ابَابيَل
لم يكن طفلاً عاديا أبدا فهو لم يخرج من رحم والدته باكيا مثل بقية
المواليد، بل خرج صامتا يقلب بصره في الأشياء مدهوشاً كما لو أنه تفاجاً بوجود كوكب آخر غير الكوكب المظلم الضيق الذي كان يعيش فيه... وبينما كان الطفل لا يزال ساكنا بين يدي القابلة إذ وقعت عيناه على والدته المستلقية بظهرها فوق الأرض والغارقة في عرقها اللانهائي، فانتفض جده الصغير اللزج الملطخ بدماء الولادة مثل سمكة زينة صغيرة أخرجوها للتو من حوضها المائي زحفت والدته على مؤخرتها بصعوبة بالغة حتى أسندت ظهرها على حائط الطين القديم، غطت بطرف اللحاف عري ثدييها
الممتلئين بالحليب، ثم رفعت يديها المرتجفتين في الهواء: - دعيني أراه - قالت جومانا - هل هو بصحة جيدة يا ماريا ؟!
- إنه بخير - أجابت القابلة وهي تنحني لتضعه برفق بين يدي أمه وتهمس: انظري لعينيه إنهما تشبهان عينيك كثيرا يا سيدة جومانا عندما أصبح بين يدي والدته مد أصابعه الصغيرة نحو خصلة نافورة من شعرها الناعم وألقي القبض عليها بقوة لا تتوافر لدى طفل في مثل عمره، وبينما هو يمسك بخصلة شعرها النافرة تلك إذ جعل يتدبر بصمت وخشوع راهب في عينيها البندقيتي
اللون كما لو أنه في تلك اللحظة كان يقرأ فيهما البداية والنهاية...
بعد وقت قصير اقترحت القابلة
- ما رأيك في أن آخذه لغرفة أخرى ريثما ترتاحين قليلا؟! وحينها فقط
بكى الطفل بصوت عال كما لو أنه يعترض
- لا بأس دعيه - قالت جومانا ببراءة - أنا لا أشعر بالتعب - ألن يأتي السيد بحر ليطمئن عليك وعلى الطفل ؟!
لم تفسح جومانا مجالا لذلك السؤال بأن يعكر عليها صفو فرحتها بالقادم الجديد
عندما يجد والده فسحة من الوقت سيأتي بالتأكيد - وهل فكرت بالاسم الذي ستطلقينه عليه ؟!
في الحقيقة كانت جومانا قد قررت في وقت سابق أن أحدا لن يسميه غير زوجها؛ لذلك سوف تظل تطلق عليه لقب «الطفل حتى يعود والده من غيابه ويختار له اسما.. لم تبح بقرارها ذاك إلى القابلة؛ لكي تجنب على نفسها مغبة أسئلة كثيرة لن تنتهي غير أن القابلة ماريا سألت كما لو أنها استطاعت قراءة ما
يدور في عقل سيدتها
- هل تفكرين بتأجيل تسميته حتى يعود أبوه ويسميه بنفسه ؟!
وبنيرة جادة تشي بعدم رغبتها في الإجابة قالت: ربما !! يا إلهي إن شهورا كثيرة قد مضت على غياب السيد بحر، ولا أحد يعلم
متى قد يعود..... - يبدو أنك بذلت مجهودًا معي طيلة اليوم يا ماريا - قاطعت جومانا ثرثرة
القابلة بأدب - والآن وقد تأخر الوقت تستطيعين الانصراف لبيتك لأخذ قسط
من الراحة وسأرسل لك أجرتك في الغد. أرادت أن تقول بأنها تفضل البقاء للمساعدة، لكن جومانا حدست ذلك
فسبقتها بالقول:
لا تقلقي إذا احتجتك لاحقا فسأجد من أرسله في طلبك. الملمت القابلة أدوات الولادة البدائية التي جلبتها معها، ثم وضعتها في
كيس واسع من القماش حملته فوق كتفها بعد أن أحكمت إغلاقه جيدا
التفتت نحو جومانا وسألت بلطف
- هل تريدين مني شيئًا آخر قبل أن أذهب ؟! وهي تمور يدها على رأس طفلها الناعم طلبت جومانا منها
أريد منك إطفاء القناديل، فالنار يجب أن تطفاً قبل النوم كما تعلمين !!
معك حق - قالت ذلك ثم ذهبت لتنقذ ما طلب منها. لم يستغرق الأمر كثيرا من الوقت حتى كانت ماريا قد أطفأت جميع النيران المنبعثة من القناديل المتآكلة المعلقة على حيطان المنزل فأصبح البيت مظلما باستثناء إضاءة خافتة كانت تنبعث بهدوء من نافذة الغرفة التي تجلس فيها جومانا مع ابنها.. ولما لم يعد هناك شيء آخر لتفعله القابلة فإنها اتجهت نحو باب الفناء استعدادا للمغادرة، ولكنها ما أن فتحت الباب حتى خفق قلبها بقوة وسقط من يدها كيس القماش الذي كانت تحمله فوق كتفها، اتسعت عيناها بسبب المفاجأة... لقد شاهدت خلف الباب شيئًا لم تتوقعه أبدا....
شاهدت أمامها أقدم جنية عرفها أهالي قرية الجساسة كانت امرأة يطلقون عليها لقب ذات الطائر الأحمر، اسمها الحقيقي «تاج» وكان جميع من في القرية يخافون منها ويحاولون قدر الإمكان اجتناب غضبها، ورغم تقدمها في العمر إلا أنها لا تزال تحتفظ بقدر كبير من الجمال يخبرنا بأنها كانت شديدة الفتنة عندما كانت أصغر سنا: لها شعر غجري أسود اللون يتخلله بعض خصل الشيب الرمادية، وبشرة بيضاء مشدودة مثل جلد حصان سباق، وملامح هادئة
تشبه وقت غروب الشمس.
كانت تاج تمتلك طائراً نادراً أحمر اللون مرقشا بحبات ريش برتقالية، كان ذلك الطائر من فصيلة العنقاء اسمه «إكليل وقد قامت بسرقته من عش والدته عندما كان لا يزال داخل البيضة، لذلك استطاعت ترويضه وجعله خادما لها.. ثم ولأن ذلك الطائر الأحمر لم يكن يفارق تاج، وكان مثل ظلها تماما يذهب معها أينما تذهب فإن أهالي قرية الجساسة مع الوقت نسوا اسمها الحقيقي نهائيا، وأصبحوا يطلقون عليها لقب ذات الطائر الأحمر.. قالت القابلة
ماریا بخوف شدید
ما الذي جاء بك إلى هنا؟!
- تعلمي أن لا تحشري أنفك في الأمور التي لا تخصك يا ماريا، فلو أنك
قبل قليل لم تأتي بذكر غياب زوجها بحر لما قامت جومانا بطردك. لم تتفاجأ القابلة كثيراً لمعرفة ذات الطائر الأحمر بذلك الأمر، فقد كان من الطبيعي جدا أن تعرف تلك الجنية بأكثر الأشياء السرية التي تدور خلف
الأبواب المغلقة.
حاولت ماريا الدفاع عن كرامتها:
السيدة جومانا لم تقم بطردي لقد صرفتني فقط لأنها تشعر بالتعب - نعم بالتأكيد - قالت ذات الطائر الأحمر ساخرة - لا بد أنها شعرت
بالتعب من ثرثراتك التي لا تنتهي !! لم
تحاول القابلة أن تجادل في الأمر أكثر: م م... معك حق أنا ثرثارة وكلامي لا ينتهي !!
قالت ذلك ماريا بتوتر واضح ثم هرولت مبتعدة وقد أنساها الخوف أن
تحمل معها كيس القماش من على الأرض. إكليل - قالت الجنية تحادث طائرها الأحمر - أبقى هنا ريثما أعود زعق
إكليل وهو يرفرف بجناحيه الطويلين في الهواء فقالت:
لا لن أتأخر سأنجز ما جئت من أجله ثم ترحل سريعا.
سارت بخفة في ساحة البيت الداخلية متجهة نحو الغرفة التي ينبعث من نافذتها إضاءة خافتة والتي تجلس فيها جومانا وحيدة مع ابنها الرضيع، وكانت ذات الطائر الأحمر في كل مرة تمضي فيها بجوار قنديل مطفأ معلق على الحائط تعود النار للاشتعال فيه فورا وبهذه الطريقة ما كادت تصل تلك الغرفة
حتى أصبح جميع البيت مضاء من جديد. فتحت باب الغرفة نظرت نحو الطفل وقالت
- يبدو أنه في صحة جيدة يا جومانا!!
التفتت جومانا نحو مصدر الصوت بدهشة
أنت بالذات ليس مرحبا بك هنا - همست بنبرة حادة.
تساءلت ذات الطائر الأحمر ببرود لا يلائم حساسية الموقف
- ألا أستطيع الاطمئنان عليك حتى في مثل هذا اليوم ؟! - لا أريدك أن تطمئني علي - ثم أضافت بتوتر: لقد حذرتك أكثر من
مرة بأن لا تحاولي الاقتراب مني !!
- متى تفهمين أيتها الحمقاء أنني لن أقوم بأذيتك ؟! ولكنك قد تؤذيني بقدومك إلى هنا، فلن تسير الأمور على ما يرام لو عرف زوجي بالحقيقة !! أين هو زوجك هاه تساءلت بحنق - لقد مضت شهور كثيرة على
اختفائه !!
بخيبة أمل سحيقة نظرت جومانا نحو الأرض وهمست:
ولكنه قد يأتي في أي لحظة!!
وماذا سيحدث لو أنه عرف بالحقيقة ألا تقولين بأنه يحبك؟!
التي قضيتها معه تعلم ماذا يجب عليها نعم يحبني ولكنني لا أريده أن يكتشف بعد كل هذه السنين الطويلة أنني.. أقصد أنا.. أعني أنك - لم تعد أن تقول لذلك فإنها أخذت نفسًا عميقا، ثم أكملت جملتها قائلة: أنت تعلمين
ما الذي أريد قوله بالضبط !!
- لماذا تخجلين ؟! لا أحد يخجل من حقيقة أصله قولي له بأنك .......
قاطعتها جومانا قبل أن تكمل جملتها
- لماذا لا تقولين لي أنت عن سبب مجيئك هنا في هذه الليلة؟!
من أجله - قالت الجنية العجوز وهي تشير بإصبعها ذي الظفر الطويل نحو الطفل النائم، ثم أردفت: هل أستطيع إلقاء نظرة عليه أم أنك ستحرميني
من ذلك أيضا ؟!
ولأنها تعلم بأن ذات الطائر الأحمر لن تؤذي طفلها وبأنها لن ترحل قبل أن تحقق ما جاءت من أجله، فإنها مدته نحوها وهي تقول لها باستسلام ومن
غير أن يساور قلبها الشك بحقيقة ما هو قادم حسنا - وأردفت بحزم: ولكن بسرعة !!
حملته بين يديها وهي تبتسم تأملت فيه قليلا ثم همست متسائلة: هل ستقولين له عندما يكبر بأنه مختلف عن البقية وبأنه....... صرخت عليها مقاطعة حديثها قبل أن تكمل هذا يكفي يا ذات الطائر الأحمر !!
أدركت أنها أغضبت جومانا كثيراً فقالت لتغير الموضوع
49
هل أستطيع أن أتمنى له في أذنه أن يعيش حياة سعيدة ؟! كانت تلك إحدى عادات الولادة في قرية الجساسة حيث تقوم الأم باختيار الصديقة الأقرب لقلبها وتطلب منها أن تتمنى في أذن مولودها أن يعيش حياة سعيدة، وكانت الأم تحرص كثيرا في انتقاء تلك الصديقة لأنهم كانوا يعتقدون بأن شقاء المولود وسعادته مربوطان بصلاح قلب الشخص
الذي سوف يتمنى له...
وسترحلين بعدها ؟!
- نعم سأرحل
رفعت ذات الطائر الأحمر الطفل إلى مستوى فمها ثم بدأت تتمتم في أذنه بصوت منخفض متظاهرة بأنها تتمنى له أن يعيش حياة سعيدة ولكن في الواقع لا أحد غير الرب يعلم ماذا كانت تلك الجنية العجوز تقول في أذنه بالضبط... وحين انتهت من وشوشته ألصقت أذنها على صدره وأصاخت السمع الصوت دقات قلبه...
في الحقيقة لم يكن أحد في العادة يستمع لصوت دقات قلوب المواليد بعد الانتهاء من التمني لهم في آذانهم لهذا ربما تساءلت جومانا بشك:
- ماذا تفعلين؟!
أجابت بتوتر
- ششش، اصمتي قليلا!!
وبعد فترة من الوقت ابتسمت ذات الطائر الأحمر أخيرا وتنفست الصعداء إذ إنها تحققت مما جاءت من أجله، أعادته إليها ثم غادرت دون أن تتكلم.... ولو أن الطفل فقط استيقظ في تلك اللحظة من نومه وفتح عينيه، لكانت أمه
سوف تشاهد في عينه اليسرى وهجا أحمر اللون غريب...
Comments