عرش ألرماد
في أقصى أطراف مملكة كيلدار، حيث الهواء ثقيلاً برائحة الرماد والحطب المحترق، جلس طفل وحيد على أطلال منزله المدمر. كان «أوريون» صغير السن، بالكاد تجاوز العاشرة، لكن عينيه اللامعتين حملتا من الألم ما يفوق عمره بكثير. لم يكن يبكي، ولم يصدر صوتًا سوى صمت يشبه الصخرة التي لا تهتز. خلفه، كانت ألسنة اللهب لا تزال تلتهم بقايا الذكريات، بيت العائلة الذي كان يومًا ملاذًا آمنًا.
عائلته… أُحرقت حتى آخر نفس، في ليلة نُسجت فيها خيوط الخيانة بعناية. اتهموا والده زورًا بأنه تآمر على الإمبراطور، ولم يكن هناك سوى نار، وأكوام الرماد، وأصوات الصراخ التي لم تسمعها إلا هيهات.
في تلك اللحظة، كان أوريون قد فقد كل شيء. لم يبقَ له سوى النار التي أحرقت ماضيه، والظلام الذي سيشكل مستقبله.
⸻
مرت السنوات، ولم تكن إلا مثل رياح عاتية تمر عبر الأراضي الثلاث. أوريون تحول إلى رجل من الظلال، قاتل بلا رحمة، يحمل سيفًا يقطر دماء خصومه. لم يكن يُعرف باسمه الحقيقي، بل بألقاب تحمل همس الرعب في ساحات المعارك: «الرماد الباقي»، «من لم يمت»، و«صوت النيران».
لكن وراء هذا الغموض، كان قلبه يزداد صلابة، وذهنه محاطًا بأسرار ممالك لم تُكشف بعد.
⸻
في ليلة باردة، بينما كان القمر يختبئ خلف غيوم كثيفة، وصل أوريون إلى قرية مهجورة عند سفح جبل «ميراس». الريح تحمل معها قطرات رماد ناعم يتساقط كأنها دعوة من السماء لرحلة جديدة.
دخل النزل الوحيد، حيث جلس رجل عجوز يكنس الأرض بعصا خشبية متآكلة، وكأنه يحاول مسح الزمن ذاته.
قال أوريون بنبرة هادئة وباردة:
— غرفة… أو على الأقل مكان للدفء.
نظر العجوز إليه بعيون قاتمة تحمل قصص عميقة:
— هنا، لا يبقى شيء دافئًا سوى الذكريات المحترقة. هل تبحث عن مأوى أم عن موت هادئ؟
أومأ أوريون بحذر، جلس أمام النار الخافتة، وأخرج خريطة مهترئة من عباءته. وضعها على الطاولة، وأشار إلى ثلاث نقاط متباعدة: إينال، ترافين، وسيرا — ممالك ثلاث متناحرة — وفي وسطها دائرة سوداء كُتب عليها: «عرش الرماد».
همس أوريون:
— هذه هي الحقيقة التي تحترق في داخلي.
رد العجوز:
— الحقيقة نار لا ترحم، لا تبقي إلا من احترق.
⸻
في تلك اللحظة، فتح الباب بصمت، ودخلت فتاة ترتدي عباءة زرقاء مغطاة بالغبار، عيناها تحملان حزن أجيال.
نظرت إلى أوريون وسألته بصوت مليء بالألم:
— هل أنت هو؟ الرجل الذي يقال عنه أنه لم يمت؟
رد عليها بنظرة حادة:
— من أنتِ؟
قالت:
— اسمي ماريسا… ابنة الخائن الذي دمر عائلتك.
انسحب أوريون سيفه من غمده ببطء، موجهًا شفرة الحديد نحوها. لكن عيني ماريسا لم تفقدا برودهما. وقفت بثبات، وكأنها تتحدى القدر نفسه.
قالت بثقة:
— لم آتِ لأقاتلك. جئت لأننا نحلم بنفس العرش… ونريد أن نكتب النهاية معًا.
ابتسم أوريون لأول مرة منذ سنوات، ابتسامة مثل رماد تذروه الرياح قبل أن يشتعل:
— إذًا، لنبدأ.
⸻
مرت أيام في النزل الصغير، حيث تبادلوا القصص، والأسرار، والخطط. تعرف أوريون على ماريسا أكثر. كانت ذكية، شجاعة، ولم تخشَ مواجهة ماضيها.
روت له كيف أن والدها، النبيل الذي خان عائلته، خان مملكته كذلك، متاجرًا بأرواح الأبرياء في سبيل السلطة. كانت هي الوحيدة التي رفضت ذلك، فانضمت إلى المعارضة السرية التي تريد الإطاحة بالحكام الظالمين.
في إحدى الليالي، بينما كانت الرياح تعصف بالخارج، جلس الاثنان أمام النار المتوهجة، وناقشا خريطة الممالك.
قالت ماريسا:
— إنال هي القلب النابض للثروة، لكن تحكمها عائلة حاكمة لا تعرف الرحمة.
— ترافين، معاقل المحاربين، حيث الشجاعة تقاس بالسيف.
— وسيرا، مركز السحر والأسرار، حيث كل شيء يبدأ وينتهي.
نظر أوريون إلى الخريطة، وقال:
— وكلها تلتقي عند نقطة واحدة… عرش الرماد.
— نقطة تجمع لكل من يريد أن يكتب التاريخ من جديد.
⸻
في تلك اللحظة، طرق الباب بقوة. دخل مجموعة من الرجال الملثمين، عيونهم تحترق بالغضب والكره.
قال قائدهم بصوت جامد:
— لقد وصلتنا أخبار عن فارس مجهول يسير في هذه المنطقة، يهدد أمن الممالك.
ابتسم أوريون وهو يسحب سيفه:
— أمن الممالك؟ لقد دمرتم أمنه منذ زمن.
اندلعت معركة ضارية داخل النزل، أصوات الحديد تصطدم، وصيحات الغضب تعلو. ماريسا وقفت بجانب أوريون، تحمل خنجرًا بيدها، وحركتها رشاقة تعكس تدريباتها الشاقة.
كانت معركة قصيرة لكنها حاسمة. انتهت بسقوط الرجال الملثمين، ووقوف أوريون وماريسا على الأطلال، أكثر عزيمة مما كانوا عليه.
⸻
بعد المعركة، جلس أوريون يتنفس بصعوبة، ونظر إلى ماريسا:
— لم تبدي خوفًا.
ابتسمت:
— الخوف لم يعد خيارًا منذ أن خسرت كل شيء.
قال أوريون:
— الرحلة ستكون طويلة وخطيرة، والعدو أقوى مما تتصورين.
قالت بثبات:
— وأنا مستعدة.
⸻
في تلك الليلة، وقف أوريون على شرفة النزل، يحدق في السماء المغطاة بالغيوم، حيث يختبئ القمر خلف ستار رمادي.
همس لنفسه:
— عرش الرماد… لن تكون نهاية قصتي… بل بداية أسطورتي.
⸻
وهكذا، بدأت الرحلة نحو المجهول. رحلة محفوفة بالمخاطر، الأسرار، والخيانة.
رحلة إلى قلب الظلام، حيث لا مكان إلا لمن احترق وأعاد البناء من بين الرماد.
Comments