الفصل الخامس: الكلمات التي تحكم
كانت كيري تجلس على سرير الغرفة البيضاء، محاطة بجدران تبدو باردة كالثلج، وكل شيء فيها يوحي بالوحدة والصمت الذي يزن على صدرها. الهواء ثقيل، ورائحة المستشفى تملأ أنفاسها، لكنها كانت تركز على الصوت البعيد لنفسها وهو يتردد في رأسها.
كانت عيناها السوداوان اللامعتان تحملان بحرًا من الحزن، وقلبها الصغير المثقل بأحزان لا يمكن لطفلة في مثل عمرها أن تحتملها. عمرها الآن 14 عامًا، لكنها تحمل بين ضلوعها قصة كفاح لم يعشها الكثيرون في عمرهم البالغ.
سقطت في غيبوبة قصيرة بعد الحقن، وحينما استيقظت، كان حلمها لا يزال يطاردها بذكريات والديها، اللذين لعبا معها كطفلة صغيرة لا تعرف إلا الحب والأمان.
في حلمها، رأت أمها تبتسم بلطف ويدها تمسح دموعها بهدوء. وقالت بصوت خافت لكنه واضح:
"ابنتي، أنا وأبي نحبك جدًا، لكن هذا هو قدرنا، وهذا ما قدّر لنا."
تقطعت الكلمات حين حاولت البكاء، لكنها لم تستطع إلا أن تسمع صوت أمها يقول:
"أنا أحبك، ولن أتركك، حتى لو ذهبنا."
ثم تحولت الصورة إلى والديها وهم يختفون ببطء، تاركينها وحيدة وسط ظلام عميق.
استيقظت كيري وهي ترتجف، والدموع تنساب من عينيها، لكنها في نفسها وعدت:
"أنا سأعيش من أجلكم، من أجل والديّ، ومن أجل عمّي مكس. سأجعل حياتي تستحق كل هذا الألم."
---
غرفة الطبيب النفسي
دخل الطبيب النفسي، رجل في أواخر الأربعينيات من عمره، يرتدي نظارات رقيقة، يحمل دفتر ملاحظاته، ويتحدث بصوت دافئ لكنه مليء بالقلق.
جلس أمام كيري وهو ينظر إليها بعينين مليئتين بالحنان والحيرة.
"كيري، هل يمكنك أن تخبريني ماذا يجري في رأسك الآن؟"
نظرت إليه بصمت، ثم قالت بصوت خافت:
"أشعر بالوحدة… وكأن العالم كله تركني، حتى أنا تركت نفسي."
ابتسم الطبيب بابتسامة تعزية، وقال:
"أنت لم تختاري هذا الطريق، لكن من الرائع أنك ما زلت تقاومين."
تنهد للحظة ثم قال:
"هل تفهمين لماذا نحن هنا؟"
أومأت كيري، ثم أضافت:
"لأني ضربت نفسي. أريد أن أتوقف، لكن الألم بداخلي أكبر."
أخذ الطبيب دفتره وبدأ يدون شيئًا، ثم رفع عينيه مجددًا نحوها.
"هل تعلمين، كيري، أن الكتابة يمكن أن تكون علاجًا؟ أن تحولي ألمك إلى كلمات، قصة تُروى، يمكن أن تخفف عنك عبء ما تحملينه؟"
ابتسمت كيري للمرة الأولى، وكأن هذه الكلمات كانت شعاع نور في ظلامها.
قال الطبيب:
"لكن هناك شيئًا آخر… أريدك أن تفكري جيدًا في معنى السيطرة. هل تحبين أن تتحكمي بكل شيء؟ أم أنك فقط تريدين الأمان؟"
ترددت كيري ثم أجابت:
"أريد أن أتحكم كي لا أؤذي أحدًا آخر كما تأذيت أنا. أريد أن أكون قوية."
ابتسم الطبيب وقال:
"هذا حلم جميل، لكن عليك أن تتذكري أن القوة الحقيقية ليست في السيطرة على الآخرين، بل في السيطرة على ذاتك."
---
صراع داخلي
في لحظة هدوء، جلست كيري وحدها تفكر، وكان صوت الطبيب يتردد في رأسها:
"القوة في السيطرة على ذاتك..."
أغمضت عينيها، واسترجعت كل ما فقدته: عائلتها، بيتها، أصدقائها، حتى طفولتها التي لم تعشها.
ولكن في داخله، كان هناك شرارة أمل صغيرة ترفض أن تنطفئ.
بدأت تكتب على ورقة صغيرة:
"أنا من يتحكم بك."
لم تكن تعلم حينها أن هذه الكلمات ستغير حياتها إلى الأبد، وأن كل ما ستكتبه لاحقًا سيصبح واقعًا، حتى وإن لم تكن مستعدة لذلك.
---
بداية جديدة
وبعد أيام من العلاج، عادت كيري إلى بيتها المهجور.
دخلته ببطء، وكانت الروائح القديمة تملأ المكان: رائحة الخشب القديم، الغبار المتراكم، وصدى خطواتها يتردد في الغرف الخالية.
بدأت ترتب البيت، تنظف الغبار، وتعيد الحياة إلى زواياه الباردة، وكأنها تعيد بناء نفسها مع كل قطعة ترتبها.
نامت في ليلتها الأولى في البيت، تحس بالذكريات والأمل يتشابكان في قلبها.
في الصباح، بدأت تدريباتها الجسدية والعقلية، مصممة على أن تكون قوية، ليس فقط لنفسها، بل لحماية من تحب.
لم تنسَ معاناتها، فقررت التبرع ببعض الأراضي التي ورثتها لصالح المجتمع، وخاصة الأيتام الذين يعيشون حياة شبيهة بها، بلا مأوى أو سند.
---
الاستمرار بالرغم من الوحدة
مع كل تحدٍ جديد، عادت كيري إلى دراستها، عوضت سنوات الفقد، وتفوقت بين زملائها، لتكون مثالًا يحتذى به في القوة والعزيمة.
لكن في قلبها، بقيت تسأل:
"كيف عشتُ وحيدة؟ لماذا لم أطلب المساعدة؟"
كانت تخشى أن يتبناها أحد، خشية أن يصيبه مكروه كما أصاب عائلتها، ففضلت أن تكون وحدها.
لكن الآن، كانت على أعتاب بداية جديدة، تكتب قصتها بنفسها، كلمات تتحكم بها، لكنها تدرك أن السيطرة الحقيقية تبدأ من الداخل.
---
يتبع
Comments
نيزوكو تشان
كملي
2025-07-18
0