كانت شمس الصباح تشرق على القرية بخجل، والضباب يلف الحقول كأن الأرض تتنفس ببطء بعد ليلة ثقيلة. وقف سعيد أمام بيتهم الطيني يتأمل السماء، يحاول أن يطرد عن ذهنه الكوابيس التي أرّقته. رأى في منامه ألسنة نار تبتلع القرية، وصيحات أطفال يركضون، ووجهه يختفي وسط الدخان. استيقظ مذعورًا وهو يتصبب عرقًا، وكأن الحلم لم يكن مجرد خيال بل نذيرًا لما هو آتٍ.
بينما كان يغسل وجهه عند البئر، لمح جموعًا من أهل القرية يتجمعون عند أطراف الحقول. فضوله دفعه إلى الانضمام إليهم، وهناك كانت الأخبار تنتشر كالنار في الهشيم: النهر الذي يمد القرية بالماء انحسر فجأة، وتوقفت الجداول الصغيرة التي تسقي الأراضي.
ارتبك الجميع. فالقرية تعتمد على ذلك النهر منذ أجيال، وأي خلل فيه يعني تهديدًا مباشرًا بالهلاك؛ عطشًا أولًا، وجوعًا ثانيًا، وانهيارًا كاملاً للحياة التي اعتادوا عليها.
سعيد وقف صامتًا، قلبه يخفق بقوة. تذكر حلمه، وتساءل في نفسه:
"هل يمكن أن يكون هذا بداية الكارثة؟"
ليلى كانت بينهم، وجهها شاحب لكن عينيها مشعتان بصلابة غير معهودة. قالت بصوت ثابت:
"لا وقت للارتباك. علينا أن نعرف السبب. ربما سدٌّ انهار، أو الصخور سدت مجرى الماء. إذا انتظرنا، سنموت عطشًا."
تعالت الأصوات بين الرجال:
– "لن نغامر! الطريق إلى أعالي النهر خطير، مليء بالذئاب والمنحدرات."
– "لن نخاطر بحياتنا. الأفضل أن ننتظر… ربما يعود الماء وحده."
ضحكت ليلى بمرارة:
"هل سيعود وحده؟ أم ستسقط السماء ماءً علينا؟ إن كنا جبناء فلن يبقى لنا سوى انتظار النهاية."
سعيد شعر أن كلماتها تخترق صدره كالسهم. أراد أن يتكلم لكنه ابتلع صوته. كان داخله صوتان: أحدهما يصرخ أن يبقى في أمان القرية، والآخر يطالبه أن ينهض ويواجه.
الحاج فؤاد ظهر فجأة بين الجمع، متكئًا على عصاه، وصوته الهادئ يعلو على الضوضاء:
"لقد عشت طويلاً، ورأيت القرية تمرّ بمحن كثيرة. من يظن أن النجاة تأتي بالصمت مخطئ. الحياة لا ترحم الخائفين. إن لم نبحث عن السبب، سنهلك جميعًا."
التفت الحاج نحو سعيد، وكأن عينيه تخترقان خوفه:
"أنت يا سعيد، ما رأيك؟"
ارتبك سعيد، تلعثم قليلًا، ثم قال بصوت منخفض:
"أنا… لا أعرف. لم أذهب إلى أعالي النهر من قبل."
ابتسم الحاج ابتسامة صغيرة، وقال:
"إذن حان الوقت لتتعلم. لست وحدك. كل شاب في هذه القرية مدعوّ ليحمل نصيبه من المسؤولية."
كان عصام، ابن العم الذي طالما نافس سعيد واحتقره، يقف بجانب الجمع. رفع صوته ساخرًا:
"سعيد؟ هل تظنون أن هذا الخائف يصلح لشيء؟ لو رأى ذئبًا من بعيد، لركض باكيًا نحو أمه!"
ضحك بعض الشبان، وانكمش سعيد كأنه تلقى صفعة على وجهه. لكن ليلى تقدمت خطوة، نظرت إلى عصام بازدراء وقالت:
"الشجاعة ليست في اللسان يا عصام. حين يحين وقت الفعل سنرى من يهرب ومن يثبت."
كان ذلك الدفاع البسيط كالنار التي أشعلت شيئًا في صدر سعيد. شعر بامتنان خفي، لكنه ظل صامتًا.
مع اقتراب المساء، اجتمع وجهاء القرية في بيت الحاج فؤاد. القرار كان واضحًا: تشكيل مجموعة صغيرة تتوجه فجراً نحو أعالي النهر لتكتشف سبب انقطاع الماء. القلق يسيطر على الجميع، لكن لا بد من خطوة.
في تلك الليلة، لم يستطع سعيد النوم. جلس قرب النافذة، يتأمل القمر الذي يغطي القرية بنوره الباهت. سمع أصوات الكلاب في البعيد، ورأى أمه تجهز بعض الخبز والماء استعدادًا لرحلة الغد.
قالت له بهدوء وهي تضع يديها على كتفه:
"يا بني، لا تخف. الرجل لا يولد شجاعًا، بل تصنعه المواقف. ربما قدرك أن تكون واحدًا ممن ينقذون هذه القرية."
كانت كلماتها مثل البلسم على قلبه، لكنها أيضًا حملت ثقلًا كبيرًا. هل يمكن أن يكون بالفعل منقذًا؟ هو الذي طالما هرب من مواجهة أبسط المشكلات؟
قبل أن يخلد للنوم، تذكر حلمه مرة أخرى: ألسنة النار، صرخات الأطفال، الدخان. لكن هذه المرة، تذكر أيضًا أنه في الحلم كان واقفًا متجمدًا، عاجزًا عن الحركة.
تمتم في نفسه:
"غدًا… لن أسمح للخوف أن يشلني."
وبينما كان يغفو ببطء، كان صوت النهر الغائب يتردد في أذنيه كصرخة بعيدة تستنجد به.
Comments