قاتل عائد بالزمن
...كل شيء ينهار....
...الجدران تتشقق كأنها تحتضر، والهواء خانق بطعم رماد وكذب....
...الدخان يلتف حوله، يتسلل إلى صدره كخنجر حاد....
...وسط الجحيم، كان هان يو يزحف....
...جسده الممزق يجرّه الألم، الدم ينزف من خاصرته، نصف وجهه مغطى بالسخام، وعيناه تدمعان… لا خوفًا، بل لأن التنفس صار عقوبة....
...لم يصرخ. لم يتوسل....
...تشبّث بالحياة كما يتشبث الغريق بخشبة وسط العاصفة....
...وصل إلى العتبة… الباب مغلق....
...شهق بيأس....
...> "لا... ليس هنا... ليس هكذا..."...
..."كح! كح!"...
...> "لن أموت وسط الحريق... قبل أن أعرف الحقيقة..."...
...الدخان يزداد، والرؤية تتلاشى....
...وفجأة—...
...صوت بعيد، يخترق الصرير:...
...> "هان يو..."...
...توقف لثانية، قلبه يرتجف، وعيناه تتسعان رغم لسع الدخان....
...> "هان يو...!"...
...الصوت كان يقترب، يكرر اسمه بإلحاح، لكنه لم يرَ أحدًا....
...قبل أن يفهم ما يحدث، انهارت ساقاه وسقط على الأرضية المحترقة....
...البرودة اجتاحت جسده، والظلام غمر كل شيء....
...ولم يكن يعلم... أن نهايته تلك الليلة، لم تكن إلا بداية حكاية أكبر من كل ما عرفه....
...⋯✦⋯...
...صوت خطوات... وضوء أبيض قاسٍ يخترق عينيه....
...فتح "هان يو" عينيه ببطء، فقط ليجد وجوهًا غريبة تحيط به، مغطاة بأقنعة طبية. كانوا يرتدون معاطف بيضاء طويلة، وأصوات أجهزتهم تملأ المكان بصفير متقطع....
...لم يفهم ما الذي يحدث. قبل دقائق — أو هكذا ظن — كان أمام شاشة، أصابعه تجري فوق لوحة المفاتيح، يخترق نظامًا معقّدًا... والآن؟...
...> (أين أنا؟)...
...أحدهم يرفع رأسه عن ملف إلكتروني ويقول ببرود:...
...– "انتهينا، يمكنكم إخراجه."...
...بلا أي تفسير، بدأوا بجمع أدواتهم، وأغلقوا حقيبة معدنية صغيرة، ثم خرجوا واحدًا تلو الآخر، تاركينه وحده في الغرفة المعقمة....
...جلس ببطء، قدماه تلمسان أرضية باردة. نظر حوله... الجدران ناصعة البياض، السقف منخفض، ورائحة مطهر قوية تخترق أنفه....
...> (هذا... مستشفى؟)...
...وقف، يتحرك بحذر، وكأن أي خطوة قد توقظ كابوسًا أكبر....
...حاول أن يتذكر اللحظة الأخيرة قبل أن يجد نفسه هنا، لكن ذاكرته كانت مثل صورة محترقة... مشوشة....
...مدّ يده ليتّكئ على جانب السرير... وفجأة، أحسّ بشيء يشدّ ذراعه....
...أنبوبٌ بلاستيكي رفيع... موصولٌ بجلده....
...دون تفكير، وبحركة غريزية، نزعه بقوة....
...> "آه!"...
...شهق من الألم، فقد اخترقته لسعة حادة... وكأن شيئًا تمزّق من داخله....
...نظر إلى موضع الألم......
...وتجمّد....
...يده......
...كانت صغيرة....
...أصابع قصيرة، جلد ناعم... كأنها يد طفل....
...بدا وكأن الألم لم يكن من الإبرة، بل من الحقيقة المروّعة....
...> "كم مرةً… حقنوني؟"...
...ذراعه مغطّاة بآثار الإبر، كأن شخصًا ما استخدمه كأداة اختبار مرارًا....
...نهض بسرعة، قدماه العاريتان تلامسان الأرض الباردة....
...بدأ يتجول في الغرفة، يلمس الجدران الباردة، يبحث عن أي علامة تخبره أين هو أو كيف وصل....
...ثم لمح شيئًا في زاوية الغرفة....
...مرآة....
...اقترب بخطوات بطيئة، حتى صار على بعد ذراع منها....
...وعندما رأى انعكاسه... تجمّد....
...طفل لا يتجاوز السابعة....
...وجهٌ مستدير، شعر أسود فوضوي، وعينان زرقاوان متّسعتان بالدهشة....
...ببطء... مدّ يده المرتعشة، ولمس خدّه المنعكس في الزجاج....
...الجلد كان ناعمًا... حيًا... دافئًا....
...لا حلم....
...ولا وهم....
...> (ما هذا...؟ من هذا؟)...
...شعره ينتصب... وقلبه يخفق بقوة....
...وببطء، التفت نحو الطاولة القريبة من السرير، حيث كانت هناك بعض الأوراق القديمة وكتابٌ مهترئ، وضع أحدهم إشارة عند صفحة معينة....
...تردّد لحظة، ثم اقترب....
...فتح الصفحة، وعيناه تقعان على العنوان:...
...> "الوعي بعد الموت... هل يمكن أن تُولد من جديد في جسد آخر؟"...
...شهق، ثم التفت مجددًا إلى الزجاج، يحدّق في الطفل المنعكس أمامه....
...> (هل يُعقل… أنني متُّ في ذلك الحريق؟)...
...كانت الفكرة تبدو جنونًا محضًا، لكن أنفاسه اضطربت فجأة....
...وفجأة—...
...(صوت باب يُفتح)...
...التفت بسرعة....
...رجلٌ طويل القامة، يرتدي معطفًا أبيض، دخل الغرفة بهدوء....
...في يده كوب يتصاعد منه البخار، كان يحتسي منه رشفة خفيفة....
...قهوته، أو شايه، بدت وكأنها لا تنتمي إلى هذا المكان البارد....
...ابتسم بخفّة حين التقت أعينهما....
...> "استيقظت أخيرًا، هيون."...
...تجمّد الطفل، حدّق فيه بخوف وارتباك، ولم يلبث أن تمتم:...
...> "مَن... أنت؟"...
...ضحك الرجل بخفة، كمن يصحّح خطأ بسيطًا:...
...> "كيف تنسى والدك، يا صغيري؟"...
...شهق "هان يو"....
...> (والدي؟ ما الذي يتحدث عنه؟ أبي... مات، وكان في الثلاثين من عمره. أما هذا...)...
...كان يتفحّص وجهه....
...> (يبدو أكبر... في الأربعين أو أكثر.)...
...عقله لا يهدأ... وقلبه كذلك....
...هناك شيء مفقود....
...شيءٌ خاطئ....
...> (أنا... لست هذا الطفل.)...
...> (وهذا الرجل... ليس أبي.)...
...أخفض نظره إلى جسده الصغير مجددًا، ثم إلى الكتاب المفتوح على الطاولة....
...> (هل... حدث شيء؟)...
...> (هل... تجسّدت؟ مثلما في القصص؟)...
...سأله "هان يو"، بتردد:...
...> "كم... عمري؟"...
...هنا، لأول مرة، ظهر التوتر....
...ارتفع حاجب الرجل، ثم خفض بصره، وتوقّف لحظة كمن يبحث عن إجابة بين الضباب....
...> "أنت... هه، ربما... في العاشرة فقط."...
...قالها كما لو أنه يخمّن عمر غريبٍ صادفه في الطريق....
..."هان يو" لم يُجب مباشرة....
...بل... ارتعشت أصابعه قليلاً، وفتح راحة يده ببطء، كأن شعورًا غريبًا تسلل تحت جلده....
...عندئذٍ اتّسعت عيناه فجأة....
...> (...مستحيل.)...
...رفع يده أمام وجهه، يحدّق فيها بذهول، كأنها تحمل سرًّا لا يُصدّق....
...> "قدرتي..."...
...همس بها بصوت مخنوق، ثم وضع يده على صدره، يُنصت لما يشعر به....
...> "ما زلتُ... أستطيع قراءتهم؟"...
...> (ذلك الشعور... المختبئ خلف ابتسامته...)...
...نظر إلى الرجل مجددًا، وعيناه متّسعتان بعدم تصديق....
...انقبض صدره فجأة من شدّة الانفعال، لكنه تمالك نفسه....
...لم يعقّب. فقط تمتم، كمن يحاول إقناع نفسه:...
...> "في العاشرة... فهمت."...
...وبعد لحظة من الصمت، سأله بتردد:...
...> "و... ما اسمي؟"...
...توقّف الرجل لحظة، كأن السؤال باغته فعلًا....
...تطلّع إليه برهة، ثم قال بتلقائية:...
...> "هيون..."...
...سكت بعدها برهة، كمن نسي شيئًا بسيطًا... أو كمن يُفكّر بشيء لم يكن معدًّا له....
...تابع قائلًا بسرعة:...
...> "...بارك. هيون بارك."...
...قالها بوضوح، لكن هذه المرة... لم ينظر إليه....
...> (تردّد عند ذكر الاسم الأخير...)...
...> (وكأنه... اخترعه الآن فقط.)...
...توسّعت عينا "هان يو"، وشهق بصمت....
...تحسّس صدره، وابتلع ريقه....
...> (ذلك الإحساس الغريب... شعور داخلي بأن ما يقوله ليس صحيحًا.)...
...> (هو... يكذب.)...
...ارتعشت أطرافه، ولم يعرف إن كان عليه أن يفرح لاحتفاظه بقدرته، أم يخاف مما تعنيه....
...> (هذا المكان... ليس آمنًا.)...
...كان الرجل ينظر إليه بعيون شاكّة:...
...> "لماذا تسألني كل هذه الأسئلة؟"...
...وما إن أنهى كلماته، حتى نهض من مكانه، أفرغ آخر رشفة من كوبه، واتجه نحو الباب....
...> "لا تهتم... ارتَح قليلًا، سأعود لاحقًا."...
...أغلق الباب خلفه، تاركًا "هان يو" في فراغٍ يبتلع كل صدى....
...جلس الطفل على الأرض، قلبه يدق بسرعة كأنما يحاول الهروب من صدره....
...أغمض عينيه... لكن الأفكار لم تهدأ، وكأنها أصوات غريبة تتناوب على عقله....
...> (هناك شيء خاطئ... شيء لا يمكن تفسيره في هذا الرجل.)...
...(لماذا كذب؟ هل نحن حقًا... أبٌ وابنه؟ أم أن كل شيء مجرد خدعة؟)...
...فتح عينيه أخيرًا، يحدّق في سقف الغرفة....
...رعبٌ خافت ينساب في جسده، ممزوج بدهشة مريبة، وفضولٍ يلتهمه من الداخل....
...> (هذا المكان... ليس طبيعيًا. هل أنا في مستشفى فعلًا؟)...
...[يتبع...]...
Comments