رواية ضوء مُغاير
إستأثر الشرود برأس حامد وهو ماش وحقيبته بكتفه في الساعة
الواحدة ظهرّا متجهًا إلى موقف سيارات الأجرة كي يعود منه إلى قريته بعد ستة أشهر أتمها في محافظة القاهرة، والشمس والريح المحملة بالأتربة حرهما لم يخرجاه من شروده العميق، يفكر في أبيه المريض من عدة أيام،ومشتاق إلى أمه التي توفيت منذ عام وشهر، وعودته اليوم هي الأولى التي لن تستقبله فيها أمه، وصوت أبيه في الثلاثة أيام الماضية يؤكد له أن مشكلة ما وراء مكوثه في البيت ثلاثة أيام، مع أن والده نفى له وجود أي مشكلة صحية أو غيرها ويرفض زيارة الطبيب، وضع حقيبته في صندوق سيارة لتقله إلى قريته، واختص السيارة إلى قريته.
واليوم أحد أيامٍ جمع محصول الذرة الشامية والحركة تدب في شوارع القرية، والأجولة المعبأة بالذرة فى طريقها إلى البيوت على أظهر الحمير أو بسيارات ربع النقل أو بالعربات الخشبية والحديدية المقطورة بحمار أو حصان، وأحد الأيام الأولى من العام الدراسي، وطلاب عائدون من المدارس إلى بيوتهم وآخرون ذاهبون إلى الحصص الدراسية الخاصة، وَكَكُل يوم الباعة الجائلون في شوارع القرية بالأدوات المنزلية والملابس والخضروات والفواكه والحلويات، شوارع القرية بعضها أرضها مرصوفة بالأسفلت والأخرى ترابية، وباستثناء منزل قديم أو اثنين في كل شارع جميع المنازل حديثة البناء من طابقين أو ثلاثة، وقليل منها من طابق واحد أو أربعة طوابق، وترعة متعرجة فاصلة ثلث شوارع القرية عن الثلثين الآخرين، ومنازل القرية تعلوها أطباق الالتقاط الهوائى للتليفريونات، وفي شوارع القرية محالٌ بقالة، ومطاعم للمأكولات الشعبية الفول والفلافل، وثلاثة مخابز، اثنان للخبز المدعوم والآخر حلواني، وطاحونتان، وصيدليتان، وورش منها للحدادة وللنجارة، وصالونات حلاقة، وكل خمسة شوارع لا تخلو من مقهى أو اثنين، وبأطراف القرية مقاهٍ أخرى، زبائنها من شباب القرية وقليل من متقدمي السن، وسط القرية ساحة يستخدمها سائقو سيارات النقل موققًا لهم، وبجانب من جوانب الساحة مبنى الوحدة المحلية بالقرية، وتحت إدارتها ثلاثة قرى مجاورة لها، في مدخل القرية بالطريق الذي يصلها ببندر ديروط محطة وقود، وفي القرية مدرستان، إحداهما مختصة بالتعليم الابتدائي والأخرى بالمرحلة الإعدادية، وأكثر من عشرة مساجد وبضع زوايا للصلاة، ومحلات للألعاب الإلكترونية ولعبة تجمع الرقم ثمانية " البلياردو " وكرة الطاولة، وخارج النطاق العمراني ملعب كرة قدم أرضيته نجيل اصطناعي ومجهز بمصابيح للإنارة.
وصل حامد إلى المنزل، أول مرةٌ ستقابله زوجة أبيه؛ فَجَاهٌ الشعور بالغربة عن المكان مع طرقة الباب... رحبت به سكينة كثيرًا بابتسام وسرور، مشى في الصالة إلى حجرة نوم أبيه،
جلس دسوقي على فراشه بعد أن كان مستلقيًا عليه، صافحه حامد واحتضنه وهو يسأله عن حاله وصحته.
- صداع خفيف يا ولدي، ولا تشغل بالك، إنت أخبارك إيه يا ولدي؟
- أنا بخير والحمد لله، المهم انت تكون بخير يا حاج.
- أنا زي الفل وتمام يا ولدي.
وجلس حامد بحافة السرير سأله دسوقي عن خط خمري رفيع مُمتد أسفل حاجبه الأيمن بطول يقصر عن طول حاجبه قليلًا وييرز من سمرته.
- مكان جرح حادثة سيارة كنا راكبينها للشغل في القاهرة.
وأتت سكينة بالغداء، وهمت بالخروج من الحجرة؛ فطلب منها
حامد أن تأكل معهما لكنها فضّلت الأكل بعدهما وأصر حامد على
طلبه منها، وحثها دسوقي على الجلوس فجلست.
- حامد أول واحد قال لى إنك أنسب واحدة لى.
- ربنا يبارك لنا فيه يا حاج.
- لا تقلقى من وجود حامد، ولا أحس بإنك محرجة منه أبدًا.
- حامد ولدي يا حاج.
- وانت يا حامد لازم نخطب لك عروسة قبل رجوعك القاهرة يا ولدي، انت كبرت يا ولدي.
- بإذن الله يا حاج... أنا نويت أخطب.
- ولو خطبت عروسة أهلها مجهزينها نزفها وسافر على راحتك.
- ربنا يسهل يا حاج، المهم شد حيلك انت، أنا قلقان عليك. عمرك
كله ما قعدت في البيت.
- عريس يا ولدي.
وحاول دسوقي التبسم ولم تستجب له عيناه لإتمامها، ولاحظت
سكينة إدراك حامد حال أبيه.
- اسمعني يا حامد، أنا شهر واحد عشته مع الحاج لكن متأكدة من
إن مشكلة كبيرة شاغلة مخه.
- شيء مضايقك يا حاج؟
- أنا بخير ومتعافي وأقدر أهد جبال يا ولدي.
- لو واحد مضايقك أو معك مشكلة أو محتاج حاجة قل لي.
- انت شاغل روحك بشيء ما هو موجود يا ولدي، هي تخمن مع
نفسها وانت تقلق يا ولدي؟!
نظر دسوقي بعيدًا عن وجه حامد حتى لا تلتقي أعينهما ويقرأ حامد منها إخفاءه مشكلة عنه، تذكر دسوقي يوم أن شاهد خفاجي في علاقة غير شرعية مع وهيبة التي تسكن في منزلها وحيدة نهاية الكتلة السكنية للقرية في طريق أرضهم، كان خفاجي خارجًا من منزل وهيبة فجرًا وراءه في الطريق؛ فاندفع من عتبة باب منزلها لداخله، لمحه وطارت منه شُفَّة في الأرض وشُقّة في السماء، ابتعد عن المنزل حتى خرج ولقيه بغضب واحتقار.
- كنت أحسبك رجل وأنت شبه رجل.
وإحساسه بمرارة فقدان خفاجي جعله يحاول استعادة أدهم من
عصيانه إلى طاعته، وبمنزل أدهم قبل الساعة السابعة صباخًا عاتب أدهم بهدوء، لأنه عاهده كثيرًا على ألا يستخدم وظيفته في جمع المال من الأهالي ونكث عهوده.
- أنت قاصد الصبح بدري تغني معي من أول وجديد.
- أغنى يا أدهم؟!
- اسمعني يا حاج، الأحسن لي أنا وأنت إن كل واحد يبقى في حاله، راحة لنا كلنا.
- ودست حقي في إني أقول لك عيب وابعد عن الحرام.
- كلامي قلته لك، ونفسي أقعد في بيتي مرتاح من وجع الدماغ.
- وانت بقيت عديم الأدب معي، وتطردني من البيت! انت انقطع
منك الأمل، الحرام عمى قلبك أول وآخر.
وشَرَك متين عُقِد حول جسده وفي كل خانة منه مخارز مَشدودة
وحَدّها نحو جسده، وطأة الموقف غافلته وأوردت له مسئوليته عن القدر الأكبر من انحرافهما وكأن الشَرَك أحكم قبضته عليه، وأحس بمخارزه تنغرز في كل قطعة من أجزاء جسده ونطق:
- وبعده إيه؟!
وتأفف بملء فمه، وانتبه له حامد.
- إيه ضايقك يا أبوي.
- أبدًا... أبدّا ولا شيء، نفسي أنام والنوم طاير من عيني.
واستحسن حامد ألا يضغط عليه؛ وتَطرّق بالحديث إلى أمور شتى، حتّى انتهوا من الغداء وقام حامد إلى حجرته. الأسرار الجسيمة دوامات سريعة وعميقة يغرق فيها الكثيرون. وغِل الهم في صدره. تيقن أن الذي أقام أباه بالبيت أمر جسيم، فكر فيما تكون الأسباب وراء معاناة أبيه وسوء حال أخيه، وبالتحدث إلى خفاجى قد يتبين منه أي من الأسباب.
وجاءت إليه إنعام زوجة خفاجي وبيدها ابنتها في الرابعة من عمرها، وابنها في السادسة من عمره، وابنتها محاسن المتخرجة في التعليم الفني منذ عامين، مازحهم حامد وضم الطفلين إليه وقبلهما وصافحته محاسن، وسألت إنعام عن خفاجي، وكان خفاجي قد خرج إلى الأرض مباشرة مِن دقائق، استغربت إنعام والتمست له العذر من حامد، لأنه منذ أربعة أيام في انشغال ونفاذ صبر على كل أمر وكل شيء، وأهدى حامد إلى كل من الطفل والطفلة ومحاسن خمسين جنيهًا، وكيس فاكهة لإنعام.
واتجه إلى بيت أخته أحلام المتزوجة من جاسر أحد شباب القرية، وتعمل ممرضة في مستشفى قطاع خاص، وموقوفة عن عملها هي وثلاث زميلات لها من قسم عملها نفسه، تشاجرن مع مرافق ألحٌ عليهن لمتابعة والدته، وتباطان معه عن عمد وأغلقن على أنفسهن الغرفة الخاصة بهن... وفدت إلى المستشفى لجنة من مديرية الصحة بأسيوط، وأحد أسباب قدومها شكوى من المرافق سابق الذكر، وراجعت اللجنة تسجيل الكاميرات المثبتة بممرات القسم التي تعمل به أحلام وشاهدت اللجنة معاندتهن المرافق وتقاعسهن.
سُرت أحلام برؤية حامد، وأعطاها كيس الفاكهة... سألها عن زوجها
الذي سافر إلى إحدى الدول الخليجية منذ أيام... مشى إلى الأرض كانت الأراضي من حول القرية جرداء ما عدا قطع قليلة وصغيرة من الأراضي في انتظار زراعة النباتات الشتوية المداوم أهل القرية على زراعتها ومنها القمح والفول والبصل والثوم والكرنب، وزريبة بهائمهم بطرف قطعة أرض بائرة بجاور طريق ترابية ضيقة، وتمتد على جانب الطريق ترعة ضفراها مكتظتان بحشائش كثيفة، وخفاجي مضطجع على الأرض ساهٍ خلف زريبة البهائم يدخن سيجارة بشراهة وبأنفاس عميقة... اعتذر خفاجي من حامد بالنسيان؛ لأنه خرج من البيت دون رؤيته... أنكر خفاجى علمه بوجود مشاكل خاصة بأبيه.
- وانت إيه شاغلك ومغير حالك يا خفاجي؟
- أنا في كل خير ولا مشغول بحاجة.
وخطر في بال حامد أن قد تكون مشكلة قائمة بين خفاجي وأبيه.
- معك مشكلة بينك وبين أبوك؟
فوجىء خفاجي بالسؤال وتنافرت ملامح وجهه.
- أبدًا... يا حامد، سؤالك غريب!
الارتباك الظاهر على خفاجي جعل حامد متأكد من أن مشكلة وعرة بين خفاجي وأبيه؛ ومن الممكن أن يطلعه أخوه أدهم على المشكلة ويساعده على إنهائها ما فعله مع إنعام وأبنائها كرره مع شادية زوجة أدهم ووَلدّيها اللذيّن أحدهما في العاشرة من عمره والأخر في الثامنة، وبنتها التي في السادسة، كانت شادية مكروبة وقلقة من يوم أن شهدت طرد أدهم لأبيه من البيت، في الأيام الماضية قتلت عقرب كانت جوار رأس ابنها الأول في فراشه، وإسطوانة الغاز انقطعت وصلتها بالموقد فجأة، أرادت أن تطلب من حامد أن يرجو أباه العفو عن أدهم، لكنها خافت من عقاب وأمسكت لسانها.
واتصل حامد بأدهم لحل خصومة بين خفاجي وأبيهم، وبسبب زجره أبوه عن دخول بيته تهرب من حامد وتفهم حامد تفلت أدهم منه، فكلما جمعه موقف مع أبيه استقبحه أبوه لاستغلاله وظيفته مديرًا لتنظيم الوحدة المحلية بالقرية في الإرتشاء من أهل قريتهم وأهالي الثلاثة قرى التي تديرها الوحدة المحلية، والضغط والتضييق عليها فيما يحق لها؛ حتى يرشوه بالمال مقابل تيسيره أمورًا تخصهم.
الكاتب / علي رشوان
الرواية متاحة #مجاناً بي دي اف في عدد من مواقع الإنترنت.
Comments