امي التي حطمتني بصمتها الطويل
كان أول أيام العيد، لا أتذكر بالضبط أي عيد، أظن أنه كان عيد الفطر. اجتمعت عائلتي كعادتها في منزل جدتي، وكبقية الأطفال كنت أنتظر العيد بشفف لأحصل على عيديتي التي تمكنني من شراء عروس ألعب بها أو شراء الحلوى التي أحبها، فضلًا عن اجتماعي مع أبناء عمي حتى نلعب سويًا بألعابهم التي كانت أكثر وأجمل من ألعابي.
في ذلك العيد، قضيت بضع ساعات ألعب مع أبناء عمي الذين تتراوح أعمارهم بين 9 و14 عامًا، ثم قرروا الصعود إلى شقتهم في الطابق العلوي لمشاهدة فيلم فيديو، فطلبت منهم أن يصطحبوني معهم بعد أن عرفت أنهم سيشاهدون فيلم «ليون كينج-Lion King» الذي كنت أحبه بشدة ولا أمل من مشاهدته.
صعدنا إلى الشقة وحدنا دون أن يرافقنا أي كبير، وقضينا نحو ساعة نشاهد الفيلم حتى فوجئنا بأحد يطرق الباب بقوة. كانت أمي الغاضبة من وجودي في الشقة مع صبية في غياب الكبار ومن دون أن أعلمها بذلك.
دخلت إلى الشقة وأمَارات الغضب على وجهها، جذبتني بقوة ونزلت بي إلى شقة جدتي، أجلستني إلى جوارها حتى انفض الجمع، وعندما عدنا إلى المنزل ظلت تصرخ في وجهي، لم أتمكن وقتها من تفسير جل كلماتها من فرط الصراخ، حتى انقطعت عن ذلك حينما دخل أبي إلى الغرفة، ثم التفتت إليه قائلة «اتصرف معاها».
تراجعت أمي خطوتين إلى الوراء واقترب مني أبي وقد جحظت عيناه غضبًا، وقبل أن أكمل جملتي «أنا آسفة والله يا بابا»، صفعني على وجهي، فترنحت وسقطت بجسدي النحيل على الأرض. أصابني الفزع وظللت محدقة إليه بعد أن أطلق وابلًا من السباب واللعنات بينما تقف أمي خلفه متفرجةً.
في ذلك اليوم، خُلِقَ بيني وبين أمي حاجز، ليس الوحيد، فقد تبعه حواجز أخرى ما زال الخذلان يُشيّدها واحدًا تلو الآخر. كنت أظن أن أمي ستكون ملجأي وملاذي إلا أنها خيبت ظنوني. فكرت مرارًا أن أسألها «لماذا حرضتيه يا أمي، لماذا لم تمنعيه، لماذا قبلتِ بإهانتي؟»
كانت هذه الحادثة بداية لسلسلة حوادث تمسكت أمي فيها بالصمت، حيال عنف أبي اللفظي والجسدي ضدي، فقد التزمت الصمت عندما خلع حزامه وضربني به في أنحاء متفرقة من جسدي لأنني رفضت ارتداء الحجاب الذي قرر منفردًا أن أرتديه وأنا في الثانية عشرة من عمري، واختارت الصمت أيضًا عندما لكمني في وجهي لأنني لم أصنع له القهوة كما يحبها.
في إحدى المرات، اتهمني والدي بالعهر عندما علم بأنني اجتمع مع زملائي للعمل على مشروع التخرج في الجامعة في مقاهٍ أو مطاعم، لأنه يرفض أن يجمعني لقاء بزملائي الذكور خارج الحرم الجامعي حتى لو كان السبب له علاقة بالدراسة، ورغم أنني سبق وأخبرت أمي بأنني التقي بفريق المشروع في هذه الأماكن، فقد فضلت أن تصمت على أن تدافع عني وتركتني وحدي في مواجهة فيض الشتائم التي أمطرني بها.
حرمني أبي من فرصة عمل بذلت قصارى جهدي حتى أحصل عليها. رفضها لأنني قد أعود بعد التاسعة مساءً في بعض الأيام، ولأن الوظيفة تتطلب السفر خارج مصر أكثر من مرة خلال العام، وعندما حاولت أن أقنعه بأهمية الفرصة هددني بالحبس في المنزل، ورغم صمتها إزاء ذلك توّسلت إليها أن تتحدث معه، ووعدتها بأن أفعل أي شيء تطلبه مني إن أقنعته بألا يضيّع علي هذه الفرصة، فجاء ردها «أبوكِ قال لأ تبقى لأ.. هو أدرى».
تحوّلت نفسي بما حملته من آلام إلى قطعة زجاج تنكسر أكثر فأكثر مع كل موقف من هذه المواقف، ولا يمكن للزجاج المنكسر أن يعود كما كان. قد يتساءل البعض «لماذا لم يؤلمك عنف أبيك مثلما آلمك صمت أمك؟»
حقًا كان أبي شديدة القسوة وفظًا للغاية، وإن سُئِلت عن ما يحضرني إذا ذكرت سيرته، سأقول دقات قلبي التي كانت تتسارع في كل مرة أسمع فيها صوته عند عودته إلى المنزل. لكنني كنت أتمنى في كل مرة اعتدى علي فيها أن أجد أمي تمسك بيده وتمنعه من أن يفعلها، وطالما حلمت أن أجد أمي تحتج على إهانتي أو تدافع عني إن أساء إلي أو على الأقل تأتيني بعد أن ينتهي من وصلة السباب وتحتضنني بين ذراعيها
Comments