Ruby
كانت تُدعى روبي، ليس لأن اسمها عابر، بل لأنها ولدت تشبه حجر الياقوت الأحمر؛ شعـرها كشعلةٍ تتراقص مع الريح، يسرق الأبصار كما يسرق الياقوت وهج النور في أعماق الأرض. بشرتها بيضاء كأنها صفحة قمرٍ أُضيئت بيد الخلود، وعيونها خضراء كغابةٍ سحرية تخفي أسرار الزمن بين أوراقها. لم تكن مجرّد فتاة، بل كانت كناية عن الفتنة المكنونة، وتشبيهًا حيًا للحلم الذي يجرؤ على أن يتجسّد. كلما نظرت إليها شعرت كأنك تعبر بوابة لعالمٍ آخر، عالمٍ تلمع فيه الأحجار وتتنفّس فيه الأساطير، فتجد نفسك مأخوذًا برغبةٍ جامحة في متابعة الحكاية حتى آخر سطر، وكأن قلبك نفسه أصبح أسيرًا ليقينٍ غامض: أن هذه الفتاة ليست من البشر، بل من جوهر الياقوت نفسه.
كانت تركض بأقصى سرعة لها، تتعثر أنفاسها مع وقع خطواتها، وخلفها مجموعة من الكلاب المسعورة ومعها مالكها يصرخ: "روبي أيتها الفتاة اللعينة، أعيدي نقودي!"… كانت قد سرقت منه عشر دولارات لا أكثر، لكنها بدت وكأنها أثمن من كنوز الأرض في تلك اللحظة. قفزت بروحها قبل جسدها إلى عربة تنقل زيت الزيتون للمملكة، متشبثةً بخشبها البارد، والعرق يختلط بالخوف في جبينها. وما إن حاولت النزول، حتى تحركت العربة فجأة لتقلع بها بعيدًا، تجرها إلى مصير لم تتخيله.
أصيبت روبي بذعرٍ وقلق، قلبها يخفق كطبول الحرب، حتى وجدت نفسها داخل أسوار القصر الملكي، تحيط بها جموع العمال بوجوههم الصارمة. تسللت بخفة الهاربة إلى الإسطبل، ظنّت أن الخيول وحدها قد تكون شاهدة على جرمها، لكنها أخطأت. إذ صهل حصان بصوتٍ عالٍ محدثًا ضجة، وكأن القدر أراد أن يكشفها. ومن بين الغبار والأصوات، ظهر شاب في العشرينات من عمره؛ ملامحه جمعت بين قسوة الفقر ورقة الجمال. وجهه بيضاوي مشوب بالأتربة، لكن شعره الأشقر اللامع كان يشبه خيوط الشمس، وعيناه بلون العسل تعكسان نقاءً لم تتعود رؤيته.
تجمدت روبي مكانها، وكأنها تمثال من ياقوت، عيناها متسعتان وصوتها مخنوق. قطع الصمت صوته الهادئ وهو يسألها: "من أنتِ؟ كيف دخلتِ إلى هنا؟"
بلعت ريقها وقالت بصوت مرتجف: "كنت ألعب مع أخي الصغير لعبة الغميضة… فاختبأت في إحدى العربات، ووجدت نفسي هنا بالخطأ."
تنهد الشاب، وكأنه يعرف أنها تكذب لكنه لم يرد فضحها، ثم قال: "هيا، سأساعدك على الخروج قبل أن يراك أحد."
قادها نحو باب خلفي للإسطبل، وفتح لها الطريق إلى الحرية. ابتسمت بارتباك وقالت: "شكرًا سيدي… لا أعرف كيف أوفيك حقك."
رد بابتسامة خفيفة، وعينيه تحملان شيئًا من الدفء: "لا بأس… اخرجي الآن، قبل أن تُمسكي."
وغادرت روبي، غير مدركة أن هذا اللقاء العابر، كان البذرة الأولى لحكاية ستغير مصيرها ومصير مملكة بأكملها.
وصلت روبي إلى قريتها الفقيرة مع غروب الشمس، والعرق يمتزج بتراب الطريق على جبينها، حين اخترق أذنها صوتٌ غليظ يناديها: "روبي! روبي!". التفتت بسرعة، لتجد رجلاً ضخماً يخطو نحوها؛ كان ماكس، الرجل الذي ربّاها منذ صغرها. ملامحه قاسية كالصخر، لحيته البيضاء الطويلة تتمايل مع الريح، ووجهه المخيف تعلوه عقدة حاجبين سميكين، كأنهما سيفان متشابكان فوق عينيه.
صرخ بصوت عميق يمتلئ رعبًا وغضبًا: "أين كنتِ أيتها اللعينة؟"
خفضت روبي رأسها، وصوتها يتقطع: "كنتُ أسرق… كعادتي… لكن هذه المرة كدت أن يُمسكوني."
رفع حاجبه الكثيف، ونظرة السخرية في عينيه تشبه طعنة خنجر: "وماذا أحضرتِ لي من هذه السرقة العظيمة؟"
ترددت قليلًا، ثم مدت يدها وأخرجت ما جمعته: بضع نقود، وقطع طعام رخيص لا يكفي حتى لإسكات جوع طفل. بدا كل شيء هزيلًا أمام جشعه.
غضب ماكس، وصرخ كالرعد: "أتمزحين معي؟! هذا كل ما استطعتِ سرقته؟!". مد يده الثقيلة ولطمها بقسوة حتى شعرت الأرض تدور بها، ثم أمسكها من شعرها الأحمر بعنف، يشده كأنه يريد اقتلاع جذورها. كانت صرخته تعصف في أذنها: "ألا تعرفين أني أطعمك لأجل أن تسرقي أكثر؟!"
جرها إلى حضيرة قديمة للدجاج، بابها الصدئ يئن مع كل دفعة، ثم رماها فيها وأغلق عليها بقفل صدئ. كانت الحظيرة خاوية، لا صوت فيها إلا صرير الريح، فالدجاج مات منذ زمن بعيد جوعًا، كما لو أن الحظيرة نفسها شاهد حيّ على فقرٍ لا يرحم.
لكن روبي لم تبكِ، ولم ترتجف. لم تتأثر، فقد اعتادت على هذه المعاملة منذ أن فتحت عينيها على هذه الدنيا. في داخلها نارٌ هادئة، كناية عن بركان لم ينفجر بعد، تخبئه خلف صمتها البارد. وبين جدران الحظيرة المظلمة، كانت تدرك أن حياتها مرسومة بالقسوة… لكنها أيضًا عرفت، في مكان ما داخل قلبها، أن القدر يخبئ لها شيئًا أكبر من أن يُحبس بين جدران متهالكة.
تسلّل خيطٌ من نور الشمس عبر النافذة الصغيرة، كأنه أمل يتسلل إلى قلبٍ أرهقه الليل. فتحت روبي عينيها بصعوبة، وجسدها ما يزال يؤلمها من برد الأرض القاسية. فجأة انفتح باب الحظيرة، ليظهر ماكس بوجهه المتجهم وصوته الغليظ:
"هيا يا فتاة… اخرجي، عليك أن تسرقي. ويُفضل أن تكون سرقة اليوم جيدة."
نهضت روبي ببطء، ظهرها يئن من قسوة النوم على التراب، وتوجهت إلى دلو قديم ممتلئ بماء المطر، غسلت وجهها ببرودٍ يلسع قلبها أكثر مما ينعشه. التقطت قطعة خبز يابس من بقايا الليلة الماضية، ثم خرجت بخطوات ثقيلة نحو سوق القرية، المكان الذي يزاحم فيه الناس، فتغدو السرقة أيسر.
بعد ساعات من التنقل بين الجموع، وسرقة القليل مما استطاعت، جلست روبي بجانب نافورة قديمة، تحدّق في انعكاس وجهها المتعب على سطح الماء. رفعت عينيها فإذا بها تلمح القصر الملكي يلوح في الأفق، عظيمًا ومظلمًا في آن، يحيط به صمت مهيب كأن الأرواح تسكن جدرانه. تمتمت لنفسها:
"من الجيد أنني استطعت الهرب ليلة البارحة… لولا ذلك، لكنت الآن جثة ملقاة تحت أقدام جنود القصر."
وقبل أن تبتعد بعينيها، شدّ انتباهها ازدحامُ العربات الفاخرة والخيول الجميلة التي وقفت أمام إحدى البنايات الراقية. نزلت منها مجموعة من الفتيات في أجمل الفساتين الحريرية، مرصّعة بالمجوهرات، بسماتهن مشعة، يسرن بخيلاء نحو المبنى. تبعتهم روبي بنظرات صامتة حتى دخلن إلى أحد الصالونات الخاصة بالعائلة الملكية. نظرت حينها إلى ثيابها الممزقة ويديها الملطختين بالغبار، فتنهدت بمرارة:
"حقًا… الحياة ليست عادلة."
عادت إلى بيتها القديم تجرّ قدميها المرهقتين، فتحت الباب لتجد ماكس مستلقيًا على أريكة بالية، يقرأ جريدته بيد، ويشرب الكحول باليد الأخرى. رفع نظره نحوها وقال باحتقار:
"أين كنتِ أيتها الفأرة القبيحة؟"
أجابت ببرود وهي تخفي حزنها:
"كنت أسرق… ماذا يمكنني أن أفعل غير هذا؟"
قطّب حاجبيه وقال:
"ولمَ عدتِ باكرًا اليوم؟"
تقدمت روبي وأظهرت له ما سرقته من نقود وطعام، فارتسمت على وجهه ابتسامة مريبة وهو يهتف:
"حسنًا… أحسنتِ. سأبيع هذه الغنائم لاحقًا."
لم تتمالك نفسها وقالت:
"هل ستذهب لتلعب القمار مجددًا؟… أليس من العيب أن تُهدر النقود هكذا؟ كان الأجدر بك أن تشتري بها طعامًا."
زمجر غاضبًا، وصرخ في وجهها:
"ماذا تقولين أيتها الطفلة؟! بدأ ينمو لكِ لسان طويل! رتبي المنزل حالًا ولا أريد أن أسمع صوتك مرة أخرى!"
هزّت رأسها بخضوع، ثم أمسكت بالمكنسة وبدأت في تنظيف المكان، بينما الدموع تنهمر من عينيها بصمت، كأنها تغسل شيئًا أعمق من الغبار. في داخلها شعور لا يغادرها: أن هذا لم يكن قدرها الحقيقي، أن قلبها خُلق لشيء أعظم من السرقة. ومع كل دمعة تسقط، كانت عازمة على قرار واحد: من الغد ستبحث عن عملٍ حقيقي، مهما كان شاقًا، علّها تجد بدايةً جديدة لحياة أخرى.
في صباح اليوم التالي، كانت الشمس بالكاد قد أشرقت حين حزمت روبي أمرها على أن تبدأ حياة مختلفة. قبل أن تغادر، وقفت أمام ماكس وقالت بصوت ثابت:
"سأتوجه للبحث عن عمل حقيقي."
ضحك ماكس بسخرية عالية، كأن صوته سهام تمزق كبرياءها:
"عمل؟! حقًا أصبحتِ نقية وطاهرة فجأة، أيتها الطفلة اللعينة؟"
رفعت رأسها متحدية وقالت:
"سأبحث عن عمل… هذا أفضل من السرقة. سئمت أن أسرق لقمة من الآخرين لأعيش."
رمقها ببرود وقال وهو يشعل غليونه:
"لا يهمني ما تفعلينه. المهم أن تحضري لي النقود مع غروب الشمس… وإلا، لن يعجبك ما سأفعله بك."
هزت رأسها، وغادرت بخطوات مثقلة، تتشبث بالأمل الهش الذي يحيا في صدرها. تجولت بين أزقة القرية، تطرق الأبواب وتسأل في الدكاكين، لكن الوجوه كانت تصدها ببرود، والهمسات تتعالى خلف ظهرها: "إنها السارقة… لا يمكن الوثوق بها."
محبطة، جلست بجانب النافورة القديمة، تحدق في مياهها الراكدة، حتى رأت فجأة عجوزًا تسقط أرضًا أمامها. هرعت إليها بسرعة، وقالت:
"عمتي! هل أنتِ بخير؟"
ردت العجوز بصوت متقطع:
"دوائي… في حقيبتي."
فتحت روبي الحقيبة، فإذا بها مليئة بالنقود والذهب، ويدها ترتجف بين خيارين: أن تعود لسلوكها القديم، أو أن تثبت لنفسها أنها ليست مجرد سارقة. عضّت شفتيها بحزم، أخذت الدواء وأعطته للعجوز، ثم ساعدتها على النهوض.
وبينما كانت تمسك بيدها، دوى صوت رجل ينادي بقلق:
"أمي! أمي!"
أسرع شاب نحو العجوز، وارتمى بجانبها، ثم نظر إلى روبي وقال:
"هل ساعدتها؟ أشكركِ… لقد أنقذتِ حياتها."
أجابته العجوز بتنهيدة:
"هذه الفتاة الطيبة أنقذتني."
تنفس الرجل الصعداء ثم قال:
"أمي امرأة كبيرة في العمر، وأنا مضطر للسفر مع زوجتي خارج البلاد… لا أعلم من سيعتني بها، ومرضها يفتك بها ببطء."
رفعت روبي رأسها وقالت بتردد:
"أنا… يمكنني أن أساعدها. أعمل كخادمة مقابل مبلغ بسيط، فقط دعني أعتني بها."
تأملها الرجل مطولًا وقال بحذر:
"لا أعرف… لكن حسنًا، سأجرب. هذه فرصتك."
مدّ لها ورقة صغيرة وقال:
"سآتي غدًا في الساعة الخامسة، عند هذه النافورة، لأصطحبك إلى البيت."
ابتسمت روبي، وشعرت لأول مرة أن الطريق أمامها قد يفتح لها بابًا آخر غير السرقة. عادت إلى المنزل بخفة لم تعهدها، لكن ما إن فتحت الباب، حتى وجدت ماكس ينتظرها على الأريكة، عينيه تضيقان كالذئب وهو يقول:
"حسنًا… ماذا أحضرتِ لي اليوم؟"
ترددت لحظة، ثم قالت:
"لا شيء."
انفجر غاضبًا، أمسك شعرها الأحمر بعنف وهو يصرخ:
"لا شيء؟! كيف تجرئين؟! ألم تخرجي للعمل؟"
وقعت على الأرض، ودموعها تتلألأ على خدها وهي تهمس بصوت مرتجف:
"غدًا… غدًا سيكون أول يوم لي في العمل."
رمى بها بقسوة، ثم اقترب منها مهددًا:
"إن لم تحضري النقود غدًا… سأرسلكِ إلى السجن! والجميع هنا يعرف أنك سارقة، لن يشكّوا بك لحظة."
ارتجفت روبي، قلبها يخفق كطبول الحرب، وأجابت بصوت متحشرج:
"حسنًا…"
لكن في داخلها، لم يكن الخوف وحده من يتأجج، بل شعلة صغيرة بدأت تتقد: شعلة التحدي.
Comments