أحد الصباحات

^^^كانت الخرطوم، قبل أن تجتاحها الرياح العاتية للحرب، مدينة تسبح في هدوءٍ مشبعٍ برائحة التاريخ، تحمل في قلبها إيقاعات الحياة البسيطة التي تملأ النفوس طمأنينةً وتشبثًا بالمكان. مع أول خيوط الشمس التي تنساب على شوارعها الضيقة، كأنها تُعلن بداية يوم جديد بنسيمٍ دافئٍ يغمر الأرواح، كان الصباح في الخرطوم أشبه بمقطوعة موسيقية تعزفها الحياة في إيقاعٍ منسجم مع نبضات القلب. تستيقظ المدينة ببطء، كما لو كانت تتمدد من نوم عميق، لتبدأ يومها بكل تلك التفاصيل التي تجعل منها مكانًا لا يشبه إلا نفسه.^^^

^^^من بعيد، كان صوت عبد الكريم الكابلي يصدح من الراديوهات القديمة المعلقة على رفوف المقاهي الشعبية. أيدي الرجال العجائز تحتسي الشاي بالنعناع بينما تبحر أعينهم في سماء الخرطوم الصافية. في الخلفية، يغني بأغانٍ لا يمل منها أهل الحي، يعيدونها مرارًا وتكرارًا، كأنها تذكرة بهويتهم التي يحرصون على عدم فقدانها. كان الراديو نافذة صغيرة للعالم الخارجي، لكن الأغاني الوطنية والسودانية وحدها هي ما يمسُّ القلوب حقًا.^^^

^^^بين الأزقة الضيقة، كان صوت بائع الخضار يتردد في الأرجاء كل صباح. "الطماطم الجرجير البصل الطماطم …!" صوته العميق كان يستيقظ مع أهل الحي، يعلن بدء يوم جديد. النساء يخرجن من بيوتهن، بحركات سريعة ودقيقة، تجمعن الخضار والفواكه الطازجة وتعدن للبيوت وهنَّ يتبادلن الضحكات مع البائع، الذي يعرف الجميع، ويعرفونه.^^^

^^^في السوق الكبير، كانت الروائح تختلط مع الألوان. كان المشهد أشبه بلوحة، الفواكه مكدسة في سلال القصب، الخضار بترتيب عشوائي متقن، وأصوات النساء تتفاوضن مع الباعة بابتسامات ملونة. "ما رأيك، ألا يمكنني الحصول على المزيد مقابل هذه النقود؟" ترد البائعة ضاحكة، "لأنكِ من زبائني المفضلات، سأضيف لكِ حفنة من النعناع!"^^^

^^^على ضفاف النيل، حيث كان الناس يجتمعون في المساء، متكئين على ضفافه وكأنهم يحاولون احتضان هدوءه وسكينته. كان النيل مرآةً تعكس وجوههم وأحلامهم، وكأنهم يجدون في مياهه الطمأنينة التي يبحثون عنها وسط أيامهم المزدحمة. في كل موجة هادئة كانت تسري عبر الماء، ينعكس الضوء الذهبي لغروب الشمس، مضيفًا مشهداً ساحراً يجعل الجميع ينسى للحظة طويلة ضغوطات الحياة اليومية.^^^

^^^وفي تلك الأوقات الساكنة، كان صوت محمود عبد العزيز يرن حول مسامع الناس ، يبث عبر الراديوهات المتناثرة في الأحياء. كان صوتاً يملأ الفراغات بين ضحكات الأطفال الذين كانوا يركضون في الشوارع الضيقة، ملتحفين بالهواء المنعش وهم يطاردون أحلامهم البريئة على أرصفة المدينة. الراديو كان يتنقل بين أيدي الشباب والعجائز على حد سواء، يتحدثون عن السياسة، عن الطقس، وعن كل شيء، لكن تلك الأغاني العتيقة كانت دائماً تعيدهم إلى جذورهم، إلى ذاكرتهم المشتركة، إلى خرطوم كانت لهم قبل أن تضيع في غياهب الحرب.^^^

^^^على الشرفات، كانت النساء يجهزن الإفطار، رائحة الشاي المخلوط بالقرفة تنبعث لتلف المكان بحميمية دافئة. أصوات الملاعق وهي تصطدم بالأكواب الزجاجية كانت نغمة صباحية مألوفة، تترافق مع ضجيج الشوارع الذي كان يبدأ ببطء ليشتد مع مرور الساعات. الباصات الصغيرة التي تعبر الطرقات الضيقة، والأصوات العالية للباعة في الأسواق، كانت تضيف إلى المدينة حياة متجددة في كل يوم.^^^

^^^هكذا كانت الخرطوم؛ مدينة تتغنى بالحياة في كل زاوية، مدينة تحمل في تفاصيلها البسيطة جمالاً لا يُدركه إلا من عاش فيها^^^

...****************...

^^^١٥/٥٢٠٢٣^^^

^^^استيقظت الخرطوم على فجر بدا كأنه يحمل في طياته لعنةً لم تكن المدينة قد شهدت مثلها من قبل. كان الوقت ما بين الليل والنهار، حين بدأت أصوات الانفجارات تمزق سكون المدينة، وكأن الأرض نفسها تهتز تحت وطأة الدمار. كان صوت الرصاص ينطلق كعاصفة لا هوادة فيها، يختلط مع صرخات الفزع التي ملأت الأرجاء.^^^

^^^‎في تلك اللحظات، تلاشت الفواصل بين الواقع والخيال، وتحولت شوارع الخرطوم إلى مسرح للفوضى والرعب. الجثث كانت ملقاة هنا وهناك، وكأنها دمى فارغة، تخلت عنها أرواحها في غمضة عين. عيون مفتوحة بلا حراك، تحدق في الفراغ كأنها تبحث عن تفسير لما يحدث، بينما الدماء تسيل ببطء على الأرصفة، ترسم خطوطًا من الألم لا يمكن محوها.^^^

^^^‎الرصاص الطائش لم يكن يميز بين أحد، يخترق الجدران والأرواح بلا رحمة، يترك خلفه مشاهد من الخراب لا تُمحى. الأطفال، الشيوخ، النساء، كلهم كانوا ضحايا لهذه الفوضى التي ابتلعت كل شيء. كان الهواء مثقلًا برائحة البارود والموت، يخنق الأنفاس ويغمر المدينة في بحر من الرعب.^^^

^^^‎^^^

^^^في هذا اليوم المشؤوم، بدت الخرطوم وكأنها تغرق في جحيم ^^^

^^^من صنع الإنسان، حيث لم يعد للأمل مكان. السماء فوق المدينة كانت مغلفة بدخان القذائف، تحجب نور الشمس وتغمر المدينة في ظلام دائم. كان هذا اليوم هو بداية لكابوس طويل، سيبقى محفورًا في ذاكرة كل من عاشه، شاهداً على لحظة تحولت فيها الخرطوم إلى ساحة موتٍ لا نعلم نهايته^^^

Episodes

Download

Like this story? Download the app to keep your reading history.
Download

Bonus

New users downloading the APP can read 10 episodes for free

Receive
NovelToon
Step Into A Different WORLD!
Download MangaToon APP on App Store and Google Play