"ظلّ بيننا"
السماء ملبّدة بالغيوم، والمطر يتساقط بخفة فوق نوافذ المدينة القديمة. عقارب الساعة تشير إلى السادسة والنصف مساءً.
في زقاق ضيق خلف مكتبة "نيفين"، كانت ليان تطفئ الأضواء وتُغلق الأرفف الخشبية واحدًا تلو الآخر.
المكتبة كانت عالمها الخاص، ملاذًا صنعته بيديها من بين الفوضى التي تسمى الحياة.
تحب الصمت، ورائحة الكتب القديمة، وهدير المطر عندما يلتقي بالزجاج.
كل زاوية فيها كانت تحمل ذكرى، وكل كتاب يحكي لها شيئًا من ماضيها.
لكن في ذلك اليوم… لم يكن المطر وحده من ينتظرها في الخارج.
خرجت ليان من الباب الخلفي، تمشي على عجل نحو منزلها في الحي المجاور. خطواتها خفيفة، وقلبها مطمئن كما هو كل مساء… حتى توقفت فجأة.
على عتبة باب بيتها، وُضعت وردة.
ليست وردة عادية… كانت وردة سوداء، ناعمة الملمس، تنبعث منها رائحة خفيفة من الفانيلا والرماد.
وردة لا يمكن أن تنمو في حديقة عادية، ولا يمكن أن توضع هناك صدفة.
انحنت وأخذتها بحذر، وكأنها تمسك شيئًا حيًا. معها كانت هناك ورقة صغيرة مطوية بعناية، كتبت بخط يد مألوف: "تذكّري، الحب لا يُدفن."
ارتعشت أصابعها. هذا مستحيل… لا أحد يعرف هذه العبارة سوى شخص واحد: إيلياس.
الرجل الذي كان حُبّها الوحيد، والكارثة التي مزقت حياتها قبل ثلاث سنوات.
كم من مرة حلمت به؟ وكم من مرة استيقظت لتجد الوسادة مبتلة بالدموع؟
اختفى فجأة، بعد ليلة اشتعلت فيها النيران في المبنى الذي يسكنه. قيل إنه مات. قيل إنه كان يهرب من شيء أكبر منه.
لكنها لم تحصل يومًا على جثة، ولا تفسير.
عاشت بعدها ثلاثة فصول من العذاب، كل فصل أظلم من الذي سبقه.
دفنت قلبها معه، وأغلقت الباب على حبٍّ لم يُدفن… بل تجمّد في عمقها.
"هل من الممكن؟" همست، وعينيها تبحثان في الشارع عن أثرٍ… لا أحد.
الشارع خالٍ، المطر يزداد قوة، والضوء البرتقالي للمصابيح لا يكشف إلا الضباب.
دخلت البيت على عجل، أغلقت الأبواب، وأعادت قراءة الرسالة عشر مرات.
كأن عقلها يرفض التصديق… لكن قلبها؟ قلبها كان يشتعل.
توجهت إلى خزانة صغيرة في غرفة نومها، وفتحت دفتراً قديماً، أخفته منذ رحيله.
في أول صفحة منه، كانت نفس الجملة بخط إيلياس:
"الحب لا يُدفن."
مرت أصابعها على الكلمات كما لو أنها تلمس وجهه…
وعيناها كانت تبحثان عن حياة بين السطور، عن صوته الذي كان يُضحكها بلا سبب.
في اليوم التالي، وصلت إلى المكتبة وهي لا تزال تحمل الوردة في حقيبتها.
الحيّ بدا عادياً، الناس يمرّون، الحياة تمضي، لكن داخلها… كل شيء كان يتغير.
قلبها يخفق، رأسها مزدحم بالتساؤلات.
هل يُعقل أن إيلياس حي؟ وإن كان كذلك… لماذا عاد الآن؟ ولماذا لم يظهر بنفسه؟
وما زاد الطين بلّة، هو وصول طرد غريب إلى المكتبة… مرسل باسم مستعار:
"صديق من الماضي".
فتحته بحذر. داخل الطرد، كتاب بعنوان: "الخيانة التي لم تُروَ"
عندما فتحته، وجدت صورة قديمة لها ولإيلياس في إحدى الغابات… صورة لم تعرف من التقطها.
في الصورة، كانت تضحك وهو ينظر إليها بحنان. لكن خلفهم… ظل لرجل، يقف في الخلفية، بعيدًا، لكن واضحًا.
شهقت بصوتٍ خافت.
"من يراقبني؟"
"هل عاد فعلاً؟"
"أم أن هناك من يلعب بعقلي؟"
في نهاية اليوم، وقبل أن تغلق المكتبة، دخل رجل غريب.
طويل القامة، بشرته سمراء، عيناه بلون العسل الداكن… لا يبتسم، ولا يبدو عليه التوتر.
اقترب منها بهدوء، كأنه يعرفها من زمن، وقال دون مقدمات: – "أحيانًا الماضي لا يعود ليُذكّرنا، بل ليُحذّرنا."
ثم وضع بطاقة صغيرة على الطاولة، خرج بعدها بصمت، تاركًا خلفه ريحًا من الأسئلة العالقة في الهواء.
"المحقق ياسين – وحدة الجرائم الخاصة."
وقفت ليان للحظة تنظر في وجهه قبل خروجه… شعرت أن نظراته حملت شيئًا تعرفه.
لكنها لم تجرؤ على مناداته.
كان في عينيه صدق غريب… وخوف أكبر.
ليلًا، وهي جالسة في غرفتها، تراقب الوردة السوداء التي وضعتها في كوب زجاجي، رنّ الهاتف.
رقم غير معروف.
ترد بحذر، وصوت خافت يهمس في الطرف الآخر: – "ليان… هناك أسرار لم تمُت مع إيلياس. إياكِ أن تثقي بأحد… حتى أنا."
وتنقطع المكالمة.
جلست هناك لدقائق، الهاتف بين يديها، والهدوء في الغرفة ثقيل كالحجارة.
الريح تعصف في الخارج، والمطر يضرب الزجاج بقوة أكبر.
لكن ما يضرب قلبها الآن… لم يكن سوى بداية لعاصفة لن تهدأ بسهولة.
Comments