ايكادولي
مطر خفيف كالبكاء يرشق الرمال الناعمة بعذوبة، من بعيد ثمة نهر ريان يتدفق ماؤه العذب بهدوء. ضوء الشمس الذهبي يميل بدلال فيداعب تلك الغدران الصغيرة التي تكونت هنا وهناك لتنعكس ألوان الطيف وتتعانق في الهواء. سعف النخيل يظلل الأفق من بعيد وكأنه سحاب أخضر. صيحة غريبة صمت أذنيه ثم شعر فجأة بمخالب تقبض على كتفيه، فرفع بصره ورأى طائرا عملاقا يبسط جناحيه مظللا فوق رأسه، تسارعت أنفاسه وهو يطير على ارتفاع شاهق فوق واد عميق يقطعه نهر ماؤه رقراق زمردي اللون!
لاحت من بعيد أكواخ صغيرة لكنها متقاربة مصفوفة بانتظام في مجاميع يفصل بينها ممرات أرضها مغطاة بزهور صغيرة صفراء. تناهى إلى سمعه صوت أنثوي ناعم، كان يناديه ويكرر كلمة غريبة لم يدرك كنهها! استعذب الصوت للحظات لكن خفقات قلبه التي بدأت تؤلمه في صدره الصوت، وفجأة! انفلت من بين مخالب الطائر ليهوي تجاه مصب ذاك النهر الفياض بسرعة شديدة، كان لون الماء يزداد قتامة كلما اقترب منه، أراد أن يرفع عينيه ليرى هيئة الطائر الذي كان يحمله، لكن ظل جناحيه الكبيرين المهيبين كان قد حجب عن عينيه كل شيء، فتح ذراعيه وباعد بين ساقيه فحلق لفترة وجيزة، للحظات شعر أنه أخف من الريشة، وكأنه يحلق بروحه لا بجسده، على صفحة الماء لاح له رمز غريب الشكل، حدق فيه وهو يقترب، ويقترب، ويقترب، وفجأة..التقمه الظلام، وظل رنين حاد يتصاعد مخترقا أنسته حلاوة أذنيه.
أيقظه رنين هاتفه النقال، وكان قد وقته على السادسة والنصف، مد ذراعه بصعوبة بعد أن قاوم ذاك الشعور بأنه مشلول البدن ليوقف صوت الرنين المزعج، مسح جبينه الذي كانت تتلألأ عليه حبات العرق وجلس على
طرف الفراش يلتقط أنفاسه. نفس الكابوس الذي يتكرر، نفس المخالب، نفس الطائر الذي لا يدرك كنهه! ونفس النهرذي الماء الأخضر الزمردي، وذاك الرمز الغريب. سار بخطوات بطيئة نحو المرأة وطالع وجهه وكأنه يطالع شخصا غريبا عنه، عينان بندقيتان وحاجبان كثيفان على وشك الالتحام، وأنف ذو انحناءة لطيفة يتوسط وجها مستديرا ظللته لحية خفيفة. أحيانًا يشعر أنه غريب عن نفسه وخاصة في تلك الحظات التي تعقب استيقاظه من ذاك الكابوس المتكرر. غادر غرفته ومر برواق البيت فلمح والديه فحياهما سريعا وأسرع يصب الماء البارد على رأسه لعل الأفكار التي تنهش عقله تهدأ، ثم لحق بهما في المطبخ الذي كان يعبق برائحة القهوة، جلس وقد بدت على وجهه علامات الإرهاق، أزاح والده الجريدة التي كانت تحجب وجهه عنه وطالعه من فوق عويناته بتمعن وقال بنبرة هادئة:
- هل رأيت نفس الكابوس؟
- نعم.
- هل سقطت في الماء؟
- لا...كالعادة استيقظت قبل أن يلمس جسدي الماء.
- هل رأيت رأس الطائر؟
- لا...لا يا أبي.
رفع الأب سبابته وحرك عويناته على أرنبة أنفه وعاد للقراءة، كانت تلك الأسئلة الثلاثة تتكرر في كل مرة يستيقظ فيها "أنس" وعلى وجهه علامات الإرهاق، وكأن أباه يقرأ صفحة وجهه فيدرك أنه رأى نفس الكابوس! شرد
"أنس" للحظات قبل أن يقول بخفوت: - لكنني سمعت صوتا لم أسمعه من قبل! انتفض والده وكأن هناك من وخزه بإبرة وألقى الصحيفة وسأله وقد
اتسعت حدقتا عينيه:
- صف لي الصوت وأخبرني ماذا قال لك.
أغمض "أنس" عينيه ليجتر ما رأه وأحس به، ثم قال بصوت متهدج:
- كان صوتا أنثويا رفيقا وجميلا، لم أسمع مثله من قبل، غناء ربما أو كأن هناك فتاة ما تهمس في أذني.
خلع الأب عويناته وعاد يحدق في وجهه وسأله بتوتر:
- ماذا قالت لك؟
- كانت تردد كلمة لم أفهمها ولم أدرك معناها، أظنها بلغة غريبة ما !
- ما هي الكلمة؟
- لا أذكر.
- حاول أن تركز أرجوك...كررها أمامي. التفت "أنس" متعجبا من إلحاح والده عليه وهز كتفيه بلا اكتراث وهو
يقول:
- للأسف نسيتها.
شحب وجه الأب وطالعه بنظرات مرتابة، التفت "أنس" لأمه التي مسحت على ظهره بحنان لكي يطمئن، التقط يدها ووضعها على صدره، كان يشعر بانقباض لا يبارحه عادة إلا بعد فترة طويلة في مثل هذا الموقف، يتلاشى ربما بعد عدة أيام!.
تناول فهوته على عجل ولم يكمل إفطاره، فقد دقت الساعة معلنة أنها السابعة والنصف..ولا بد أن يسرع حتى لا يفوته موعد القطار، على مكتبه كانت تستقر حقيبة جلدية من النوع الفاخر اعتاد أن يحملها على ظهره عندما يسافر، شاحن الهاتف وجهاز الحاسوب النقال، كانا أهم ما حرص "أنس" على وضعه في حقيبته.
ثم العديد من القمصان المكونة أولها القميص السماوي اللون الذي يفضله، مع بنطال من الجينز، ومنامات صوفية تقيه البرد، والكثير من الجوارب كان كل هذا ما حرصت الأم على وضعه في حقيبة ابنها الأخرى منذ البارحة، فسيسافر لبيت جده في الفيوم ليقضي معه أسبوعًا لطيفا، فهو لم
يروح عن نفسه منذ أنهى عامه الأخير حيث كان يدرس بكلية الهندسة. لا بد من وقت مستقطع يبتعد فيه عن صخب الحياة فقد أرهق كثيرا في الأيام
Comments
سـوـارِـيـن⛓️♦️
طبعاً دي رواية الدكتورة حنان لاشين 💙
وانا حبيت انشر اولى روايتها هنا + للناس الي ماقرت روايتها عشان يحبوها كما حبيتها 💙💙🙂
2023-12-19
2