السراب
كانت خطواتي ثقيلة، كأن الأرض نفسها تتألم من وطأة أحزاني التي ضاعفت ثقل جسدي. كنت في طريقي إلى ذلك الملاذ الأخير الذي يعود إليه الجميع مع مغيب الشمس وانتهاء النهار، إلا أولئك الهائمين، السكارى والمنحرفين، الذين لا يطرقون أبوابهم إلا مع طلوع الفجر—وأحيانًا لا يعودون أصلًا.
بالطبع، لست واحدًا منهم. بالرغم أنني أمشي في زقاق معتم عند الثانية بعد منتصف الليل، لكن عملي الإضافي فرض علي ذلك. لدي سبب ليس كأي سبب تقلدي، ليس للفقر أو الديون، بل لأنني أظن أن ما دفناه منذ سنين وهو ذلك السر القديم، سر توهم الجميع أنه دُفن منذ زمن، إلا أنا. فأنا أؤمن أن لكل حدث تبعاتٍ ترفض الرحيل، تمامًا كحكاية عائلتي التي ما زالت تستعصي على فهمي و استيعابي ...
قطع سيل أفكاري مشهد غريب؛ لا بل كان حلما، ذراع دمية ملقاة على الطريق، وكأن أحدهم أراد إخافة رجل عائد لمنزله ليلاً —وراح يزيد الأمر غرابة بقليل من الدماء المزيفة... أي جنون هذا؟!
حاولت تجاهل الأمر، ربما هي مزحة سخيفة، لأخي الحالم بالجنون نفسه — الذي حقا ربما يفعل هذه الأمور.
لكن لحظة، أخي ليس هنا أصلًا! وكيف نسيت أن وجودي هنا بدلًا من سريري بجوار زوجتي يعود إلى جنون آخر—رايو.
لماذا حدث كل هذا؟ أذكر شجار رايو مع والدي، هروبه من المنزل، وانتظاري الدائم لرسائله في صندوق البريد...
سأعود لتلك الأفكار لاحقًا. ذلك ما قلته لنفسي؛ الآن علي أن أزيح هذه الذراع من طريقي—يا إلهي! ه...هذه ذراع حقيقية...
تجمدت أوصالي. سمعت أنينًا أجش، همسات متحشرجة بدت مألوفة حد الرعب. جسدي تحول إلى قطعة جليد مترجمة في المحيط منذ آلاف السنين.
تهددها حرارة الذاكرة بأن تذوب،وايس لها إلا الصمود مع كل هذا الألم الذي لا يرحم.
مرّت أمام عيني أجمل لحظات حياتي معها ، كلمات لم تمحها السنوات:
الآن لدينا عائلة يجب أن نكون معها ولا نتركها أليس كذلك؟!
"بابا... أنظر إلي، صرت كبيرة وغدًا ستأخذني إلى المدرسة، صحيح؟"
"راي، صرت أبًا الآن مرة أخرى، صحيح...؟"
****
...كانت صرختي تسبق خطواتي في الزقاق. وفي كل زاوية، عثرتُ على بقايا بشرية... قدم، إصبع...
لكني تعثرت فجأة—لا، لم تكن صخرة... بل كان رأسها!
انهرت على ركبتي، لا أدري كيف تمالكتني الجرأة لأمسكه بين يدي... رأسها! وهذا كل ما استطعت قوله: "آه... آه..."
جلست هناك، بجوارها، نصف ساعة وربما أكثر، قبل أن أجمع شتات روحي وأكمل طريقي، حيث كان يفترض أن أذهب من البداية. لم أستطع إنكار دموعي، لكن...
يا للعجب، كانت جافة تمامًا!
هل هذا أنا أم هل هي من كانت هناك أو هل أنتمي إلى هنا حتى؟!
كيف حدث هذا؟
لماذا هي؟
أكل هذا بسببي، لأني تركتها وحدها، كنت أنانيًا فلم أشعر بما ألمّ بها...
لو أنني فقط لم أتركها وحدها... لو أنني فهمت همومها كما تفعل هي...
لن أسامح نفسي أبدًا، فذاك جرح يتعدى حدود الكلمات. كيف سأبرر لأطفالي أنني عثرت على أمهم هكذا، وأنني في البداية صافحتها، ثم تعثرت برأسها...؟
أكنت أجبن من أن أجمع أشلاءها وتُركتها وحيدة، كما تركتها دومًا من قبل...؟
يتبع في الفصل القادم...
فهل حقًا يعصف بنا القدر في لحظة نسينا فيها ذكرياتنا، فنستيقظ وكأننا بلا مشاعر، بلا دمعة واحدة؟
وهل فعلاً استيقظت أنا، أم ما زلت تائها في سراب؟
علقوا إذا أردتم معرفة من هو راي. إذا أعجبتكم القصة، سأكملها...
Comments
The Developer
حبكة الفصل رائعة 🔥
2025-09-05
0