الفصل الرابع

الساعة تشير إلى الثانية فجرًا.

السماء ملبّدة

يركض. يصرخ باسمها، صوته يندفع في الهواء كموجة لا يسمعها أحد:

"جومانا!!"

لا أثر لها.

لا ظل. لا حركة.

فقط أشجار تبتلع الصوت، وطين يبتلع الأقدام.

مصباحه اليدوي بدأ يضعف

"اللعنة…"

بحث عن أي لمحة… لون، صوت، طرف قماش.

ترتدي السواد. وكأنها تواطأت مع الليل لتختفي تمامًا.

واصل التقدّم، ملامحه متخشبة، أنفاسه ثقيلة، حتى اقترب من منحدر مرتفع، تغطيه الأعشاب الكثيفة.

حين سلّط ضوءه على الأسفل…

تجمّد.

كانت هناك.

كتلة جسدها في قاع المنحدر، بالكاد مرئية. لكنها هي.

"جومانا!!"

صوته ارتفع حدّ الصراخ، فرفعت رأسها نحوه

وجهها شاحب، وشعرها مبعثر، ويدها تقبض على ساقها المرتجفة.

هو لم يتردد.

أدار نظره بسرعة يبحث عن ممر للنزول. لكن لا طريق واضح.

المنحدر زلق، والطين كثيف، حتى الصخور مغطاة بالطحالب.

"تبًا…"

خلع معطفه بسرعة، قفز نحو الجهة الأقل انحدارًا، وبدأ يتسلّق نحو الأسفل، يزحف، ينزلق، يتمسك بأي جذع أو صخرة.

انزلقت قدمه مرتين، كاد يسقط، لكنه لم يتوقف.

وأخيرًا… وصل.

اقترب منها، عينيه مشتعلة ممزوجة بين الخوف و الغضب هو نفسه لا يعرف لماذا

لماذا يهتم بها

صرخ بها؛

"هل فقدتِ عقلك؟! هل تحاولين قتل نفسك؟!"

رفعت نظرها، تنظر إليه نظرة متعبة، عينيها شبه دامعتين:

"لا تصرخ في وجهي."

"كيف لا أصرخ؟ جعلتِ قلبي يتوقف، وأنا أركض بحثا عنك بين الأشجار وكأنني أبحث عن شبح!"

"ظننت أنني أستطيع الهرب…"

صوته ما زال حادًا:

"والآن انظري إلى نفسك. ساقك ملتوية، وجهك شاحب… ولو لم أرك، كنتِ ستقضين الليل هنا تموتين بالبطيء."

"قلت لا تصرخ!"

صرختها جاءت أضعف مما أرادت

"أنا لست ملكك، حتى تأتي وتتصرّف كأنك تملك حياتي."

تجاهلها

تقدّم منها، ركع بجانبها، نظر إلى ساقها:

"لا يبدو أنها مكسورة… التواء فقط."

"شكرًا على التشخيص، أيها الطبيب العظيم."

تمتمت بسخرية، وهي تبعد وجهها عنه.

زفر بقوة

"هل تستطيعين الوقوف؟"

"ربما."

مد يده نحوها لتتوازن، لكنها لم تأخذها.

"لا تلمسني… قلت لك."

رمش ببطء، عيناه تضيقان.

"جميل. إذن ابقي هنا حتى تهاجمك الضباع. أنا حاولت."

"هيا إذن، اذهب."

عندما بدأ فعلاً بالابتعاد خطوة واحدة، ترددت، ثم همست:

"لا تتركني."

توقف.

استدار ببطء، اقترب، انحنى مجددًا… رفعها بحذر بين ذراعيه.

"قلت لك لا تلمسني…"

همست وهي تحاول مقاومته بضعف.

"وأنا لا أسمع الآن. أسكّتي."

يدها على صدره، تحاول التراجع… لكنها لم تملك القوة.

"كنت فقط… خائفة."

قالتها وكأنها تعتذر.

"وأنا… غاضب. لكني خائف أكثر منك عليك."

لم ترد.

ظلت بين ذراعيه، عيناها تحدّق في كل شيء عداه  شفتاها ترتجفان.

مشى بصعوبة لأنه مصاب أيضا، صعد المنحدر بخطى ثقيلة، اما هي لا تعرف هل تهرب من هذا الرجل، أم تتمسك بذراعيه لأن الغابة أبشع.

شدّ ذراعيه حولها، أخذ نفسًا عميقًا، وبدأ بالصعود رغم الإنهاك.

كاد أن ينزلق مرّتين. العرق يقطر من جبينه، و كتفه يألمه لكنه لم يتوقّف.

وصل إلى القمة، جلس على الأرض العارية، يلهث، وهي بجانبه تتأوه بخفوت.

نزع سترته، لفّها حول جسدها المرتجف، ثم نظر إلى الأمام:

"القصر ما زال بعيد. هل تستطيعين المشي؟"

أومأت له ببطء.

وقف، ومدّ يده… هذه المرّة، أمسكتها دون تردّد.

خطوتها كانت بطيئة، تسحب قدمها المصابة كأنها تحمل معها العالم كله، وهو يسير بجانبها، يمسك بها بقوة دون أن يقول كلمة.

ثم… توقّفت فجأة.

"تايهيونغ…"

قالت اسمه بهلع، وأشارت نحو ظلٍّ أسود يتلوى.

أفعى.

في البداية لم يفهم، لكن عينيه سرعان ما رصدا الحركة.

سحب سلاحه، وأطلق طلقة واحدة بجانبها، دون أن يصيبها.

الأفعى انسحبت بسرعة بين الأشجار.

وضعت جومانا يدها على صدرها، تتنفس بفزع.

"قلبكِ سيخرج من مكانه."

قالها بسخرية، وهو يعيد السلاح إلى حزامه.

نظرت إليه بعبوس:

"لا تسخر مني… كانت قريبة انا اخاف منهم"

"ومن يركض إلى الغابة ليلاً بثوب أسود… يخاف من أفعى؟"

هزّ رأسه وهو يتنهد:

"معجزة أنكِ ما زلتِ حيّة."

"توقف عن السخرية."

"إذًا توقفي عن التصرف كطفلة."

لم تجبه. فقط عضّت شفتها وأكملت السير بتثاقل.

لكن بعد خطوات قليلة، تعثّرت.

"آه…"

وقفت مكانها، وجهها شاحب. الألم واضح.

تايهيونغ تنهد، تقدم نحوها، نظر في عينيها ثم قال بنبرة حازمة:

"كفى. اجلسي."

لم ينتظر موافقتها.

أسندها إلى جذع شجرة كبيرة، جلس بجانبها، ولم يقل شيئًا.

الغابة صامتة، لكن قلوبهم لا تعرف الصمت.

صمت كأن تحته آلاف الكلمات التي لم تُقال… بعد.

جومانا تستند إلى جذع الشجرة، تتنفس ببطء

الألم يخبو في ساقها لكنه ما زال يوجعها.

رفعت رأسها فجأة، ثم شهقت بخفة…

"أنظر…"

أشارت نحو الأفق، عيناها تتسعان بدهشة هادئة.

بين الظلال الكثيفة، في فجوة بين الأشجار، كانت تظهر أضواء المدينة البعيدة — نقاط صغيرة تلمع في السواد، كأنها تنبض فوق الأرض.

"تبدو كنجوم…"

همست.

نظر تايهيونغ بدوره… لم يتكلم فورًا.

ثم، بصوت منخفض تحدث كأنه يعترف بسر دفنه طويلًا:

"عندما كنت صغيرًا، كنت أظن أن تلك الأضواء هي نجوم سقطت من السماء."

ضحكت قليلاً، رغم الألم، نبرة صوتها تحمل شيئًا من الدفء:

"حقًا؟"

هزّ رأسه ببطء، كمن يبتسم بلا ابتسامة:

"كان حلمي… أن أقترب منها. ألمسها. كنت أظن أنني إن وصلت إليها… سأشعر بشيء يشبه السعادة."

نظرت إليه، ولأول مرة لم يكن يبدو رجل شرير من مافيا، ولا غامضًا، ولا خطرًا…

يبدو صبيًا، فقط، ظلّ ينتظر ضوءًا بعيدًا

"وهل اقتربت منها؟"

سألته أجاب بعد لحظة صمت طويلة:

"اقتربت… فوجدتها مجرد نوافذ. باردة، ومغلقة."

سكت، ثم أضاف بصوت خافت:

"لم يكن هناك أحد ينتظرني خلفها."

أغمضت جومانا عينيها للحظة.  الليل يزداد برودة، لكن شيئًا ما داخلهما بدأ يذوب.

"أنا أيضًا… ظننت أن النجوم تنقذنا. لكنها لم تفعل."

قالت ذلك وهي تمسك بركبتيها، تنظر للسماء بعيون تملؤها الندوب.

نظر إليها، أراد أن يقول شيئًا  لكنه لم يعرف ماذا.

ثم وقف بهدوء، ونفض التراب عن سرواله:

"نحتاج للعودة قبل أن يلتهمنا البرد. هل تستطيعين الوقوف؟"

هزّت رأسها، تحاول النهوض ببطء. ما إن مالت حتى ألمّ بها الوجع مجددًا، وكادت أن تسقط.

أمسك بها بسرعة، ثبتها بكفه الكبير حول خصرها، شدّها نحوه.

"لا بأس. اتكئي عليّ."

لم تعارض.

خطواتها ثقيلة، بطيئة، لكنه لم يتذمّر. كلّما تعثرت،  يسندها دون كلمة. وفي بعض اللحظات، شعرت بيده تضغط قليلاً… كأنها تقول: أنا هنا.

حين اقتربوا من أطراف الغابة، وقبل أن يظهر القصر بوضوح، تمتمت بصوت شبه نائم:

"ربما… ليست النجوم ما ننظر إليه، بل نحن فقط نبحث عن الضوء في الأماكن الخاطئة."

ابتسم — أخيرًا.

" معك حق أحيانًا… الضوء لا يأتي من السماء."

ثم تابع السير، يده لم تترك يدها.

الظلام  يزداد ثِقلاً، وخطواتهما أصبحت أبطأ كلما اقتربا من حدود الغابة.

ثم…

"سيدي!"

صوتٌ خافت لكنه يقظ، جاء من الجهة المقابلة بين الأشجار.

أحد رجال تايهيونغ، يحمل كشافًا صغيرًا، بدا عليه التعب والقلق، لكنه عندما لمحهما ركض باتجاههما.

توقّف أمامهما، نظر إلى جومانا بنظرة واضحة للقلق، ثم مدّ يده ليساعدها:

"آنسة، هل تحتاجين إلى—"

لكن…

نظرة واحدة من تايهيونغ كانت كافية.

نظرة حادة، مختصرة، لا تحتمل التأويل.

تجمّد الرجل فورًا، وأعاد يده دون أن يجيب.

"عد إلى القصر وأحضر السيارة."

قالها تايهيونغ بصوت ثابت.

"خمس دقائق. لا أكثر."

"نعم، سيدي!"

قالها الرجل واختفى بين الأشجار مسرعًا.

ظلّت جومانا واقفة بصعوبة، تتكئ على كتفه بينما هو يُوازن خطواتها بخبرة صامتة.

لم يتكلما.

الليل  يتحدث عنهما بما يكفي.

وبعد دقائق، ضوء السيارة ظهر في المسافة، يقترب، يتمايل بين الأرض غير المستوية.

توقّفت أمامهما.

السائق نزل مسرعًا وفتح الباب، وتبعه

مساعد تايهيونغ بدا وجهه متوتّرًا، وارتبك للحظة حين رأى زعيمه بتلك الهيئة، ملابس متّسخة، شعر مبعثر، وجومانا متعلّقة بذراعه.

تايهيونغ لم يمنحه فرصة للسؤال.

"الزم الصمت."

قالها بنبرة باردة، ثم ساعد جومانا على الجلوس في المقعد الخلفي.

ركب إلى جوارها، أشار للسائق:

"إلى القصر."

عند وصولهم، الأنوار أمام بوابة القصر لا تزال خافتة، والهواء أشبه بأنفاس الليل الأخيرة قبل الفجر.

وصلت السيارة إلى بوابة القصر.

الساعة تشير إلى 3:47 فجرًا.

ترجّل تايهيونغ أولًا.

دار حول السيارة، فتح الباب الخلفي، نظر إليها دون أن يقول كلمة.

مدّ يده.

لم ترفض.

مُنهكة، شبه مائلة عليه، فسندها بذراعه وكأنها شيء اعتاد على حمايته رغمًا عنه.

سارا ببطء عبر الرواق الطويل.

لم يلتفت لأحد، ولم يعلّق على أعين الخدم الذين لمحوا هيئتهما من بعيد وانحنوا بصمت.

وصلا إلى الطابق العلوي، الممرّ  هادئًا، فقط صوت خطواته الثقيلة.

فتح باب الغرفة السوداء  تلك التي تقابل غرفته مباشرة.

بدلًا من أن يتركها ويمضي… دخل معها.

جلست بصمت على طرف السرير، تتنفس بصعوبة، فيما ظل هو واقفًا للحظة يراقبها، ثم اتجه نحو الخزانة الجانبية الصغيرة وسحب صندوقًا طبّيًا أسود.

جلس على ركبتيه أمامها.

"مدّي قدمك."

نظرت إليه بتردد.

"هل ستفعلها مجددًا؟ تأمرني وكأنني جندي في صفّك؟"

قال بهدوء وهو يفتح الضماد:

"لا، هذه المرة أنا فقط… أحاول منع الإصابة من التفاقم."

صمتت.

ثم… حرّكت قدمها ببطء، وضعتها أمامه.

قدمها منتفخة قليلاً، وكاحلها يميل للاحمرار.

بدأ بتنظيفها بقطن مبلل، أنفاسه ثابتة

قال بصوت خفيض:

"لستُ غاضبًا لأنك رحلتِ… بل لأنك كنتِ ستهربين قبل أن تفهمي شيئًا واحدًا."

نظرت إليه، لكنه لم يوضّح ما هو هذا "الشيء".

أنهى تنظيف الجرح، لفّ قدمها بشاش نظيف، يده  حازمة لكنها حذرة.

"هكذا أفضل."

قالها وهو يعيد ترتيب أدواته.

ثم وقف، أخرج هاتفه، ضغط على الشاشة، قال بثبات:

"تعالا للغرفة. الآن."

دقائق، وكان باب الغرفة يُطرق.

فتحت جومانا عينيها، نهضت بتردد.

لكن تايهيونغ سبقها.

فتح الباب.

دخلت فتاتان  نفس من رأتهما ليلة الأمس.

عيونهما اتجهت فورًا إلى جومانا، لكن شيئًا في وجهيهما بدا مختلفًا هذه المرة… أقل جمودًا.

تراجعت خطوة إلى الخلف، همست وهي تقبض على حافة السرير:

"لا أريد… لا أريدهن."

تايهيونغ التفت إليهما وقال بالألمانية، صوته هادئ لكنه آمر:

> „Behandelt sie sanft. Seid vorsichtig mit ihrem Knöchel. Wascht ihr Haar, aber langsam.“

(كونا لطيفتين معها. كوني حذرتين مع كاحلها. اغسلا شعرها… لكن برفق.)

ثم أضاف وهو يشير إلى المغسلة:

> „Sie hat genug durchgemacht. Gebt ihr das Gefühl, sicher zu sein.“

(لقد مرت بالكثير… اجعلوها تشعر بالأمان.)

أومأتا برأسهما بتقدير، إحداهن همست بخجل:

> „Jawohl, Herr Kim.“

(حاضر، السيد كيم.)

ثم التفت إلى جومانا مجددًا، صوته خافت

"أنا سأكون في الخارج. فقط ناديني… إن شعرتِ بشيء."

ثم خرج بهدوء، وأغلق الباب خلفه.

أما هي…

فظلت لوهلة تحدّق بالباب المغلق، عاجزة عن الفهم.

ما الذي تغيّر؟

أهو الليل الذي أرهقهما؟

أم شيء آخر… أخطر، وألطف، يحدث في صمت؟

الغرفة بدت كبيرة فجأة… وباردة رغم دفئها.

إحدى الخادمتين تقدمت منها بخفة:

"آنسة جومانا"

" أنساعدك في النهوض؟"

استغربت جومانا بما أنهما يتكلمان باللغة كوريا فلماذا تحدث معهم بتلك اللغة لم تجب، لكنها لم ترفض أيضًا.

فحملت إحداهن منشفة، بينما الأخرى فتحت باب الحمّام المملوء بالبخار المعطر بزهر الكرز والمسك الأبيض.

ساعدتاها على خلع ملابسها بهدوء، دون أن تجرداها، بل بنعومة أنثى لأنثى، بلا كلمة زائدة.

إحداهن غسلت شعرها بعناية، تدلكه بأطراف أصابعها بخفة، بينما الأخرى كانت تسكب الماء ببطء على كتفيها المنهكين.

جومانا لم تتكلم. فقط عيناها كانت مفتوحتين، تنظر إلى نقطة مجهولة في سقف الحمّام.

"أصبحتِ بخير؟"

سألت إحداهن وهي تلف حولها منشفة قطنية ناعمة.

أومأت ببطء.

في عينيها دموع لم تسقط… لا لأنها قوية، بل لأنها متعبة جدًا من كل شيء.

قامت الأخرى بتجفيف شعرها بمنشفة دافئة، ثم ألبستاها رداءً أبيض ناعمًا.

لفّت الأخرى قدمها المصابة بشاش جديد.

وحين انتهين، نظرت إليها الخادمة التي كانت تمشط شعرها، وقالت بهدوء:

"السيد تايهيونغ ينتظر بالخارج. لكنه أمرنا ان لا نخرج حتى تطلبين ذلك."

لم تجب جومانا.

فقط رمشت… ببطء.

ثم همست، بصوت مبحوح

"قولوا له… أن يدخل."

غادرت الخادمتان بهدوء، تتركان خلفهما بخارًا خفيفًا في هواء الغرفة الدافئ ورائحة شامبوٍ ناعم.

جلست على حافة الأريكة، برداء أبيض قطني، شعرها ما يزال مبللًا، يلتصق برقبتها ويقطر خجلًا.

الصمت ثقيلاً، لا تعبّر عنه سوى أنفاسها المتقطعة.

حين فُتح الباب مجددًا، دخل تايهيونغ بهدوء، لا يريد إخافتها بصوته أو حضوره.

وقف أمامها للحظة، عيناه تفترسان كل ارتجافة فيها دون أن يُظهر شيئًا.

هي ترددت… ثم همست، بصوت خافت، فيه ارتباك وذل محرج

"أشعر… بالجوع…"

ثم بسرعة، أضافت بارتباك وهي تشيح بنظرها:

"أقصد… أعلم أنه وقت متأخر، ويمكنني الانتظار…"

لم تكمل الجملة.

طرق الباب من جديد.

رفع تايهيونغ حاجبه دون أن يلتفت، ثم قال:

"ادخلي."

دخلت خادمة ثالثة، تدفع عربة طعام أنيقة مغطاة بقماش أبيض مطرز بخيوط فضية.

فوق العربة…  الأطباق تزهر بألوانٍ شهية:

حساء كريمي دافئ، طبق من الدجاج المحمّر بالتوابل الكورية، أرز متبّل على الطريقة التقليدية، فواكه مقطعة بدقة، وكأس عصير ليمون مثلّج.

اتسعت عيناها بدهشة صغيرة، وكأنها رأت معجزة.

الخادمة انحنت، همست باحترام:

"طلبتَ إعدادها قبل ساعة، سيدي."

أومأ لها تايهيونغ دون أن ينظر حتى، فقالت:

"أتمنى أن يكون على ذوق الآنسة."

ثم انسحبت بهدوء.

نظرت للطعام… ثم إليه.

"أعددته… من قبل أن أخبرك أنني جائعة؟"

جلس على طرف الكنبة المجاورة لسرير السؤال لم يفاجئه إطلاقًا.

"لم يكن صعبًا توقّعه. الجوع بعد الخوف… طبيعي."

شهقت بصمت، ناظرة إلى يديها في حضنها، وقالت بصوت خافت:

"لا شيء يبدو طبيعيًا هنا."

وقف سحب صحن الحساء ووضعه أمامها، ثم ناولها الملعقة، يده لم تلمس يدها لكن تقترب بما يكفي ليختل توازنها الداخلي.

"لكن على الأقل… الطعام حقيقي."

لحظة صمت.

ثم أخذت الملعقة ببطء.

أغمضت عينيها، تذوقت أول رشفة… ومن دون أن تدري، دمعة صغيرة هربت من زاوية عينها.

فقط راقبها هي قوية يعرف ذالك لكانها سريعة البكاء مشاعرها رقيقة

همست، دون أن تلتقي نظراته:

"لا أعرف إن كنت آكل… لأنني جائعة فعلاً، أم لأنني… خائفة من كل شيء آخر"

اقترب قليلًا،  صوته ظل منخفضًا، غير متطفل:

"كلي لأنك موجودة. هذا يكفي الآن."

نظرت إليه للحظة

التقت نظراتهما

وسط صمتٍ أثقل من الكلام.

عيناها المرهقتان تحملان تعب سنواتٍ من الانتظار…

وعيناه الباردتان، كأن لا شيء في العالم يقدر على إزعاج سكونه.

نظرة واحدة،

كشفت اتساع الهوّة بين قلبين…

أحدهما يحترق في صمت، والآخر تعلّم كيف يُطفئ اللهيب دون أن يشعر.

ثم عادت تنظر إلى طبقها تهربت من نضراته التي كانت اصدق شيء في هذا القصر هي قرأت ماخلف كل هذا البرود

أزاحت الصحن الفارغ جانبًا فوق عربة الطعام ذات العجلات.

رائحة الحساء لا تزال دافئة في الغرفة

رفعت عينيها نحو تايهيونغ…  لا يزال جالسًا على حافة الكنبة، مائلًا إلى الأمام، مرفقاه يستندان إلى ركبتيه، يراقبها بصمتٍ ثقيل.

ترددت قليلًا، ثم حاولت النهوض من فوق السرير لكن جسدها خانها، فمالت بتثاقل واضح.

نهض تايهيونغ بسرعة، اقترب، مدّ يده نحوها، دعمها من مرفقها حتى تماسكت.

"تعالي، يجب أن تستريحي."

لم تقل شيئًا.

تركته يقودها، بصمته المعتاد.

ساعدها حتى جلست على السرير ببطء، ثم عدّل الوسادة خلف ظهرها، وسحب البطانية لتغطي ساقيها المرتجفتين.

تراجعت قليلًا بين الوسائد، أغمضت عينيها للحظة، لكن صوتها خرج خافتًا، هشًّا، كأنها تقاتل خوفها أكثر من كلماته:

"تايهيونغ… هل يمكن أن تبقى الليلة؟"

توقّف لحظة، يحدق بها دون أن ينبس بكلمة.

نظرت إليه…

عيناها توسّعتا خوفًا من رفضٍ قاسٍ، لكنّه لم ينطق.

كل ما فعله أنه استدار بهدوء، توجّه إلى خزانة الغرفة، فتح أحد الأدراج وسحب منها غطاءً رماديًّا سميكًا.

ثم، دون ضجيج…اغلق الأنوار و اتجه نحو الأريكة

جلس عليها، استلقى بنصف جسده، وضع الوسادة خلف رقبته وسحب الغطاء على جسده ببطء.

لم ينظر إليها.

لم يقل: "سأبقى."

لكنه بقي.

هي…

نظرت إليه طويلاً من فوق الوسادة، عيناها بالكاد تبينان من خلف الظل، وهمست لنفسها:

"شكرًا…"

ثم أغمضت عينيها، لأول مرة دون خوف قاتل.

لكن لحظاتٍ قليلة مرّت، قبل أن تفتح عينيها فجأة، بصوتٍ خافت سألته:

"تايهيونغ… هل أنت نائم؟"

صوته جاء ساكنًا:

"نعم."

ارتفعت حاجباها بدهشة وهمست:

"إذا كنت نائمًا… فكيف أجبتني؟"

تنهد، ثم قال دون أن يفتح عينيه:

"نامي يا جومانا."

تمتمت بتردد، وكأن شيئًا في صدرها لا يريد أن يسكت:

"أريد أن أسألك شيئًا…"

لم يرد. فقط همهم بصوتٍ مبحوح:

"هاتي ما عندك."

تردّدت، ثم قالت بصوتٍ شبه خافت، وكأنها تخشى أن يكون سؤالها ساذجًا:

"هل… هل هناك حقًا حيوانات شرسة هنا؟"

لم يتمالك نفسه، شبح ابتسامة ساخرة مرّ على طرف شفتيه…

أدرك أخيرًا سبب طلبها الغريب بأن يبقى معها.

الفكرة أعجبته.

أجاب بصوته العميق الهادئ:

"نعم… الغابة مليئة بالحيوانات."

ثم أضاف بلا رحمة:

"أفاعي… عناكب سامة… حتى الذئاب والكلاب المتوحشة."

توسّعت عيناها، سحبت الغطاء نحو عنقها كأن البرد هاجمته فجأة:

"يا هذا… هل أنت حيوان مثلهم حتى تعيش في قصر وسط هذا المكان؟!"

صمته الطويل جعل قلبها ينبض بقوة…

ثم التفت نحوها ببطء، عيناه تلتمعان في العتمة:

"لقد أسأتِ لي، يا فتاة."

اقترب صوته كهمسة شيطانية:

"اصمتي… قبل أن أُخيط فمك اللعين."

تجمّدت في مكانها، حدقت فيه بصمتٍ مرعوب…رغم انه غير واضح وسط العتمة

استدار مجددًا، ساحبًا الغطاء فوق عينيه وكأن شيئًا لم يحدث.

هي بقيت في مكانها، لا تدري إن كانت ستنام…

أم ستبدأ ليلة أخرى من الأسئلة المرعبة.

__________________♡___________________

الفصل 4 ✓

مختارات

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon