REBELLLON
في قلب مدينة "أوريان"، حيث تتلألأ القصور في ضوء الغروب، وتمتلئ الشوارع بالعطور، كانت "كايرا" تقف على حافة أحد الأبراج العالية، تنظر بصمت نحو الأفق. بدا كل شيء ساكنًا وهادئًا، لكن قلبها لم يعرف السكون منذ زمن. خلف عينيها الرماديتين، كانت الحرب تدق أبواب عقلها دون هوادة.
"السور الفاصل" بدا لها أقرب من أي وقت مضى، ذلك الجدار الرمادي العالي الذي يفصل بين عالمين لا يجتمعان… عالم الأغنياء الذي تعيش فيه، وعالم الفقراء الذي لم تعرفه إلا من خلال التقارير والمهام السرية.
كايرا لم تكن فتاة عادية. نشأت في عائلة من القتلة المأجورين، وتعلمت كيف تمسك بالخنجر قبل أن تعرف كيف تبتسم. طاعتها للأوامر كانت مطلقة، حتى جاء اليوم الذي استلمت فيه مهمة مختلفة… اغتيال طفل.
ترددت عيناها على الشاشة الصغيرة المتصلة بمعصمها، حيث ظهرت صورة طفل صغير، لا يتجاوز عمره العاشرة، بشعر فوضوي وابتسامة خجولة. لم يكن هذا هدفًا. كان تحذيرًا… أو بالأحرى، رسالة دموية تبعثها الدولة لترهب العالم السفلي.
"طفل..." همست بصوت خافت، كأنها تتذوق المرارة في الحروف. "هل بلغ بهم الانحطاط هذا الحد؟"
في تلك اللحظة، اقترب منها شاب بملابس ناصعة البياض، يحمل وردة زرقاء صغيرة.
"كايرا، لا تذهبي... لست مضطرة لهذا بعد الآن. تعالي معي، يمكننا أن نعيش بعيدًا عن كل هذا."
كان "ليان"، ابن أحد كبار المستشارين في الحكومة. وسيم، هادئ، لكنه دائمًا بدا لها هشًّا، كأنه لم يعرف يومًا كيف يقف في وجه الظلم. حاول مرارًا أن يقنعها بترك طريقها، لكنها لم تكن تبحث عن حياة مريحة، بل عن معنى… عن عدالة لا تشتريها القصور.
نظرت إليه ببرود وقالت: "الحياة التي تقترحها عليّ… تشبه الموت، لكنها ببطء."
ثم استدارت وقفزت من أعلى البرج، لتختفي في سماء المدينة، تاركة خلفها أثرًا من الريح وليانًا يتأمل فراغًا لا يملأه شيء.
---
في الطرف الآخر من العالم… خلف السور.
كل شيء بدا كأن الحياة قررت أن تنسحب منه. بيوت من الحديد الصدئ، أطفال يبحثون في القمامة عن لقمة، وأمهات يطهون على نار من الكرتون والذكريات. هناك كانت "فالينتيرا" الأخرى، النسخة التي لا يتحدث عنها أحد.
هبطت كايرا بهدوء بين الأزقة، تتفحص المكان بعيني قاتلة… لكنها كانت تشعر بشيء غريب، شيء لم تفهمه في البداية: شفقة.
تقدمت ببطء وسط الحطام والخراب، حتى سمعت صراخًا في أحد الأزقة. ركضت نحو الصوت، فوجدت ثلاثة أطفال مطاردين من طرف رجال مسلحين يرتدون دروعًا سوداء. وبينهم، شاب يحمل بندقية قديمة، يقف بثبات أمامهم، يوجه سلاحه إلى السماء… ويطلق.
رصاصة واحدة… وأسقطت طائرة مراقبة كانت تحوم في الأعلى.
تبادلت كايرا النظر معه لثوانٍ. عيونه كانت مختلفة… لا خوف فيها، لا استسلام… فقط تصميم نقي.
قبل أن تنطق بكلمة، اختفى بين الدخان.
---
بعد دقائق، وبينما كانت تتقدم نحو أحد الأنفاق، ظهر لها وجه فجائيًا من الظلال.
"هااااه! خوفتك؟"
شاب رفيع، شعره مبعثر، يبتسم بعينين تلمعان بالجنون.
"اسمي فينو! خبير المقالب! ملك الفوضى! والعضو الرسمي في المقاومة!" قالها بفخر وكأنه يعلن عن اختراع تاريخي.
خلفه خرجت فتاة قصيرة، عضلاتها بارزة، ووجهها يغلي غضبًا.
"فينووو! أقسم إنك لو خربت علينا المهمة هذه، سأطعمك السلاح!" صرخت وهي تلوّح بمفتاح ربط ضخم.
"هذه تيلا، دائمًا تصرخ… بس تحبني، صدقيني." همس فينو وهو يغمز لكايرا.
كايرا، التي لم تعرف الضحك منذ سنوات، لم تستطع منع نفسها من رسم ابتسامة خفيفة.
في قلب هذا الجحيم… لأول مرة شعرت أن هناك شيئًا حيًّا يتحرك بداخلها.
---
وفي مكان بعيد، رجل عجوز وقف فوق سطح أحد المباني المحطّمة. معطفه طويل، ووجهه مخفي جزئيًا بظل قبّعته. راقب المشهد بصمت.
"الفتاة وصلت…" همس لنفسه. "والرياح تغيّرت."
كان ذلك الرجل، هو ڤارين كولدرا… الذئب الرمادي، العقل الذي اختفى لعشر سنوات، وها هو يعود… لأن وقت السكون انتهى.
Comments