𝟐

...لم يكن للفتاة اسم....

...وأما أمُّها، فكانت من سلالة نادرة، تحمل في روحها قُدرةً غريبة، تكاد تكون لعنة....

...كانت من قومٍ لا تدبّ الحياة فيهم إلا إن احتفظ أحدهم بذكراهم....

...فإذا ما نُسوا، أو لم يعد على الأرض من يعرفهم، خبت أرواحهم وذبلوا وماتوا كما تموت الأشجار حين تُجتث من الجذور....

...وحين يُنسى أحدهم، أو يرحل آخر من بقي يتذكّره، تبتلعهم الأرض كأنهم لم يكونوا، ويصبح الموت قدرًا لا مفر منه....

...لهذا، وقف قومها على حافة الاندثار....

...وفي ذات يوم، كان الإمبراطور يجتاح أولئك الذين استعبدوا السلالات النادرة، فأنقذ والدتها من قيدها، واصطحبها إلى القصر الإمبراطوري، ووعدها بالحماية....

...كانت امرأة لا تشتهي شيئًا، كل ما أرادته: القليل من الأمان، وشيئًا من السكينة....

...كانت تحب الهدوء وتفرح ببساطة الأشياء....

...فأكرمها الإمبراطور بأن وهبها قصرًا صغيرًا، في أقصى أطراف المدينة الإمبراطورية، حيث لا ضجيج ولا عيون تترصّد....

...استُدعيت أيادي البستانيين لتقليم الأشجار الكثيفة، وأُمر الخدم بتنظيف الحجرات، وجيء بأمهر البنّائين لترميم ما تآكل من الجدران....

...ورغم أن للإمبراطور زوجة رسمية، إلا أن قلبه رقّ لتلك المرأة التي أوشكت أن تُمحى من العالم، امرأة حملت ملامح الانقراض وأوجاع الفارين من سطوة البشر....

...لم يكن زواجه بالإمبراطورة زواج حب، بل زواج تحالف…...

...رابط بينهما كان الثقة، لا الشغف....

...وكانت الإمبراطورة ذات صدر رحب، فلم تمانع أن تُضم تلك الغريبة إلى حريم القصر، طالما أنها لا تطلب سلطة ولا تنافس على قلبٍ لم يكن لها منذ البدء....

...أمّ الفتاة، لم ترغب إلا بالحياة....

...أما قلبها، فقد سكنه حب الرجل الذي أنقذها من النسيان....

...وفي إحدى الليالي، أُنجز الواجب، والتقيا…...

...ومن لقاءٍ واحدٍ، حملت المرأة....

...الإمبراطور لم يوبّخها، لم يغضب، فقد كان له من الأبناء ما يكفي، وكان ولي العهد قد اختير بالفعل....

...وإن جاءت طفلة، فلن تُشعل نارًا في القصر....

...كان إمبراطورًا حكيمًا، يُطفئ الفتن قبل أن تولد....

...لكن… في اليوم الذي كانت الفتاة على وشك أن تولد فيه، سقط نجمٌ من السماء....

...وكان الإمبراطور ينتظر في بيت الولادة، فلما جاءه خبر النجم الساقط، اضطر أن يغادر، يُخمِد الفوضى، ويستردّ الشُعاع الذي انشطر....

...وخلال غيابه… لفظت والدة الطفلة أنفاسها الأخيرة....

...قالت، وعيناها تنطفئان:...

..."سامحيني، صغيرتي… طمعي هذا هو من تركك وحدك..."...

...بقايا حياتها، ما تبقّى من نورها، زرعته في ذاكرة الطفلة....

...ثم، كما لو لم توجد قط… اختفت من ذاكرة العالم....

...كان هذا… ثمن الحب....

...الحب الذي تمنتْه طويلًا، ثم قُتلت به....

...✧✧✧...

...يُقال إنّ من يحمل بقايا نجم ساقط، من نسل الشمس، يرث القوى، ويُصبح امتدادًا ليده على الأرض....

...ومنذ سبع أعوام، سقط نجم آخر في الإمبراطورية....

...ومن ذلك النجم، وُهب اثنان من الأمراء، وأميرة، القوى....

...حتى الإمبراطور نفسه، حين كان وليًا للعهد، رآى نجمًا يهوي....

...أن يسقط النجم على جيلين متتالين، جعل الناس يؤمنون بأن هذا العصر مُبارك، فأصبحت أصوات المديح لا تنقطع، وأصبح أربعة من أبناء الإمبراطور يحملون النور....

...تغنى الشعراء ببطولاتهم، وامتلأت المسارح بحكاياتهم، وكانت قصصهم الأعلى مبيعًا بين الناس....

...إلا واحدًا فقط…...

...ابنة لم يعرفها أحد....

...* * *...

..."اليوم… سأكل أي شيء، فقط حتى لا أموت."...

...قالت الفتاة، تتكور على نفسها، في عينيها جوعٌ وحشي، يشبه نظرة الذئاب....

...باتت ترى الأصفر في كل شيء، لا تدري أهو وهم أم حقيقة....

...تحمّلت أيامًا طويلة على الماء، وقضمت أعشابًا جافة…...

...لكن حدود الاحتمال بدأت تنهار....

..."سأموت إن استمر هذا."...

...في الحديقة شجرة فاكهة، لكن هذا العام… لم تزهر، لم تثمر....

...كان من المعتاد أن تنضج في هذا الوقت، لكن أوراقها جفّت ولم تبُح بزهرة....

...ولم يتبق للفتاة طعام، كل يوم، تسير على حافة الجوع....

...قالت:...

..."زيون، اليوم دوري. سأخرج لأبحث عن طعام."...

..."كيوو؟"...

...أمال السحلية الصغيرة رأسه، كأنه يسألها....

..."هناك، خارج الجدران، الكثير من الأشجار… لا بد أن أجد واحدة تحمل الثمار."...

..."كيوونغ؟"...

...لم يظهر عليه الرفض....

...ذيله سكن في مكانه، فابتسمت الفتاة....

..."أنا خائفة أن أخرج وحدي… تعال معي."...

...همست، وضمته إلى صدرها....

...ثم ركضت حافية، بخفة طفلٍ لم يطأ الأرض، اقتربت من بوابة القصر، وأطلت منها، كأنها تطلّ على عالمٍ لا تعرفه....

...لم تخرج من هذا المكان يومًا....

...كان عالمها محصورًا بجدران هذه القلعة الصغيرة....

...في الخارج… بشرٌ مخيفون....

...وكانت تخشاهم....

...لكن الشجرة لم تُزهر....

...والذي أخبرها أن الفاكهة تأتي في هذا الوقت… لم يعد....

...لن تراه حتى يحلّ الشتاء....

...لقد علمها النطق، المشي، الحروف…...

...وكان صوته، دائمًا، دافئًا، عميقًا، يقول لها:...

..."إن حدث لكِ مكروه، سأظهر… فلا تخافي حتى لو كنتِ وحدك."...

...تذكّرت صوته، تذكّرت دفء غيابه،...

...وأمسكت بقبضتها الصغيرة، وقالت:...

..."هيا… إلى العالم."...

...تنفّست الطفلة الصغيرَة نَفَسًا طويلًا، كأنها تحاول أن تحشو صدرها بشجاعة مستعارة، ثم ضمّت "زيون" إلى صدرها مرّة أخرى بقوّة. ...

...كمن يضمّ آخر من تبقّى له في هذا العالم، قبل أن تطلّ بعينيها من خلف الجدران، تراقب الخارج وكأنها تطلّ على غابة مجهولة....

...لحسن الحظ، كان المكان مهجورًا. لا يمرّ به الناس كثيرًا، ولذلك، لم يكن ثمّة خوف من أن تراها أعين الغرباء....

...لكنها، وهي التي لم تعرف عن هذا العالم إلا القليل، لم تكن تدري....

...بثوبٍ مهترئ جرّته خلفها، ركضت حافية القدمين، تتسلّل خارج القصر، وتخفي جسدها الضئيل خلف جذوع الأشجار، كفأر بريّ يبحث عن مأوى....

...كانت تُنقل نفسها بخفّة بين الأشجار، تتقافز، تتوارى، كما لو أن الأرض نفسها قد تتآمر على وجودها....

...لكن حين أكملت دورتها الصغيرة حول أشجار القصر......

...رفعت بصرها وقالت في خيبةٍ عميقة:...

..."لا... لا ثمار. لا شيء هنا..."...

...أنزلت رأسها وقد خيّم عليها شعور بالحزن القاسي،...

...وبينما كان الأمل يتبدّد من وجهها، أطلّ "زيون" من بين ذراعيها، وأخرج لسانه الطويل، ثم لعق ذقنها بلطف يشبه مواساة الكائنات الصامتة....

...قالت بتمتمة يشوبها الذهول:...

..."أشخاص العالم الخارجي... جشعون كما توقعت. يسرقون كل شيء. حتى الطيور... لن تجد ما تأكله."...

...رفعت رأسها عاليًا حتى اشتدّ عنقها من الانحناء،...

...وهمست وهي تنظر إلى الأشجار:...

..."لو ابتعدت أكثر، سأكون بعيدة جدًا عن القصر..."...

...بدأت قدماها الصغيرتان تخفقان في تردّد، ثم استدارت ببطء، كأنها تحاول الرجوع......

...لكن فجأة —...

..."آااه!"...

...صرخة صغيرة خرجت منها حين داست على شيء حادّ، تراجعت إلى الوراء، تتألّم، وعيناها تدمعان بلا إرادة....

..."ماذا... ما هذا؟"...

...نظرت إلى موضع الألم، لتجد قلادة غريبة الشكل، تلمع في ضوء الشمس كأنها ابتلعت نجومًا....

...كانت ثقيلة، مصنوعة بخشونة، لكن في جوفها كانت حبيبات صغيرة تشبه الشُهب، وحين اطلت الشمس عليها، ارتجف الضوء منها كوميض السماء....

..."كيو!"...

..."زيون!"...

...قفز المخلوق الصغير من حضنها، وأسرع نحو القلادة، أمسكها بين فكيه، وعاد يركض نحوها، ثم تسلّق جسدها بخفة....

...نظرت إليه بدهشة، ثم تناولت القلادة من فمه بحذر....

..."إنها جميلة..."...

...قالتها، وما إن وضعتها بين يديها، حتى انبعث منها ضوء مفاجئ، حادّ، وكأنها انفتحت على عالم آخر....

...فزعت، ورمتها بعيدًا بكلتا يديها، لكن الضوء كان أسرع…...

...اخترق جلدها، وانساب إلى داخلها كأنما كانت تنتظره منذ وُلدت....

...وفي ذات اللحظة، دوّى صوت من بعيد:...

..."أختي! وجدتها! يبدو أن هناك تفاعلًا في هذا المكان!"...

...تجمّدت الطفلة في مكانها، ثم قفزت واقفة وهي تتلفّت برعب....

..."حقًا؟! يا لحظّي!"...

..."لو أنك لم تضيعها منذ البداية، لما حدث هذا!"...

..."وكأنني أردت ذلك! ديريك، تعلّم كيف تخاطب السيدات أولًا!"...

...كان الصوتان لفتى وفتاة، في عمر اليفاعة، يرتديان ملابس فاخرة، ويقتربان بخطى متسرّعة، يتجادلان....

...كانت أصواتهما تتعاظم في أذن الفتاة كلما اقتربا،...

...فاشتدّ الارتباك في قلبها، وضمّت "زيون" بقوة، لكنها لم تستطع الحركة، فهذا أول مرّة ترى فيها بشرًا على هذا القرب......

...ولم تكن مستعدة....

..."هناك أحد ما هناك! انظر! إنها تهرب!"...

..."أليست سارقة؟!"...

..."جيرين! أوقفها!"...

..."أنا لست أحد جنودك، تذكّرِ ذلك دائمًا."...

...قالها الفتى الأشقر بهدوء ساخر، ثم ضغط على الأرض برجله، وانطلق....

...خطا فوق غصن، ثم قفز عاليًا في السماء....

...جسده الخفيف دار في الهواء بدورة كاملة، ثم هبط بخفة، أمام الفتاة مباشرة، يسدّ طريقها كما يسدّ القمر ممر الليل....

...ارتبكت الطفلة، توقّفت فجأة،...

...لكن الألم في قدمها ازداد —...

...فهي ما زالت تعاني من الوخز الناتج عن القلادة....

...فقدت التوازن... وسقطت....

...أغمضت عينيها بقوة، وشدّت جسدها، ترتجف وهي مستلقية على الأرض....

..."لقد تأخّرت..."...

...همست في داخلها....

...كأنها تعرف أن أحدًا لن يُنقذها هذه المرة....

الجديد

Comments

Kazoha

Kazoha

اح 💔🥺

2025-07-10

0

Kazoha

Kazoha

مين ؟

2025-07-10

0

الكل
مختارات
مختارات

2تم تحديث

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon