📖 الفصل الثالث – ظلال في الغابة
لم يكن الصباح قد تجاوز منتصفه عندما انقلب الجو الهادئ في منزل عمّتي كيارا إلى ساحة جدال صاخبة.
كنا ما زلنا نجلس حول الطاولة بعد حديثنا عن يوهان، حين قال چان بنبرة حاسمة:
– “قررت أنا ولوكيه أن نلتحق بالأمن الداخلي.”
توقفت يدي عن تقليب الشاي.
– “الأمن الداخلي؟… تحت إدارة من؟”
– “نيك، صديق يوهان المقرب.” قال لوكيه وكأنه يفتخر بالأمر.
شعرت ببرودة تتسرب إلى أطرافي. الأمن الداخلي يعني السلاح، الدم، والموت في شوارع بيكشون.
– “لا.” قلت بهدوء، لكنه كان هدوءًا مشحونًا.
– “لا؟ ولماذا لا؟” سأل چان بحدة.
– “لأنني… لا أريد أن أخسركما.”
لكن الكلمات لم تصل كما أردت.
كيارا حدقت بي بنظرة استغراب، ولوكيه رفع حاجبه باستهجان:
– “تخافين أن نخسركِ… أم تخافين أن نصبح أفضل منك؟”
– “ماذا؟!” شهقت وأنا أشعر بحرقة في صدري.
– “ربما لا يعجبك أن نعمل مع أشخاص لهم سلطة.” أضاف چان ببرود.
تملكني الغضب، ليس لأنهم شككوا في نيّتي، بل لأنهم لم يفهموا أن خوفي عليهم ليس ضعفًا، بل جرحًا قديمًا ما زال ينزف منذ فقدت والديّ.
قفزت من مكاني، ودفعت الكرسي للخلف بقوة، فصدر صوت ارتطام خشبي حاد.
– “افهموا ما شئتم… لكن لا تنتظروا مني أن أصفق لكم وأنتم تقتربون من فم الذئب!”
لم أنتظر ردهم. فتحت الباب وخرجت، والدموع تحرق وجنتيّ.
ركضت إلى الإسطبل، امتطيت حصاني الأسود، وضربت الأرض بقدميه لينطلق بسرعة عبر الطريق المؤدي إلى الغابة.
أوراق الشجر كانت تتطاير من حولي، والريح تصفع وجهي. لم أكن أرى أمامي سوى البحيرة، ملاذي الوحيد، المكان الذي أختبئ فيه من العالم.
لكن ما لم أكن أعلمه… أن شخصًا آخر كان يعبر الغابة في نفس اللحظة.
يوهان بيكشون، الزعيم نفسه، كان قد أنهى اجتماعًا مع رجاله، وقرر قضاء ما تبقى من النهار في هوايته المفضلة: الصيد. بندقيته على كتفه، خطواته ثابتة، وعيناه تمشّطان الطريق كصياد ذئاب.
حتى لمحني… حصاني يركض بجنون، وأنا أنحني للأمام، أضغط عليه ليمضي أسرع.
انعكس شيء في عينيه، لم يكن فضولًا فقط، بل رغبة في الإمساك بالسيطرة على هذا المشهد.
بسرعة، أوقف حصانه الخاص، قفز أمامي بطريقة جعلت حصاني يرفع قدميه الأماميتين عاليًا، ويصدر صهيلًا حادًا. أمسكني من ذراع اللجام بمهارة، وأوقف الحصان.
– “اهدئي… ستسقطين.” قال بصوت منخفض، لكنه يحمل قوة خفية.
تراجعت قليلًا، أنظر إلى ملامحه المظللة بظل الأشجار. كان وجهه مألوفًا بطريقة مخيفة.
– “من… أنت؟” سألت، وأنا أعلم أنني أكذب على نفسي.
ابتسم بخفة:
– “اسمي هيونغ مين. مجرد صياد في الغابة.”
– “صياد؟… في بيكشون؟” قلت وأنا أرفع حاجبي.
– “وهل تظنين أن بيكشون خالية من الهوايات؟” رد ببرود. ثم أضاف: “ما اسمك؟”
لم أجب. لم أكن غبية… كنت أعرف من هو. ربما لم أره من قبل وجهًا لوجه، لكن قصصه، صوته البارد في أوامر الإعدام، كلها محفورة في ذاكرتي.
– “لا تريدين أن تقولي؟” ابتسم مجددًا، وكأن الأمر لعبة.
شدَدت لجام حصاني، ثم قلت:
– “ليس كل من نلتقيه يستحق أن يعرف أسماءنا.”
استدرت، وانطلقت بالحصان مبتعدة، لكنني كنت أشعر بثقل نظرته خلفي حتى اختفى القصر الأخضر للأشجار بيننا.
عدت إلى المنزل، ولم أنبس بكلمة. لكن في داخلي، شيء تغيّر…
كنت أعلم أن هذا اللقاء لن يكون الأخير.
حين عدت إلى المنزل، لم أنطق بكلمة. نزعت معطفي، ووضعت الحصان في الإسطبل، ثم دخلت بخطوات هادئة إلى الداخل.
توجهت مباشرة إلى المطبخ، بدأت ألتقط المكنسة وأمسح الأرض، وأزيل الغبار من النوافذ، وكأنني أفرغ غضبي في نظافة البيت.
كيارا كانت تراقبني من بعيد، ملامحها متحجرة، بينما لوكيه و چان يتحاشيان النظر نحوي. لم أحاول الكلام معهم، ولم أنتظر منهم شيئًا، لكن جزءًا في داخلي كان يتمنى أن يعترفوا بخطئهم، أن يدركوا أنهم جرّحوا قلبي بكلماتهم.
مرت دقائق ثقيلة… ثم ساعات قصيرة، حتى لاحظت أن نظراتهم تغيرت. الصمت الذي بينهم لم يكن برودًا، بل شعورًا بالذنب.
لم أعلّق، ولم أترك لهم فرصة لفتح الحديث. صعدت إلى غرفتي، وأغلقت الباب بالمفتاح. جلست أمام مكتبي الخشبي، وفتحت كتاب التشريح. بعد يومين فقط لدي امتحان مصيري، ورغم كل ما حدث اليوم، لم أسمح لنفسي أن أترك دراستي تنهار.
من خلف الباب، سمعت همساتهم… بدا أنهم يخططون لشيء. ربما طريقة ليعتذروا أو يصالحوني، لكنني لم أهتم. على الأقل، ليس الآن.
⸻
أما في الجهة الأخرى من الجزيرة، كان يوهان قد عاد إلى مقر حكمه. المقر، أو “البيت الأسود” كما يسميه السكان، كان يعلو على ربوة صخرية تطل على البحر، تحيطه الأسوار العالية والحراسة المسلحة على مدار الساعة.
دخل إلى قاعة الاجتماعات حيث كان رجاله بانتظاره. جلس على رأس الطاولة، وألقى نظرة باردة على الجميع قبل أن يتحدث:
– “قللوا كمية الوجبات التي توزع على سكان الجزيرة. نصف الحصص السابقة فقط.”
تبادل بعض الحراس النظرات القلقة، لكن أحدًا لم يجرؤ على الاعتراض.
– “من يعترض، سيعرف ما يعنيه الجوع قبل الآخرين.” أضاف بحدة.
ثم التفت إلى نيك، صديقه المقرّب وقائد الأمن الداخلي:
– “أرسل رجلًا إلى جزيرة تتوبويا. أريده أن يراقب تحركات إيرلن… وأي نشاطات مشبوهة هناك.”
أومأ نيك بإيجاز، مدركًا أن هذه الأوامر ليست مجرد مراقبة، بل خطوة أولى نحو تحريك صراع قديم بين الزعيمين.
يوهان، في داخله، لم يكن قد نسي الفتاة التي رآها اليوم عند البحيرة، لكن اسمها لم يكن مهمًا بالنسبة له… على الأقل، ليس بعد……
Comments