الفصل الرابع – "طابق الصفر"
الظلام ابتلع كل شيء. لم يبق سوى أنفاس متقطعة تتردد في فراغٍ خانق. كان إياس يسمع صوته وكأنه غريب عنه، ثقيلاً، متكسراً، وكأنه محبوس في صدر آخر. حاول أن يفتح عينيه… لم يتأكد إن كان قد فعل. لا ضوء، لا ألم، لا ملامح. مجرد سكون يلتف حوله ككفنٍ بارد.
هناك خطب ما. هذا المكان لا يشبه البرج.
---
ثم انفتح أمامه مشهد آخر، وكأنه انزلق من الفراغ إلى حلمٍ يفيض بالصفاء. سماء زرقاء ممتدة بلا حدود، شلالات تهبط كأنها تنبض من قلب الغيم، وطيور غريبة تحلّق على ارتفاع منخفض، تترك في الهواء صدى أصوات لم يعرفها من قبل. الأرض نديّة تحت قدميه، واللون الأخضر يتوهج وكأن العشب نفسه يملك روحًا تتنفس.
خطا خطوةً، ثم أخرى، ثم وجد نفسه يسير بلا هدف.
يوم يمر… يليه آخر… ثم ثالث. لم يعرف الجوع ولا العطش، ولم يذق النوم. وكلما حاول الجلوس، وجد نفسه قائمًا من جديد، وكأن الأرض ترفض أن تمنحه راحة.
هل هذه جنة؟ أم أن روحه سُرقت من جسده؟
ومع ذلك، ظل إحساس ناقص يطارده. شيء يراقبه بصمت، يترصد من بعيد ولا يظهر.
---
في اليوم الثاني جلس قرب جدول ماء ضحل. ماؤه صافٍ لدرجةٍ تنذر بالخطر. انحنى ليلمح وجهه فيه… لكن ما انعكس لم يكن صورته.
ملامح مشوشة، عيون ضبابية، حدود وجه تتلاشى كلما حاول تثبيتها. بدا وكأن الماء يرفض الاعتراف بوجوده.
هذا ليس أنا… أو ربما لم أعد أنا.
ارتعش قلبه، لا من برد، بل من خوفٍ غامض ينهش داخله.
---
في اليوم الرابع احتمى تحت شجرة هائلة. جذعها يتسع لعشرة رجال، وفروعها تتسلق السماء كأنها تصرّ أن تلمس النجوم. كل شيء فيها متناسق… إلا غصن واحد. غصن أسود، داكن، بدا كأنه احترق، لكنه ظل معلقًا في مكانه متحديًا المنطق.
رفع إياس رأسه يتأمله. هذا الغصن… لا ينتمي لهذا العالم.
اقترب بخطوات حذرة، صعد فوق صخرة مجاورة، ثم مد يده ولمس الغصن.
حينها اهتزت الأرض. ارتجّت من تحته كوحش يستيقظ، وتشققت تربتها لتكشف عن بابٍ مخفي يفتح بصريرٍ معدني ثقيل. وقبل أن يلتقط أنفاسه، وجد نفسه يسقط… مجددًا… في ظلامٍ بلا قرار.
---
استفاق على سرير خشبي متهالك، تحيط به جدران معدنية مغطاة بالصدأ، ورائحة حديد رطب تلسع أنفه. الضوء الخافت يتدلى من سقفٍ منخفض، يشبه وهج شمعة على وشك الانطفاء.
وعند قدميه، وقف رجل وامرأة بصمتٍ عميق، كأنهما كانا ينتظرانه منذ زمنٍ بعيد.
ابتسمت المرأة ابتسامة رقيقة، صوتها بالكاد يُسمع:
"أخيرًا… استيقظت."
حاول إياس أن ينهض، لكنه شعر أن جسده أثقل من أن يطاوعه.
تمتم متوجسًا: "من… أنتما؟"
---
تقدّم الرجل. طويل القامة، لحيته البيضاء تهبط حتى صدره، عيناه مختلفتان: واحدة مطفأة بيضاء، والأخرى حمراء متقدة كجمرة. ثوبه أبيض مخطّط بخطوط سوداء كأنه قادم من عصر غابر.
قال بصوت يحمل ثِقل السنين:
"اسمي تيمور… وهذه ليلي، زوجتي."
ليلي ظلت خلفه، يغطيها رداء حريري أحمر يشفّ عن عينيها الزرقاوين، عميقتين كبحيرة جليدية. لا تجاعيد في ملامحها، لكن نظرتها تحمل عمرًا لا يُقاس.
نظر تيمور مباشرة إلى إياس:
"نحن نعلم لماذا أنت هنا. ونعلم أن الأسئلة تثقل رأسك… لكن الوقت يضيق."
صمت لحظة ثم أضاف:
"أنت في الطابق صفر. داخل حلم. وبقي نصف ساعة قبل أن ينتهي."
---
توالت الكلمات كطعنة بطيئة.
قال تيمور: "ما رأيته هناك… تلك الأرض… هي كما كانت قبل الحرب العالمية الخامسة. بعد الرابعة وُلدت طفرات بشرية، قوى لا يفهمها أحد. فقررنا حماية من تبقى من الإنسانية. لأننا كنا نعلم أن المأساة قادمة مع قوة جديدة."
أخفض صوته، وكأنه يخشى أن يسمعه الجدار نفسه:
"أنشأنا ملجأً سرّيًا، بعيدًا عن يد الحكومات، وخارج أعين الذكاء الاصطناعي."
همس إياس بشفاه يابسة: "لكن… لماذا أنا؟"
تيمور نظر إليه بثباتٍ يخترق العظام:
"الكائنات داخل البرج… ليست كلها كما تظن. بعضها عاش بيننا منذ زمن، مختبئًا. والمؤامرة بدأت من الداخل."
ثم اقترب خطوة وقال:
"الطابق صفر هو ملجأك."
شهق إياس، وقلبه يدق بجنون كطبول حرب.
---
وفجأة بدأ كل شيء يتفتت. صوت إنذار يخترق الفضاء من حوله، وملامح تيمور وليلي تتلاشى إلى ذرات ضوء. قبل أن تنمحي تمامًا، أطلقت ليلي كلمات متقطعة، ممزقة كأنها تمر عبر عاصفة:
"الحاسوب… هو… أملك… لا تـ…ثـق… بالـ…بـرج!"
---
انتفض إياس كمن خرج من غرقٍ طويل. عينيه اتسعتا، أنفاسه لاهثة. الجدران الحديدية عادت لتطوقه، رائحة المعدن، الأنابيب الصدئة…
تمتم: "البرج… عدت؟"
تفحص جسده. بلا جروح، بلا دم. لكنني كنت أنزف… كنت هناك.
وقف متردداً، قدماه ثقيلتان، حتى بدأت أصوات رقمية تتساقط في أذنه:
دينغ… "لقد أنهيت الطابق الأول بنجاح!"
دينغ… "تم منحك خمسين نقطة قوة."
"جرعتان معززتان…"
"تم نقش علامة المختار على روحك…"
"تم تفعيل المسار الخفي…"
دينغ… دينغ… المستويات ترتفع، كأن قوة خفية تتسرب إلى داخله رغماً عنه.
---
خرج من الغرفة ببطء. الممرات حوله صامتة كالموت، لكن في داخله عاصفة.
من هما تيمور وليلي؟
هل الحاسوب يقف بجانبي… أم يراقبني؟
هل كان ذلك مجرد حلم… أم تحذير؟
وما معنى أن أكون "المختار"؟ وما سرّ الطابق صفر؟
مد يده إلى مقبض باب منزله، لكن قبل أن يلمسه ظهر أمامه فجأة حاجز ضوئي… شاشة حمراء شفافة، لا تشبه شاشة البرج المعتادة ذات اللون الأزرق.
وتوقف الزمن عند هذا المشهد.
11تم تحديث
Comments