ثم شعرت به يبعدني .. يعيدني إلى السطح، ويدفعني إلى الخارج ..
عادة مانجلس مع أنفسنا .. نادراً ما نجلس مع الجنون .. مطلقاً ما نكون لوحدنا، إن بداخل كل شخص منا عالما مدهشا لانعرف عنه شيئاً.
شيئا فشيئا عدت إلى جسدي الذي كان يجلس مطفأ تحت الشجرة، بدأت استمع إلى الأصوات المحيطة بي وأرى شجرة الزيتون و سرمد وزئبق وقسورة وحسم على الطاولة التي نجلس عليها .. لم أكن أعرف أي حديث يدور .. فقد كنت في رحلة بحث عن نفسي التائهة إنتهت بإيجاد ما هو أشد وأكثر قيمة منها .. وهذا ما أعرفه الآن ..!!
– لا أدري ما الذي اتفق عليه هؤلاء الأربعة من حولي!
لايهم .. فقد سبق وأن اتخذت القرار .. لقد آمنت بعزازيل وكرست حياتي لأجله، وفقدت نفسي بسببه .. الآن سأرسله للجحيم للبحث عنها .. و لن أؤمن بعد الآن إلا بمن لايخذلني .. الواحد الأحد، خالقي وخالق عزازيل !
نهض حينها "حسم" بهدوء وغادر،
– لم يعد لدي ما أفعله"
هذا كل ماقاله قبل الرحيل .. رحلت كارثة وتبقت أربع .. قال زئبق:
– لقد غادر المريب كعادته .. لا عجب أن سجله خال من الهزائم، كيف يهزم رجل لم يخض أي معركة ؟!
قاطعه سرمد:
– هذا ليس وقت الأحاديث الجانبية .. ستصلنا تعليمات النقل عما قريب، علينا أن نكون في أتم الإستعداد ..
كانت تلك هذرمة الصخب ليس إلا .. تمتمت:
– من يهتم بإجراءات النقل إذا كان الطرد هو عزازيل نفسه ؟! ألا يعي أحد غيري حجم الحدث ؟!
التفت لأجد قسورة بيننا، وبذهول صرخت:
– مهلاً ماذا يفعل قسورة هنا ؟! من يتولى حراسة المدان ؟!
وقبل أن أتلقى أية إجابة، سمعت صراخ صمصام آت من اتجاه الزنزانة:
– النججججججججججدة
ليس ثمة أسرع من الضوء إلا صوت صرخة خائف .. ودون أي تردد .. انطلقت كريشة برق خاطف، لايسعني التأخر عن شخص خائف .. ربما هذا ما يميزني، إن كان ثمة من يستنجد فأنا سأظهر أمامه وإن أجبرت على مجابهة التنين.
كنت أول الواصلين، ولذلك تمكنت من اللحاق بآخر لحظة قبل أن يخفي عزازيل وجهه الحقيقي المشوه المقزز .. كلا ليس عزازيل .. بل المسخ القبيح الذي تم رجمه .. لحق بي البقية بلحظة هي أقل من أن تحسب!
صمصام المسكين كان ملقى على الأرض كجثة هامدة، أما أنا فقد كان البرق يلمع في عيني منبئاً عن استعدادي لتوجيه ضربة قاضية ! هذه فرصتي .. سأقسمه إلى نصفين هو والجبل الذي وراءه .. سأنهي كل شيء هنا وحالاً ..
إتخذت وضعية القتل، أمسكت بقبضة سيفي، لم تكن يدي وحدها على المقبض .. يد سرمد أيضا كانت ممسكة به، منعتني من إستلاله .. قلت بحزم:
– ابتعد يا سرمد .. هذا لم يعد عزازيل الذي نعرفه.
أجاب:
– أعرف ذلك، ولكن هذا ليس ما دفعني إلى منعك
أنا مستغربا:
– ما الذي تعنيه ؟
سرمد وهو يشيح بنظره إلى الأعلى:
– أنظر !!
وجهت نظري إلى حيث أشار سرمد .. كان ثمة كيان غريب أول مرة أشاهده .. لكنه قوي يفوق كل شيء عرفته وشهدته، مجرد النظر إليه أجبرني على العزوف عن رغبتي ..هدأت قليلاً ..
سرمد بمحاذاتي أرخى قبضته، لقد مرت العاصفة .. قسورة وزئبق يقفان خلفي .. العملاق مضطرب، أنفاسه التي تعبث بريشة الخوذة تظهر ذلك، الأفعى هادىء .. على غير العادة .. لكن إن كان هنالك من يمثل الهدوء التام فهو صمصام! الذي لا تظهر عليه أية علامة للحياة.
أما عزازيل المسخ الرجيم، يقف في الداخل يطالعني وعلى وجهه إبتسامة شر ما لبثت أن أصبحت ضحكة هيستيرية، وبشهقات ضاحكة تحدث ساخراً يخاطبني:
– هذا مثير للإهتمام، ألم تكن منذ برهة جاثماً على ركبتيك، مرتعداً عاجزاً عن الوقوف أمامي، وباكياً كطفل صغير أضاع والدته ؟!
ما الذي حدث إذاً .. هل وجدتها ؟! أخبرني أين هي ؟! هل هو هذا العجوز "مشيراً لسرمد" .. أم هو العملاق الذي خلفك "يقصد قسورة" .. كلا، لا تقل ذلك!! هل هو القبيح ذو لحية الماعز، يا لزفرة جهنم .. هذا أسوأ بكثير من إضاعتها، تخلص منها فوراً يا فتى!
ثم ضحك بهستيرية وانحنى ممسكاً على بطنه بإحدى يديه وضارباً بالأخرى القضبان الحديدية مصاباً بنوبة ضحك مردداً:
– يا لزفرة جهنم .. هاهاها سيغمى علي ها ها ها!!
هل سبق وأن رأيتم طفلا شقيا في مأتم عزاء؟ هكذا كان يبدو المشهد، جميعنا صامتون، وهو يقهقه ضاحكاً بجنون! .. توقف لوهلة واستقام بجسده .. و بينما هو يمسح لعابه ودموعه سألنا مستغرباً:
– لم أنتم بغاية الجدية .. هل النكتة سيئة؟
ثم رمق صمصام وأكمل:
– أوه، لقد فهمت الآن .. هذه هي إذاً .. هذا يفسر التجهم والحزن على وجوهكم، سامحوني على فظاظتي لقد نسيت أمره تماماً .. ما كنت لأهزأ أو أسخر من أحد قد تعرض لمكروه .. قد أكون منفياً لكني لست شيطاناً كما تعتقدون!
كانت معرفة الكذوب سهلة بالنسبة لنا، نبضات قلبه، نبرة صوته، حركة عينيه، إتساع بؤبؤيه، والكثير من العلامات التي لايمكن لأي كائن إخفاءها .. لم يكن لأي كذبة أن تمر علينا دون أن نلحظ! ما كنا لنصبح كوارث إن أمكن ذلك .. بيد أن هذا لم يكن يبدِي أية علامة على الكذب!! كان صادقاً أكثر من أي أحد قابلته ..!!
لكنني رأيت وجهه الخبيث، ربما لم ير هؤلاء ذلك .. لكني رأيته .. هل كنت أتوهم ؟! كلا .. لم يكن ذلك وهماً بل يقينا رأيته وشعرت به! لا بد أن الجميع في حيرة الآن!
وقف عزازيل ونظرة الأسف تعلو وجهه وأكمل قائلاً:
– هدئوا من روعكم .. فصديقكم ما زال يتنفس .. ربما لم تلاحظوا ذلك بسبب درعه الغبي!
ثم تنهد واسترسل:
– حاولت مساعدته .. لكن لم أفلح، صرخ مذعوراً المسكين ظن أني أريد أذيته! كنت أحاول فقط إنقاذه من عقرب الزرنيخ الذي قام بلدغه على رقبته! لكن لقسوة القدر، القضبان حالت بيني وبينه!
لحظتها هرعت على جسد صمصام، لقد كان يتنفس بالفعل، وما صعقني هو وجود ثلاث نقاط حمراء على عنقه! إنها آثار لدغة، لاشيء غيره يترك هكذا ندبة .. إنه عقرب الزرنيخ!
– أيعقل أنه يقول الحقيقة .. هذا غير منطقي!
هرع جنود صمصام للاطمئنان عليه، فقد كانوا واقفين خلفنا كأشباح شاحبة .. لقد سمعوا صرخته آنذاك ورأوا وسمعوا المحادثة كذلك .. هموا لأخذه من الأرض بينما هم يبكون مرددين عبارات ساذجة:
– سس سسي سيدي .. أ أنت بخير ؟!! حمداً لله على سلامتك، اعتقدنا أننا فقدناك .. سحقاً للعقارب اللعينة!
كانت عين عزازيل تبرق شراً وشررا وهي ترقبهم، كأنه شيطان مارد عثر على ياقوتة النعيم! وشرع يصفق بيديه كمن يشاهد ملحمة قديمة، وخاطبهم قائلاً:
– رائع يا أصدقائي .. هذا ما يجب أن يكون عليه الجنود الأوفياء، لا شك أن لديكم تماثيل تذكارية في مركز كل اقليم من الأقاليم السبعة.
إفناء حياتكم في هذا المكان البائس ليعيش أسيادكم في رغد وهناء .. هذا أمر يدعو للإحترام لا شك أنكم تحظون بالتقدير الكافي من قبلهم ..ولكن يؤسفني إخباركم أن قائدكم المحبوب لن يذهب لأي مكان معكم، بل سيأتي برفقتنا!!
كنت واقفاً أتساءل وأفكر:
– ما الذي يقوله ؟! ما بال الأحاجي لا تتوقف عن التدفق من هذا اللعين ؟!
وبينما نحاول فك أول شفرة، يباغتنا بالثانية ويتبعها بالثالثة ثم الرابعة فالخامسة .. ما زلنا في دهاليز الأولى ؟!
كان هذا كثيرا علينا .. كنا كمجموعة يعاسيب عالقين في شباك عنكبوت فتباغتهم العقارب! هذه المتاهة تبدو سرمدية بلا نهاية ..
وبينما كنت أهلوس ... ودون أي سابق إنذار .. توهجت السماء بضياء أزرق قاتم مزق ثوب الظلمة الموحش .. لم تكن كرة مشتعلة .. ليس مذنباً تائها .. لم يكن القمر يهوي إلينا بوجهه المكتمل .. كان مجرد خيط ضياء أزرق غير متقطع .. يشع بترف .. وقادما إلينا من علو شاهق، إمتداده يتجاوزمنزلة الأسد مخترقاً سديم الميزان .. كنت أتمتم:
– القادم ثقيل .. أشعر بذلك .. الجميع يشعر بذلك .. لا نعرف ماهو لكننا ندرك أنه أمر كبير .. يبدو أن المفاجئات لن تتوقف عن الظهور.
وصل شعاع الرهبة .. شجرة الزيتون المباركة كانت مستقرة، نادراً ما رأيت سرمد يقف مذهولاً، لكنني لم أره قط جاثماً على ركبتيه مستسلماً بلا حول ولا قوة كهذه المرة! هذا ينذر بأن الوافد شيء أشد من الذهول نفسه ..
شع النور في ديجور البؤرة .. جثونا كلنا خانعين .. شيء ما أرغمنا على ذلك .. عزازيل وحده من بقي واقفاً والحقد يملؤ عينيه ..
صوت يثير الرهبة تردد في الأرجاء قائلاً:
– أيتها المخلوقات الفانية، اقترب ميعاد الأجل، إن هول الساعة جلل، حي على خير العمل .. حي على خير العمل .. حي على خير العمل .. طوبى لعباد الله .. وبئسا للمتكبرين ..
لم نكن قادرين على رفع رؤوسنا ورؤية من يقف هناك، لكن هذه الهالة المهيمنة وهذا الشعور بالثقل والعجز الذي افترس جوارحنا وحواسنا لا يفرضه إلا كيان هو من مستوى آخر.
حتى عزازيل الذي ظل واقفاً .. انحلّ رباط جأشه وهوى بوجهه وجسده إلى الأسفل .. لم يكن جاثياً على ركبتيه مطأطئا لرأسه كحالنا .. كلا!
بل إن جسده بأكمله ملقى على الأرض عاجز عن الوقوف وكأن "المشتري" يسحق ظهره!!
اختفى الصوت لبرهة، لكن الرهبة لم تفعل، بل زادت وتعاظمت .. ثم أكمل مجلجلاً:
– إنه بسم الله الرحمن الرحيم وإنه من حامل المفتاح إلى حاملي عبء الحقبة الجديدة.
سلام من الله عليكم وحرب على المتكبرين .. لقد وصلكم المنفي بعد أن كشف مكره الخفي .. قد حقت عليه اللعنة واستحق العذاب ..
اعلموا أن الله لا يعجزه شيء ..وأن وعده كان مفعولا ..
خمستكم بعد استيفاء النواميس، واستحكام القراطيس وإعلام الفوانيس .. خذوا الرجيم إبليس إلى مستقر بؤسه وتعسه .. متاع إلى حين ..
والله المستعان .
والله غالب على أمره ولو كره الكافرون
اختفى الصوت .. تلاشى الضوء شيئا فشيئا .. رحل الوافد العظيم لكن رهبته مكثت في المكان .. كنت جاثياً على ركبتي ملتفتاً إلى سرمد سائلاً إياه:
– مم مم .. ما هذا يا سرمد، أخبرني بحقك ؟!
سرمد الذي كان مصعوقاً مكانه، تكاد عيناه أن تنفجرا، أجاب بخشية:
– هذذذ .. هذا هو حامل مفتاح "الجبروت" يا رعد .. أحد جنود الله العظماء الذين نادراً ما يظهرون .
قلت معقباً على حديث سرمد:
– ظننت أن الرسل لاتنزل إلا عبر "مهبط البركات"! هذا الشعاع اخترق المكان من فوقنا مباشرة!!
سرمد بصوت مرتعش:
– هذا لا ينطبق على هؤلاء يا رعد، ممثلوا مشيئة الرب سيظهرون متى و أنى يريدون.
زئبق مقاطعاً كعادته:
– ما الذي يعنيه بخمستنا .. هل أخطأ أم ماذا، أيعقل أنه لم يلحظ غياب حسم ؟!
ليجيب سرمد صارخاً:
– أحمق!! أتظن أن هؤلاء قد يخطئون في أمر ما ؟!
ثم نهض نافضاً للثلج الذي غطى ركبتيه، حاملاً صولجانه ..
ضحكة عزازيل -أعني إبليس- الخبيثة قاطعت رهبتنا، وهو يقول:
– ألم أخبركم أنه سيرافقنا .. " مشيراً إلى صمصام الذي كان مايزال فاقداً للوعي" ..
وأكمل موجها حديثه نحو زئبق:
– هذا هو خامسكم أيها النحيل البليد!!
رمقنا سرمد بنظرة مهيبة، ثم قال:
– لقد صدق الكذوب .. جهزوا أنفسكم للرحيل، فالطريق طويلة! والمراسم شاقة !
مر "سرمد" من خلالنا كريح خريفية تصرم أوراق الشجر .. بينما أنا كنت كغصن توت عارٍ، أحملق فيه ببلاهة وهو يحزم أغراضه ويجهز العربة ويستعد للمغادرة، وأحدث نفسي متسائلاً:
– مهلاً هل قلت نفسي ؟! هل وجدتها .. متى .. كيف .. أين ؟! هل أضعتها أساساً ؟! ربما هي تطفو على السطح منذ البداية!
يااااااااا لتعس ميمون .. ما الذي كنت أفكر فيه!!
لا أحد يذهب للمنطقة العميقة بحثاً عن نفسه!
الأنفس تهوى الضفاف تفضل الأسطح تحبذ القشور،
لا تغطس إلى المكنون بملء إرادتها .. عليك جرها مرغمةً إن أردت اصطحابها إلى أعماقك ..
إليك الأخبار الجيدة إذاً: إذا شعرت أن "نفسك" ضائعة ستجدها على السطح بمقربة منك، لا داعي للذعر!
إليك الأخبار السيئة: العثور عليها ليس بالأمر الهام، لا داعي للإحتفال! لم تعثر على حجر الفلاسفة، بل مجرد "نفس" تطفو بجانب مثيلاتها!
فقدان النفس تجربة مؤلمة ستعلمك دروساً عدة، أهمها: أن العثور عليها لم يعد أمراً ذا قيمة!
وجدت نفسي التائهة، ولكن من يكترث الآن .. مايهم أنني وقفت أطالع سرمد ببلاهة وأحدث نفسي متسائلاً:
– نجهز أنفسنا للرحيل!! بهذه البساطة .. حقاً ؟!
ما خطب هذا العجوز البارد ؟! كيف أصبح صمصام خامسنا ؟! ماذا عن لدغة عقرب الزرنيخ تلك ؟! ما كان ذلك الكيان الواقف أعلى الجبل .. لم لم يتم إخبارنا عن هوية المنفي ؟! ماذا اقترف أساساً ؟! لماذا أتت التعليمات من حامل مفتاح الجبروت ؟! هل يعلم السبعة الكبار أي شيء عن نوع الحمولة التي ننقلها إليهم ؟!
شلال من الأحجيات التي لانملك لها أية إجابة، وهذا العجوز الكروبي يتصرف كأنها مهمة روتينية!
فجأة صوت جهوري شق بحر تساؤلاتي:
– رعد .. رعد .. يا حضرة الكارثة رعد!! ما بك شارد الذهن، هيا سنتأخر!
لقد كان صوت سرمد من أيقظني من سبات الحيرة .. وأعادني إلى المشهد الذي كنت غائباً عنه، لقد أنهى الجميع تحضيراته للرحيل.
"سرمد" على متن وسيلة النقل المعدة والمجهزة،
عربة خشبية قديمة نحت على سطحها نجمة سداسية يقبع في منتصفها قفص خشبي متهالك مخصص لإحتجاز المدانين والمحكومين ونقلهم،
ويجرها ثلاثة حمير سوداء تقيدها سلاسل غليظة خطامهن في يد سرمد الذي سيتولى قيادتها .
"زئبق" بكامل عتاده ممتطياً ثعباناً فاقع الصفار مهول الحجم لا يكف عن الفحيح، والسلاسل متدلية من أكمام ردائه .. "قسورة" فأسه الكبير المزخرف يزين ظهره .. بينما يقف على متن المزلجة الحديدية الضخمة التي تجرها ثمان ضباع وحشية ..
كان "صمصام" يرقد بلا حراك على المزلجة الحديدية الخاصة بقسورة .. أما الستة والأربعون جندياً لم يستعيدوا وعيهم بعد .. لقد أغمي عليهم بفعل هالة الشعاع الأزرق، وما زالوا كذلك .
رمقني سرمد بحزم، لم أنتظره ليتحدث، سارعت بحزم أمتعتي .. أسرجت خيلي .. حصانا أسودا ضخما تزين جبينه علامة بيضاء ويملك جناحين عملاقين .. امتطيته وعدت إليهم .. كانوا بجوار الزنزانة .. ينتظرون مجيئي ..
– لاعجب أنهم بكامل عتادهم .. علينا إخراج إبليس ووضعه في القفص، أليس كذلك ؟!
وصلت إليهم .. ترجلت ووقفت بجانبهم عند باب الزنزانة.
كان إبليس يجلس مسترخياً في الداخل بإبتسامة صغيرة يطالع توتر أعصابنا متلذذاً ..
أنهى سرمد لحظة الصمت الباردة تلك قائلاً:
– سأقوم بفك طلسم القيد من على الباب،
زئبق .. كن متحضراً لتقييده مجدداً إذا ماحاول الهرب .. قسورة .. يفضل أن يكون فأسك في يمينك .. رعد .. إياك أن ترخي دفاعك .
وقف إبليس حينها ورد بهدوء:
– هون عليك أيها الكروبي، لست أنوي إثارة المتاعب .. لو أردت .. فلن يمنعني أحد!! لذا افتح الباب بهدوء ودعني أصعد إلى العربة اللعينة فحسب!
ثم ضحك قائلاً:
– سبعة آلاف عام .. ولم تنضج بعد!؟ افتح الباب ..
صاحَبَت هذه الجملة ريح باردة أطفأت المشاعل التي على جدران الزنزانة ..
"افتح الباب" .. بدى وكأنه ملك يأمر حاجباً، لا سجينا في وجه سجان .. لا أدري أيهما أشد رعباً، سكون المقابر أم صخب الإعصار .. لكن هذا الرجل كان يحملهما معاً !
ابتسم سرمد وعيناه تتقدان لهبا أزرقا مهيبا .. أشعل نيران المشاعل مجدداً وأجابه قائلاً:
– بالمناسبة، أبلغ من العمر 6999 عاماً، وأنا ناضج بما يكفي لأتجنب الوقوع في البؤرة!
كلمح البصر اندفع إبليس نحونا، التصق بالقضبان يطالع سرمد بإبتسامة تقسم وجهه إلى نصفين، مجيباً إياه:
– عليك الصعود ومغادرة القاع أولاً يا صديقي! فالأشياء التي تقبع في الأسفل لا تقع .. أنت لم تتجنب الوقوع، كل مافي الأمر أنك لا تستطيع تحقيق ذلك!!
أجاب سرمد ساخراً:
– لا عجب أن أحمق مثلك سقط إلى البؤرة .. ما لا أفهمه هو كيف صعدت أساساً!
ليجيب إبليس بهدوء وجدية:
– ستعرف ذلك .. ستعرفون جميعاً .
حل الصمت مجدداً على المكان ..شرع سرمد في فتح الباب .. ذلك الصرير المنبعث من مفاصل الباب المهترئة كان أشبه بالبكاء .. شعرت به يبكي متوسلاً ألا نخرج هذا اللعين .. لم يكن باب زنزانة، بل باب حقبة تعيسة ونحن من قام بفتحه .
صدرت من إبليس هالة مرعبة، كانت تهز سلسلة أغلاله مصدرة صوتاً كزمجرة الصواعق .. عاصفة هوجاء ستضربنا .. هذا ما شعرت به ..
كنت أنا وسرمد في المقدمة .. قسورة خلفنا .. زئبق يقف في مؤخرة التشكيلة .. إبليس واقفا أمامنا مباشرةً، ولأول مرة منذ مجيئه لم تعل وجهه الإبتسامة .. بل ملامح حادة وعيون تلمع ترقب الأفق بعزيمة قادرة على أن تفل حلقات زحل .. لم ينبس ببنت شفه، فقط حدق فينا لبرهة ثم تجاوزنا دون أن نشعر .. تجاوز قسورة أيضاً .
التفتنا مصعوقين .. لنراه أمام زئبق .. لم يكن بهذه الضخامة وهو في الداخل، هل زاد حجمه أم نحن تضاءلنا ؟!! .. وقف أمام زئبق بثبات ثم أحنى ظهره ليحملق في عيني هذا الأخير .. ثم مد يديه نحوه وخاطبه قائلاً:
– فك قيدي أيها النحيل، لا أخطط الذهاب إلى أي مكان!!
حدث هذا في لحظة كانت أسرع من استيعابنا .. قفز زئبق برشاقة إلى الخلف متراجعاً ومتخذاً وضعية القتال، وكأنه يملك فرصة .. ليضحك إبليس باستخفاف واضعاً يده على وجهه قائلاً:
– يا إلهي .. ما بال هؤلاء لا يفهمون شيئاً.
ثم صعد على عربة النقل ودخل إلى القفص وأقفل على نفسه واستمر بالضحك الهيستيري .. بينما نحن متسمرون في أماكننا !
لقد قام بإيضاح فارق القوة التي بيننا وبينه، بطريقة مهينة .. لقد وصلت الرسالة بوضوح .. قد يكون هذا المسخ أكثر قوة وحنكة منا، ولكن إن كان ثمة أمر أنا متأكد بشأنه هو أنه عاجز عن كسر أو نزع قيوده .. لقد كان كاحلاه مصفدين بسوارين حديديين تربطهما سلسلة تمتد إلى معصميه ثم إلى رقبته ليس بوسع أحد كسرها أو نزعها عدا "زئبق" نفسه الذي صنعها ووضعها ..
جلس في مؤخرة القفص مبتسماً كعادته، بدت الأغلال عليه كأنها أساور وقلائد ملك، أسند ظهره إلى الخلف ومكث ساكناً لبرهة ثم قال:
– هل ستوصلني الحمير بمفردها أم ماذا ؟! الن تكملوا مهمتكم ؟!
أنفاس سرمد كانت تعصف بدفىء كصلاة ناسك في جوف مغارة .. هم العجوز بالصعود إلى العربة ليتولى قيادتها .. زئبق على ظهر ثعبانه يتولى تأمين ميسرة العربة .. أنا على صهوة جوادي أرافق ميمنتها .. أما قسورة فقد تقدمنا بمزلجته الحديدية، لا لشيء، بل كي لا تفزع الضباع عند رؤية الرعب الكامن في القفص .. أما صمصام فهو على حالته السابقة راقد بلا حراك على مزلجة العملاق .. لقد تركنا المؤخرة مكشوفة، لا داعي لتأمينها .. إبليس سيتكفل بحمايتها .. فمن الواضح أنه جاء معنا بملئ إرادته!
بدأنا السير .. كان من الواضح أنها ستكون رحلة شاقة وطويلة .. الأرض مغطاة بالثلوج والطريق وعرة وموحشة، سيتوجب علينا صعود منحدر الهاوية وتجاوزه ثم المضي عبر الغابة المطيرة والتوجه شرقاً وعبور مضيق عنق الزجاجة والمشي عبر السهول الجنوبية المؤدية إلى معبر إقليم الجنوب "الجدار"، كنت أحدث نفسي:
– من هناك سنواصل المسير شرقاً قاطعين كل الأقاليم واحداً تلو الآخر: بدءاً بإقليم الجنوب الشرقي "باب الأبواب" .. ثم إقليم الشمال الشرقي "بلخ"، ثم إقليم الشمال "كيماك"، ثم إقليم الشمال الغربي "البربر"، ثم إقليم الجنوب الغربي "الزايج"، ثم نعود إلى إقليم الجنوب "الجدار"، ثم نذهب إلى إقليم المنتصف "الهضبة" .. ومقابلة مستدرك كل إقليم على حدة قبل لقائهم مجتمعين في المنتصف .. "استيفاء النواميس واستكمال القراطيس" هذا ما جاء في التعليمات، وهذا الطواف أحد النواميس التي علينا استيفاؤها ..
لا شك أنهم باتوا على علم بما نحمله إليهم، أتساءل كيف كان وقع الخبر عليهم ؟!
لم التساؤل .. سنعرف ذلك إن لم يباغتنا هذا الخبيث فجأة!
Comments