استيقظت على رائحة عتيقة…
ليست ترابا، وليست خشبا…
رائحة تشبه الذكريات القديمة، تلك التي يخزنها الدماغ في صناديق مغلقة دون اذن.
عيني بالكاد تفتحت.
كان السقف فوقي عاليا، من الخشب المائل، تتدلى منه مروحة قديمة لا تتحرك.
الستائر شبه شفافة… والغرفة غارقة في ضوء رمادي، كأن الشمس لا تجرؤ ان تدخل بالكامل.
نهضت ببطء.
لم اكن اعرف كم من الوقت مضى، ولا كيف وصلت الى هنا.
لكن السرير اسفلي خشن، واللحاف اثقل مما يجب.
بجانب الوسادة، ورقة صغيرة بخط يد مألوف:
> "لا تفتحي اي باب مغلق قبل الغروب.
> - جدتك"
شهقت.
لم يكن مجرد كابوس اذا.
البلدة… البئر… الصوت…
والمرأة التي تشبه جدتي…
رفعت الغطاء.
قدماي… كانتا مغطاتين بوحل يابس.
لكن على كاحلي الايسر، بقعة زرقاء غامقة تشبه اصابع يد.
كأن احدا قبض علي.
"لا تنظري للاسفل…"
الكلمات ما زالت تتردد في رأسي.
خرجت من الغرفة بتردد...
البيت... اوسع مما ظننته.
كل شيء فيه يبدو قديما، لكنه محفوظ جيدا... اكثر من اللازم.
الجدران مليئة بالصور… لكنها مائلة ، او وجوه من فيها مخدوشة بالحبر.
وهناك ممر طويل… فيه اربع غرف على الجانبين.
الغرفة الاولى مفتوحة…
الثانية مغلقة بقفل صدئ…
الثالثة ايضا مغلقة.
اما الرابعة… بابها موارب قليلا، كأن احدهم نسي ان يغلقه تماما.
وما ان مررت قربه…
حتى سمعت صوتا…
ضحكة ناعمة.
لكن ما اثار رعبي اكثر… انها كانت ضحكتي.
تراجعت، قلبي يطرق ضلوعي كأنه سجين يريد الفرار.
"هذا البيت… يهمس."
سمعت الصوت من خلفي.
استدرت.
امرأة مسنة، تنظر الي بابتسامة مائلة.
عينان واسعتان… وجلدة وجهها مشدودة كأنه قناع.
تحمل سلة فيها اعشاب مجففة.
"انت حفيدة نجوى، اليس كذلك؟"
"جارتنا القديمة… كانت دائما تعرف ان ربا ستعود."
تجمد لساني.
من اين تعرف اسمي؟
ولم كانت تتكلم عن جدتي وكأنها ما تزال حية؟
"لكن…" تمتمت، "جدتي… ماتت."
المرأة انحنت قليلا وضحكت.
ضحكة فيها كل ما اكرهه في العالم: الغموض، والاستهزاء، واليقين.
"هل قالت لك ذلك؟"
ثم استدارت وغادرت.
لم اسمع خطواتها… لكنها اختفت.
شعرت بتعب عميق في اعماقي... تعب لا يشبه الانهاك، بل يشبه الاستسلام.
زحفت الى السرير كأنني اهرب من شيء خفي، حاولت ان انام، ان اطفئ رأسي، لكن النوم لم يكن كافيا ليهرب مني.
بل هاجمني.
...
فتحت عيني، كنت اقف وسط ممر طويل، جدرانه رمادية تتنفس ببطء، نعم، الجدران كانت تصعد وتهبط كأنها ترقد على صدر مريض يحتضر.
المكان خانق. كل خطوة كنت اخطوها، كانت الارض تصدر صوت صرير... ولكني لم اكن اتحرك.
لا ضوء... لا نهاية للممر.
فقط باب واحد في نهايته... يفتح ويغلق بهدوء، كأن احدهم ينتظرني خلفه.
تقدمت.
كلما اقتربت، شعرت ان شيئا يزحف خلفي. لا اسمعه، لكن جلدي كان يعرف.
اردت ان التفت، لكن رأسي كان جامدا، كأن عنقي علق بخيط مشدود.
عندما وصلت الى الباب، لم امد يدي.
الباب فتح وحده...
وصوت خافت خرج منه، همسا مجروحا:
"انت كنت السبب..."
...الغرفة كانت... غرفة نومي.
لكنها ليست غرفتي.
السرير نفسه، الستائر نفسها، لكن كل شيء فيها كان يتحلل.
حتى اللوحة المعلقة على الحائط... بدأت تذوب.
الوجه انزلق من اللوحة.. وعيناها بقيتا تحدقان بي.
ثم بدأ شيء يتساقط من سقف الغرفة. ليس ماء... بل طين. طين اسود، ثقيل.
نظرت للاعلى، ولم اجد السقف.
بل... حفرة.
حفرة دائرية، كأن غرفتي اصبحت تحت الارض، وكأنني في اسفل بئر.
من بين الظلال، شيء كان يتحرك في الاعلى.
كان يزحف.
واصواته... تشبه نحيبا خافتا، كأن شخصا يسحب من الداخل.
ثم، شعرت انني اصبحت اقرب... اقرب اليه.
كأن الارض تبتلعني، تدفعني لاصعد نحو تلك الفتحة.
لكنني لم اعد اراها.
كل ما رأيته… نافذة.
نافذتي القديمة، خلفها الاشجار.
وهي تقف هناك.
في الحديقة.
تنظر الي.
وعادت الي همسات:
"فتحت الباب... والباب لا يغلق."
اردت ان اصرخ، لكن صوتي لم يخرج
كان احد ما يمسك بي يمنعني من الكلام او الصراخ
اردت ان اهرب... لكن الغرفة بدأت تضيق.
الجدران بدأت تقترب.
والعينان على الجدار تنزفان.
وكل شيء يهمس باسمي…
لكن ليس بصوتي.
...
استيقظت.. شعرت بخوف رهيب... كنت ارتجف.
الهواء لا يدخل صدري.. يدي كانت ترتعش.
نهضت مسرعة الى المطبخ.
شربت ماء مثلجة... ويدي لا تزال تشعر بحرارة تلك الغرفة.
ثم.... لفت نظري شيء ما كان على الطاولة…
كانت هناك صورة صغيرة ممزقة.
الوجه فيها متآكل.. وعيناها قد اقتلعتا.
اقتربت من الصورة، كأنها تناديني.
يدي امتدت بتردد… لم المسها، فقط نظرت.
كانت صورة قديمة، مغبرة، عليها بقع حمراء صغيرة…
وليس فقط وجهها هو الممزق — بل كأن هناك اصابع انتزعت من الصورة، بعنف.
كانت ملامحها تشبهني....
انا لا اذكر هذه الصورة.
انا متأكدة… لم التقط صورة بهذا اللباس.
ولست وحدي فيها....
وراء القطع، كان هناك جسد صغير، ظهره لعدسة التصوير … ويقف بجانبي.
طفل؟ لا، ليس طفلا.
قامته قصيرة، لكن يديه نحيلتين كأن عمره كبير.
ثم لاحظت شيئا…
في ظهر الصورة، بخط يد لا اعرفه، كتب:
"هي لم تذهب قط.
بل بقيت… فيك."
تجمد دمي.
من "هي"؟
ومن كتب هذا؟
حاولت تجاهل الرعشة التي غزت ظهري،
قد رأيت هاتفا منذ ان اتيت ولكني لم اكترث له...
سحبته اريد تصوير ما اراه، لاتأكد انه حقيقي.
لكن الشاشة كانت سوداء.
الهاتف يعمل… لكنه لا يظهر شيئا.
وكأن ما اراه… لا يجب ان يوثق.
---
مهلاً...
اين اختفت ؟!
نظرت حولي.
كانت على الطاولة منذ لحظات.
الآن، فارغة.
وكأنها لم تكن ابدا.
ببطء… سمعت "صريرا" خلفي.
التفت.
كان باب غرفتي قد فتح… وحده.
وخرج منه صوت خافت.
صوت فتاة… تضحك
التفت ببطء.
الباب نصف مفتوح… والسواد خلفه كأنه فم مفتوح يبتلع النور.
الضحكة ما زالت تتردد، خافتة، مكسورة… وكأنها صادرة من فم لا يعرف كيف يضحك.
خطوت خطوة للخلف، صدري يعلو ويهبط، انفاسي متسارعة.
ثم… تلاشت الضحكة.
حاولت ان اقنع نفسي بانها مجرد تخيلات، ان الصورة مجرد هلوسة بسبب التعب…
لكن شيء ما داخلي كان يصرخ: هذا ليس حلما.
عدت ببطء الى غرفتي، قلبي يطرق كأنه سيحطم اضلاعي.
وقفت على الباب، اراقب الفراش… كل شيء يبدو في مكانه.
لكن…
هناك ظل.
ظل على الارض، بجانب سريري.
طويل… لا يتبع جسدي.
ولا يتحرك.
تجمدت في مكاني.
حاولت ان اصرخ… لكن صوتي اختنق.
مددت يدي ببطء الى الجدار، ابحث عن زر الاضاءة.
ولما اضأتها… لم يتغير شيء.
الظل ما زال موجودا.
بل اصبح اوضح.
ثم سمعته.
صوت خطوات… على البساط ببطء… تتجه نحوي، لكن لا احد امامي.
انا اسمع الخطى.
انا اراها تقترب — اثار اقدام تظهر على البساط ، واحدة تلو الاخرى… حتى وقفت امامي.
لكن لا احد هناك.
رفعت بصري فجأة… المراة على الجدار تعكس شيئا!
كنت انا
لكن لم اكن وحدي.
خلفي… كانت تقف فتاة.
وجهها مشوه، ملامحها غائمة… لكنها تبتسم لي.
ليس ابتسامة ود، بل كأنها تعرفني.
كأنها تنتظرني منذ زمن.
استدرت بسرعة.
لا احد.
نظرت مجددا للمراة.
لكن كانت الغرفة فارغة.
سقطت على الارض، يداي ترتجفان.
كنت الهث، كمن نجا من موت حتمي.
ما هذا؟
من هذه؟
وما الذي يحدث لي منذ ان اتيت الى هذه القرية ؟
او حتى ما الذي افعله هنا ؟
كنت في صراع بيني وبين عقلي لا يهدأ.
ثم…
رن جرس الباب
ثلاث دقات.
بطيئة.
متباعدة.
ومن يأتي في هذا الوقت من الليل؟
تسمرت مكاني.
الجرس لم يرن مجددا.
فقط… ثلاث دقات.
بطيئة… كأن من طرق، لا يريد الدخول، بل التذكير بوجوده.
انتظرت.
ثوان مرت… ولا صوت.
خطوت ببطء في الممر الخافت، كل خطوة كأنها حلم ثقيل.
عقلي يريد ان يركض، ان يهرب… لكن قدماي تقوداني كأنني مربوطة بخيط خفي.
وصلت الى الباب.
لا نوافذ هنا.
ولا "عين سحرية" ارى منها من يقف بالخارج.
وضعت يدي على المقبض…
لكن قبل ان افتحه… انفتح وحده.
لا، لم يفتح. بل… انزلق، ببطء، للداخل.
كأن احدهم بالخارج… يدعوني.
الباب فتح نفسه على ظلمة كثيفة.
الهواء بارد، والممر الخارجي ساكن.
لا احد.
ولا شيء.
خطوت خطوة للخارج، ابحث بعيني… ثم رأيت ذلك الشيء.
ظرف بني اللون يبدو مهترئ
وضع بعناية على عتبة الباب.
كتب عليه اسمي… بخط انثوي، ناعم، لكنه قديم، كأن من كتب مات منذ زمن.
ربا.
انحنيت لالتقطه.
لكن حين لمست الظرف… رأيت شيئا اسفل العتبة.
عظام صغيرة.
كأن احدهم دفنها، وترك طرفا منها ظاهرا عمدا.
عظمة يد… لطفل؟ لا، لشيء لا اريد معرفته.
عدت بسرعة الى الداخل، اغلقت الباب، ظهري ملتصق به، وقلبي يطرق كأن داخلي شخصا يريد الخروج.
جلست على الارض، والظرف بين يدي.
اخرحت مافي الالظرف بهدوء... كان فيها ورقة واحدة.
صورة قديمة.
تختلف عن الصورة الاولى.
هذه المرة… كنت طفلة.
اقف في حديقة، بجانبي امرأة.
لكن وجه المرأة ممزق متآكل .
بشكل متعمد.
والحديقة؟
الحديقة نفسها… التي رأيتها في ذلك الحلم الغريب. ونفس الشجرة الميتة.
ثم لاحظت شيئا في زاوية الصورة… سطر صغير مكتوب بقلم رصاص:
"قبل ان تبدأ اللعنة… كانت الضحية الاولى تحب الزهور."
شهقت.
هذا الخط… اعرفه.
انه خط امي.
لكن عقلي رفض.
امي قد ماتت وهي التي اوصتني بالذهاب للقرية قبل وفاتها دون ذكر اسباب
شعور غريب بدأ يزحف من اطراف اصابعي حتى صدري.
قد تجمد… لا علاقة بالجو، بل برد وتجمد الحقيقة التي لا تريد ان تقال.
فجأة… اظلمت الرؤية.
ليس لان النور انطفأ… بل لان ذاكرتي انطفأت.
كأن شيئا انتشلني من مكاني… والقى بي في مشهد اخر.
...
انا طفلة.
اقف بين الاعشاب العالية.
الحشائش تغمر قدمي العاريتين.
الشمس باهتة، كأنها لا تجرؤ على النظر الينا.
اسمع صوت همهمة.
امرأة… تغني.
لحنها مشوه. يشبه تهويدة… لكنها حزينة، كأنها تغنى لطفل ميت.
ادير وجهي.
اراها.
امرأة تقف عند الشجرة الميتة.
ظهرها لي. شعرها طويل، مبلل، ملتصق برقبتها كأنه خرج للتو من قبر.
يدها ترتجف وهي تمسك وردة ذابلة.
ثم… تستدير.
ووجهها…
لا وجه....
حفرة سوداء تأكل نصف وجهها والنصف الاخر كان مشوهاً
وانا؟ لا اصرخ.
بل… ابتسم.
ابتسامة طفلة لا تعرف الخوف… او نسيت انها كانت خائفة.
...
ثم عدت
كأن احدهم سحبني من عنقي والقى بي من الذكرى الى الواقع.
الورقة ما زالت في يدي.
والصورة؟ احترقت من الزاوية… دون موقد
كأنها تموت ببطء.
كأنها لا تريد ان ترى مجددا.
وما زال في ذهني صوت المرأة يهمس:
"قبل ان تبدأ اللعنة… كانت الضحية الاولى تحب الزهور."
Comments