حين يبتسم الحظ

الفصل الثاني: حين يبتسم الظل

لا أعرف كم مضى من الوقت، أو إن كان للوقت معنى هنا.

كل ما أدركه أن الصمت تغيّر نَفَسه.

لم يعد خانقًا كما كان، صار يشبه حضنًا دافئًا… كأن العتمة نفسها قررت أن تهدأ.

لم أعد أقاوم.

ربما لأن المقاومة تتطلب جهة، وأنا لم أعد أفرّق بين الجهات.

المكان يدور، وأنا أدور معه، لكن الدوران الآن ليس تيهًا، بل نوعٌ من الرقصة البطيئة، رقصةٍ بلا موسيقى سوى نبضي.

أغمضتُ عيني، فسمعت صوتي يقول لي من بعيد:

> "حين تتوقف عن البحث، تبدأ الأشياء بالظهور."

كأن الوعي لعبة مرايا لا تُظهر سوى من لا ينظر إليها.

وها أنا، أفتح عيني، فأرى ما لم أكن أراه.

الأرض من تحت قدمي أصبحت أكثر وضوحًا، ليست زجاجًا هذه المرة، بل مادة غريبة، بين الرمل والماء، تتحرك بهدوء مع كل خطوة.

الجدران بعيدة، كأنها قررت أن تتركني أتنفس.

في الأعلى، سقف شفاف، تتساقط منه أنوار صغيرة، مثل حبات ندى تتبخر قبل أن تلامسني.

هناك دفء جديد، لا أعرف مصدره.

ربما يأتي من داخلي، أو من فكرةٍ تشبه الرضا.

شعرت أن جسدي ـ إن كان لي جسد ـ صار خفيفًا، كأنني أتكون من نسمة أكثر مني من لحمٍ ودم.

تذكّرت الورقة.

الكلمة الوحيدة عليها: ابدأ من جديد.

لكن ما البدء حين لا توجد نهاية؟

هل يمكن أن يكون البدء نفسه استمرارًا؟

ربما الحياة كلها دائرة، ونحن نظنها خطًا مستقيمًا لأننا ننسى أننا داخلها.

مشيت بلا نية.

الخطوات كانت تمشي بي، وأنا أراقبها كمتفرّجٍ هادئ.

حتى أدركت فجأة أن الممرّ تغير من حولي دون أن ألحظ.

لم تعد الجدران تتنفس، بل صارت تعكس صورًا.

صورًا كثيرة… لا تشبه الذكريات، بل كأنها احتمالات.

في كل صورة وجهٌ يبتسم، بعضهم يشبهني، وبعضهم لا.

لكن في كلهم شيءٌ مألوف — ذلك الانحناء الخفيف في العين، أو الطريقة التي تميل بها الشفاه كأنها تهمّ بكلمة لم تُقل بعد.

اقتربت من إحداها.

مددت يدي، فابتسم الوجه لي أكثر، ثم قال همسًا:

> "أخيرًا رأيتني."

صوته كان خافتًا، لكنه اخترق أعماقي كما يخترق الضوء غيمة.

لم أجب.

لم يكن في داخلي سؤال، فقط دهشة.

قال الوجه — أو الظل الذي يشبهني —

> "كنتَ تبحث عن المخرج، أليس كذلك؟"

لم أحرّك رأسي، لكن الفكرة أجابت عنه: نعم.

ابتسم الظل، وقال بطمأنينةٍ تشبه النوم بعد بكاءٍ طويل:

> "وهل تظن أن الخارج مختلف؟"

كلماته كانت بسيطة، لكنها فتحت في داخلي فجوة من ضوء.

لم أجد ردًّا.

لأنني في تلك اللحظة أدركت أنني لا أريد الخروج بقدر ما أريد الفهم.

والفهم لم يكن سؤالاً ليُجاب، بل حالة يُسكَن فيها.

كل شيء من حولي بدأ يذوب في هدوء.

الجدران صارت ضبابًا، والضباب صار موسيقى، والموسيقى امتدت فيّ كأنها تنسجني من جديد.

كنت أشعر أنني أتحوّل… لا إلى شيءٍ آخر، بل إلى ما كنتُه دائمًا دون أن أعرف.

سمعت الصوت الأول — ذاك الذي قادني منذ البداية — يعود، لكنه الآن أكثر نعومة، كأنه يهمس في قلبي لا في أذني:

> "ألم أقل لك إن الطريق لا يبدأ إلا حين تضلّ؟"

ابتسمت.

لأول مرة منذ بداية التيه، لم يكن في الابتسامة خوف.

كانت ابتسامة من يقبل ما هو عليه، لا لأنه فهمه، بل لأنه كفّ عن مقاومته.

ثم حدث شيء غريب:

الظل الذي كان يكلمني بدأ يخرج من الجدار، ببطء، كأنه ينفصل عن صورته.

لم يكن يخيفني.

حين اقترب، أدركت أن ملامحه ليست غريبة… بل مألوفة جدًا، كأنني أنظر في مرآةٍ لم تكن موجودة إلا الآن.

وقف أمامي، وجهان متقابلان، نفس الملامح، نفس النظرة.

قال:

> "أنا لست آخرَك، بل أولَك."

"أنا الجزء الذي ظلّ ينتظرك حين كنتَ تظن أنك تائه."

مد يده، ولم أتردد.

حين التقت يدانا، لم أشعر بلمسةٍ جسدية، بل بحرارةٍ لطيفة، دفءٍ صامتٍ ينتشر في كل نقطةٍ مني.

اختفى الظلّ بعد لحظة، لكن أثره بقي — إحساسٌ غريب بالامتلاء، كأن شيئًا فيّ عاد إلى مكانه الطبيعي بعد غيابٍ طويل.

لم أعد أخاف العتمة.

في الحقيقة، أدركت أنني أحبها.

فالعتمة ليست نقيض الضوء، بل رحمُه.

كل ضوء يولد من ظلمةٍ أولى، وأنا كنتُ تلك الظلمة التي تنتظر ولادتها.

من بعيد، بدأ المكان يتغير من جديد، هذه المرة إلى شكلٍ لا يمكن وصفه.

لم يكن ممرًّا ولا غرفة.

كان فضاءً مفتوحًا، يتنفس بالألوان، كل لونٍ فيه ينبض بمشاعر لا أسماء لها.

الهواء صار ناعمًا، كأنه يغسل الأفكار.

وفجأة، سمعت همسًا يشبه الدعاء:

> "سلامٌ على من وجد نفسه في التيه."

لم أعرف من قالها، لكنني شعرت بها كأنها تُقال عني ومني في آنٍ واحد.

جلست على أرضٍ لم تكن أرضًا، تحت سماءٍ لا شكل لها.

ولوهلة، خيّل إلي أنني أبتسم… لا لأنني خرجت من المتاهة، بل لأنني أصبحت جزءًا منها.

الفهم لم يعد مهمًا.

كل شيءٍ صار معنى بلا جهد.

حتى الصمت صار لغة.

حتى الظل صار وجهًا يبتسم في داخلي.

ربما لهذا سُمّي السلام: أن تتصالح مع غموضك.

أن تدرك أن الأسئلة ليست جدرانًا بل نوافذ.

أن تنظر في المجهول وتقول له: مرحبًا، أعرفك.

حين فتحت عيني مجددًا، لم يكن هناك شيء حولي.

لا ممرّ، لا جدران، لا صوت.

فقط نقطة ضوء صغيرة في البعيد، تكبر ببطءٍ مثل وعدٍ قديم.

سرت نحوها دون خوف، دون تردد، دون حتى رغبة.

كأنها كانت تعرف أنني آتي، وكأنني كنت أعرف أنني أصل.

كل خطوة كانت خفيفة، كل نفسٍ ناعم.

الضوء ازداد حتى غمرني بالكامل، ولم يبقَ منّي سوى الإحساس بأنني… بخير.

وفي آخر لحظة قبل أن يتلاشى كل شيء، سمعت الهمسة الأخيرة، دافئةً، مطمئنة، خفيفة كالنسيان:

> "من وجد نفسه، لم يخرج من المتاهة… بل جعلها بيتًا."

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon