الدمُوع القرمزية
...----------------...
^^^توغَّلتُ داخلَ الغابَةِ ويدي في جيوبِي. أرمقُ الأرض أمامي مكسوة بالثلج بنظرةٍ غيرِ مباليةٍ فبدا كل شيء بلون واحد. خطوةً خلفَ خطوةٍ وصوتُ نحيبِ أحدِهم يتضحُ لمسامعي شيئًا فشيئًا. فارتسمتِ ابتسامةٌ هازئة عُلو شفتيَّ.^^^
^^^«غُرابُ الليلِ يَنِعُقُ على غصنٍ مكسورٍ يدنَسُ ما تبقّى من بياضِ ريشِه.»^^^
^^^دندنتُ بتهويدةٍ أحفظها عن ظهرِ القلبِ فيما أسيرُ مراتخيًا والبذلةُ السوداءُ تطوِقُ جسدي بمثاليةٍ لأجلِ طقوسٍ عملي يفرِضُها عليّ قانونه: أن أبدو كاملًا حتى حينَ أنفِّذُ نصفَ كارثةٍ.^^^
^^^«زِيرافُ يُنيرُ اللُّجّةَ السوداء كزمهريرٍ، وصغيرٌ يَنشُجُ وسطَ صهريجٍ من الدماءِ.»^^^
^^^التهويدةُ لم تفرِّقْ شفتَيَّ. فرفعتُ بصري إلى السماءِ التي حملتْ لونًا رماديًا -كحالِ عينَيّ- تنذرُ بإسقاط حمولتها. ^^^
^^^قِيل لي سابقًا أن عيوني حملت رماد أموات، كنتُ مجرد صبي صغير حينها، لكنني الآن الشاب فِي عقده الثلاثين بَات يصدق ما قيل لهُ.^^^
^^^الغابَةُ ابتلعت وقعَ خطواتي، وأمسى يتجلّى لي الآن أشكالُهم، وصوتُ شهقاتِ بكاءِ جعلَ ابتسامتي هامشيةً تتسع.^^^
^^^«الغُرابُ يَنِعُقُ بجُنُونٍ فوقَ رُكامٍ، يرفِرِفُ بأجنِحَتِهِ دامِسَةً على عَيْنانٍ صغيرٍ؛ يَحُلِّقُ حولَه حتى يحُطَّ بمهلٍ على كتفيهِ المرتَخيتينِ.»^^^
^^^لاحَ لبصري مجموعةٌ من رجالي يقيدونَ جسدَ عجوزٍ مرتعدٍ قربَ جرفِ الجبالِ الذي نحنُ به. بذلَتُهُ الزرقاءُ كعينيهِ قد اتسختْ بالوحل، ولحيتهُ سوداءٌ يخالطها شَيْبٌ باتتْ مبتلة بنَباتِ عينيهِ.^^^
^^^لستُ عَجولًا في التقدُّم؛ لم علي أن أسرعْ بينما النهايةُ مختومةٌ سلفًا وموقَّعةٌ بمداده؟^^^
^^^«واحدة..اثنتان..ثلاثة يَبِهثُ زُمرد أمامَ الغُرابِ الأسودِ.»^^^
^^^توقَّفَ صوتُ نَشيجِه، وأريجَ ذعْرِه فاحَ في الأرجاءِ جعل دواخلي تهلل بسُرور جاشعة لمزيد.^^^
^^^«أربعة..خامسة..سادسة وخَطى مشرِطٍ يد نافِجٌ ضاحِكًا.» وقفتُ أمامَه جاعلاً من رَهبةٍ عميقَةٍ تستوطنه بكلِّ جبروتِ، خَارِتُ قُوّاهُ باستِسلامٍ مُدركًا يقينًا أن لا مَهْرَبَ له مني. فجثا أمامي ورأسُه يكادُ يلمسُ الأرضَ: «أرجوكَ سيدي أندرو، ارحمْني لدي العائلة.»^^^
^^^«سابعة..ثمانية..تسعة أطيافُ البؤسِ تطفو فوقَ مَأقيهِ متهلِّلاً.»^^^
^^^أكملتُ دندنةَ التهويدةِ دونَ مبالاةٍ لكلامِه؛ فعادتْ بَناتُ عينيهِ لتغدِقَ الأرضَ بسَخاءِها وفيرًا، ولم تهتز مني شعرةٌ لمنظَرهِ جاثيًا أمامِي بذِلٍّ وجسَده يرتجفُ لبكاءِ مروعٍ قد فشلَ في كبحِه أمامي.^^^
^^^«تسعة..العاشر..الأخير. وَحْشٌ يَحلِقُ نحوَ الرَّبيعِ باكِيًا أخيرًا.» فرتْ قَهْقَةٌ صاخِبةٌ من شَفَتي عندما اختتمتُ التهويدةَ تزامُنًا معَ تساقط رقائع الثلج تلامسًا جسَماني بهدوءٍ.^^^
^^^«أَخبِرني سيد والتر...» رفعَ وجهَه إليّ وخوفٌ عميقٌ جثمَ بعينيه؛ فتسلّلَتِ النشوةُ إلى وجداني من لذّةِ ما أراه.^^^
^^^هذا ما أُحبُّ.. رؤيةَ الخوفِ يَغزُو النُفوسَ بسببي.^^^
^^^«هل تبتغي الخلاص حقًّا؟» قلتُها بنبرةٍ هادئةٍ كأنني أسأله شيء بسيط، وبسمةٍ وديّةٍ تعتلُ مُحياي عكسَ ما كنتُ عليه قبلَ ثوانٍ.^^^
^^^«أنجيك سيدي أعف عني لدي أطفال.» أمسكَ بحذائي برجاءٍ ذليلٍ وأطْرقَ رأسَه أرضًا رافِضًا النّظرَ إلى رماديّتَيّ.^^^
^^^«انهَضْ إذا.»^^^
^^^«م-ماذا؟»^^^
^^^«كما سَمِعتَ.»^^^
^^^للحظةٍ أشرَقتْ ملامِحُهُ بابتهاجٍ كغريقٍ أمسكَ بطَوْقِ نجاةٍ أخيرٍ، نهَضَ فورًا وامطَرَني بواوْبلٍ من الشكرِ.^^^
^^^غير أن بسمةٌ لطيفةٌ التي كانت تزين مُحياي قد تلاشت، لتحلَّ محلَّها جَمودٌ مهيبًا أرعَبَ والتر لإنفصامي قد جعل أوصاله تتجمد، وفي ثوانٍ رَكَلْتُه بقوّةٍ فتمايلَ ليتدحرَجَ إلى الخلفِ ثم... بينغو — وقعَ أعلى الجرفِ الآن.^^^
^^^قَهقهةٌ صاخبةٌ فَرَتْ من شفتي مجددًا حين أمكنني سَمْعُ صوتِ تَحطُّمِ عِظامِه في الأسفل، واحشاؤُه قد تفجرت لقوّةِ السقوطِ.^^^
^^^دِماؤه القانِيَةُ لطخت بَياض الثَّلج الّذي يُحيطه، فبَدا كلوحةٍ دمويةٍ بَديعةٍ بالنِّسبةِ لي، وقَد تَلَأْلأ بريقُ عينيّ بمُتعة مِمّا أراه.^^^
^^^«إذا تراجَعَ زبونٌ طالبًا الصفحَ، فالقيراطُ الأخيرُ يكونُ لِلغةِ الموتِ؛ ومَنَكثَ لَعْهُدَهُ ولو افْتَدَاهُ بلوعةٍ، لا يَسْتَحِقّ إلا العِقابُ.»^^^
^^^هناكَ شيئانِ فقطِ يَنتَشِيانِني في هذهِ الحياةِ.. الخوفُ قابعٌ في عيونِهم، وتنفيذُ الموتِ لهم كالمُوَقّتِ.^^^
^^^هذا هُو أنا..^^^
^^^أندرُو كورڤن، بائع الموت.^^^
...----------------...
Comments