حدّقت رهف في شاشة هاتفها مطولًا، وكأنها تنتظر أن ينبض من جديد، أن يعود صوته هادئًا كما اعتادت أن يقول لها "آسف لقد كنت متعبًا فقط".
لكن لا شيء.
سكون ثقيل حلّ في قلبها، وعيناها الواسعتان راحتا تترجمان ألف سؤال لم يُطرح.
"لماذا؟" همست بها لنفسها وكأنها تخشى أن يكون الصوت أعلى من التساؤل، لم تفهم ما الذي أثار غضبه بتلك الطريقة، ولا لمَ شعرت للحظة أنه لم يعد ذاك الصديق الذي يعرفها أكثر مما تعرف نفسها. يوسف… الذي لطالما أنصت لتفاصيلها، وتقبّل ضعفها وغضبها وخوفها… كيف قاطعها اليوم بتلك الحدة من أجل سبب صغير؟
تنهّدت وسندت جبينها على يدها محاولة أن تطرد ذلك الشعور بالخذلان ثم همست بخفوت:
"ربما هو مرهق… العمل في المشفى والمرضى والقصص التي يسمعها كل يوم… لا بد أن ذلك يضغطه بشدة. ليس سهلًا أن تكون طبيبًا نفسيًا وتضطر أن تُشفى وأنت تداوي غيرك…"
أرادت أن تُقنع قلبها بهذه الكلمات، أن تُبرر غضبه القاسي بذلك الضغط الذي يعيشه، لكنها رغم ذلك… لم تستطع إخماد شعور مرّ تسلل إلى قلبها.
عند الساعة الرابعة تمامًا، رنّ هاتف رهف. نظرت إلى الشاشة فخفق قلبها للحظة… كان "يوسف" يتصل.
ترددت لبرهة، ثم أجابت بصوت هادئ:
"مرحبًا يوسف."
جاء صوته كما اعتادت دومًا، خشنًا قليلًا يحمل في نبرته دفئًا وحنية لا يشبه أحدًا، وكأن صوته خُلق خصيصًا لها.
قال بلطف:
"رهف…"
ساد صمت قصير ثم تابع:
"أردت فقط أن أعتذر."
لم تجبه فاكتفى بأن يتنهد ويتابع:
"أعلم أنني صرخت في وجهك، وتحدثت بطريقة لا تليق بك… لقد كنت متوترًا جدًا والضغوط كثيرة… لكن ذلك لا يبرر أبدًا أن أرفع صوتي عليكِ."
سكتت… لكنه شعر بأنفاسها المرتبكة، وعرف أنها كانت تبكي، سأل بصوت خافت:
"هل كنتِ تبكين؟" فهمست وكأنها تخجل من صوتها المرتجف:
"ربما… قليلاً فقط."
قال بأسى:
"لم يكن السبب أنتِ… بل أنا، أنا من ضيّع اتزانه. أقسم أن حزنك يوجعني أكثر مما تتخيلين."
بقيت صامتة، لكن عينيها امتلأتا بالدموع.
قال بصوت متهدج:
"أنا طبيب… أعالج النفوس المجروحة، لا يليق بي أن أكون سببًا في جرحك."
قالت بهدوء:
"أحيانًا لا نحتاج إلى كلمات كثيرة… يكفيني هذا الاعتذار." سألها بلطف:
"هل تسامحينني؟"
أجابت برقة:
"سامحتك فقط لا تكررها… قلبي ليس قويًا بما يكفي." ضحك بخفة وقال:
"أين تذهبين الآن؟" قالت بابتسامة خجولة:
"سأخرج بعد نصف ساعة تقريبًا."
قال:
"بقي لي جلستان لمريضين، وما إن أنتهي سآتي لأوصلك."
قالت:
"حسنا اصلا افتُتح مركز تجاري جديد قريب من المركز… سأذهب إلى هناك ريثما تنتهي."
قال مازحًا:
"هل أستعد لمفاجأة مالية كبيرة؟"
ضحكت:
"لا، سأكتفي بتغيير الجو."
قال بصوت دافئ:
"أرسلي لي موقعك عندما تصِلين، وسآتي فورًا."
أجابته بخجل:
"حسنًا… يوسف؟"
"نعم؟"
"أفتقد هدوء صوتك."
ابتسم وقال:
"وهدوءي لا يظهر إلا معك."
أغلقت الهاتف وهي تشعر بأن شيئًا ما بداخلها عاد لينبض بلطف من جديد.
مع اقتراب نهاية الدوام، كانت رهف تضع أوراقها في حقيبتها بخفة، وعلى شفتيها ابتسامة صغيرة تعكس حماستها للخروج. نهضت من مكانها وألقت نظرة على الساعة، ثم سارت بخطى هادئة نحو الباب.
لمحت ربى تقف بجانب مكتبها ترتب ملفات، فتقدمت نحوها قائلة: "سأمرّ على المركز التجاري الجديد قبل أن يصل يوسف ليوصلني، هل تأتين معي؟"
رفعت ربى نظرها نحوها وابتسمت باعتذار وقالت:
"آه وددت ذلك والله، لكن المدير طلب مني إنهاء بعض الأمور المستعجلة، لا أستطيع الخروج الآن."
هزّت رهف رأسها بتفهم وقالت بابتسامة خفيفة:
"لا بأس، نذهب في مرة أخرى."
ربتت ربى على ذراعها برقة وهي تبتسم:
"استمتعي… وقولي لي كيف كان ربما أزوره في نهاية الأسبوع." لوّحت لها رهف مودعة وغادرت بخطوات خفيفة، تشعر بنسمة حريّة منعشة تتسلل إلى قلبها بعد ساعات العمل الطويلة. في داخلها لم تكن تعلم أن بعض الأوجه تبتسم برفق، لا حبًا… بل تمثيلًا ماهرًا.
حين خرجت رهف من عملها، كانت نسمات المساء تداعب وجنتيها بهدوء خفيف، يشبه اللمسات الأولى لحلمٍ لا تدري إن كان سيأخذها إلى النور أو إلى هاوية لا مرئية. خطت خطوات متأنية بين المحلات، وكل متجر كأن له نَفَسَهُ الخاص، يعرض ألوانه وأضواءه كأنها عروض مسرحية في مدينة الحواس.
لكن هناك، في أقصى الزاوية، لفت انتباهها متجر غريب الأطوار. واجهته كانت من الزجاج الملون بألوان دافئة تتراقص عليها أشعة الضوء الخافتة، تعكس ظلالًا متشابكة وكأنها تحكي قصصًا غير مرئية. الباب الخشبي القديم محفور عليه نقوش غامضة بأحرف منمقة، وكُتب فوقه بحبر ذهبي لامع:
"أسرار تُباع لمن يبحث"
30تم تحديث
Comments