السباق الأخير
لازالت ذكرى ذلك اليوم راسخة في بالي لا تزول،وكل تلك الأصوات عالقة بذهني إلى الآن،كلما اشتعلت تلك الذكرى،لا أتمكن من حبس دمعة،أو ربما اثنتين،يوم واحد غير حياتي بالكامل،يوم واحد قلب دنياي رأسا على عقب،يوم واحد آلمني أكثر من حياتي كلها.
كان يوما عاديا ككل أيام فصل الربيع في قرية(م)الجميلة،استيقظنا في الصباح،وتناولنا إفطارا شهيا،أعدته أمي من منتجات مزرعتنا،من بيض،وحليب،وجبن،وخبز،ثم ذهبنا خلف أبي-والذي كان في ذروة نشاطه-إلى حقل القمخ،بقي فيه ثلاثة من اخوتي،وتابعنا السير نحن الباقون،إلى أن وصلنا لحقل الذرة،فحقل القطن،الذي بقينا فيه نعمل،أنا،وأبي،وبعض العمال الذين استأجرهم أبي؛لتخفيف العبء عني،وإخوتي في حقولنا الثلاثة،وأحضر فتاة تساعد أمي في أعمال المنزل، وحظائر الحيوانات،والمواشي.
عند غروب شمس ذاك اليوم،عدنا أنا،وأبي إلى المنزل،ممتطيين صهوتي جوادينا،وتسابقنا في الوصول إلى الإسطبل؛لإراحة الجوادين من عناء يوم شاق،وبعدها دخلنا المنزل،وتناولنا عشاءنا،وخلدنا إلى النوم.
قبل طلوع شمس اليوم التالي، استيقظت فزعا على صوت صرخة رعب هزت كياني،صرخة لا يزال صداها يتردد في ذهني إلى الآن،ركضنا أنا،وإخوتي الستة نحو مصدر الصوت،إذ بنا نجد أمي جاثية تبكي فوق صدر أبي،فنظر كل منا إلى الآخر،لم نعلم ماذا نفعل،خاصة وأنني أكبرنا،ولم يتجاوز عمري الرابعة والعشرين بعد،اقتربت من أمي ببطء، ربتت على ظهرها،وأنا أحبس دمعة حارة كادت تنسكب على وجنتي،أبعدتها عن جثة أبي المبتسمة،بينما أخذه إخوتي؛لإتمام مراسم الدفن،وضعت أمي في المطبخ تحت يدي الخادمة(ك)، وذهبت إلى غرفتي،وأطلقت لدموعي العنان،إذ بشلالين ينهمران من عيني بغزارة،لا يمكنني وصف كم كنت حزينا عندها،لم أصدق أن أبي قد مات،مات وحسب كأي شخص عادي،لم أتخيل قط أن يوما كهذا سيأتي؛فمن ينظر إلى أبي يرى جبلا،لا تهزه الرياح،ولا يتزحزح أمام أي نوع من التحديات،ولن يتخيل رؤيته منهزما كأي إنسان آخر، مستسلما،وضعيفا،و...إنسانا.
بعد إهالة التراب على كفن أبي،وذلك بعد جنازة مهيبة؛لشهرة أبي في قرية(م)، التي لن تعود إلى سابق عهدها بفقدانها أحد أغلى أبنائها،عدت إلى المنزل؛كي أطمئن على أمي،أما إخوتي فقد ذهبوا إلى بيت العزاء مع باقي الرجال،عند دخولي إلى المنزل،وجدته ممتلئا بالنساء،نساء من كافة الأعمار،والأشكال قدمن؛ليعزين بأبي،منهن من أعرفها جيدا،ومنهن من رأيتها مرة واحدة،ومنهن من لم أرها قط! تلك تبكي،وهذه تصيح،وأخرى تندب،وثانية تولول،اجتزت ذاك الجمع الغفير،لأجد أمي وقد كبرت عشر سنين،صحيح أن عمرها كان قد تجاوز الأربعين بالفعل،لكنها دائما ما كانت تبدو شابة،وفتية،دخلت إلى غرفتها،وجلست إلى جانبها،تحدثت إليها طويلا،لكن حديثي كان من جانب واحد؛فأمي كالصماء كأن لا أحد معها،لا أنا سمعتني، ولا صراخ النساء.
بعد شهر من ذلك،فقدت أمي بصرها من شدة بكائها،وقلة نومها،وطعامها، وخسرنا كثيرا في تجارتنا للمحاصيل؛فلا أحد منا أنا،وإخوتي،ولا حتى أمي نفهم بالتجارة،وليس لدينا أي أقارب،عام واحد، وخسرنا كل شيء،بدأ كل منا يعمل عند تاجر،أو شخص معروف؛لنؤمن مصاريف أسرتنا،التي لم يبق لها سوى بيت صغير، كنا نستخدمه في ما مضى لإيواء الخدم الذين يعملون لدينا.
لم أنس ذلك اليوم الذي مات فيه أبي، حتى بعد مرور أربعين عاما عليه، نسيه إخوتي،ونسيته أمي بدورها،وتزوجت بعد أبي،لكنني لم أنس،لم أنس ذلك اليوم الربيعي الجميل،وأنا،وأبي نتسابق إلى إسطبل الخيل،بعد عناء يوم شاق في العمل في حقل القطن.
Comments
Yona Ryna
رائعة
2022-04-29
3
انسانه مالها وجود🙂💔.
✨💞🎐
2022-04-26
1
taki san
او اين فصل اخر انا انتطر احر من جمر
2022-04-26
2