رحلة الجزيرة المفقودة
الفصل ١
الرائحة النتنة كانت أول شيء يضرب حواسه كل صباح. مزيج من المجاري العفنة وفضلات الحيوانات، يلتصق بالهواء الرطب كغشاء لزج. على هذه الجزيرة التي لم يعرف اسماً آخر لها غير "مقبرة"، عاش فتى في الخامسة عشرة يُدعى ياكو. لم يعرف من "عصر الذهبي لياكو" الجديد الذي يتحدثون عنه سوى هذا القبح والخوف الذي يتسلل إليه مع كل غروب شمس.
بعد سنوات طويلة من نهاية الحرب العالمية العظمى، بزغ فجر هذا العصر. لم يعد عصر القراصنة العظام وأساطيرهم الخارقة التي تملأ الكتب القديمة، ولا سر القرن المنسي الذي قيل إنه غير وجه العالم، سوى صفحات باهتة في كتب التاريخ التي يندر من يتذكرها. ليحل محله هذا العصر... عصر بقواعد ووحشية مختلفة تماماً عما سبقه.
هنا، على هذه الجزيرة، لم يكن الخوف وهمياً؛ كان خوفاً له وزن، يضغط على صدره، يجعل قلبه يخفق بعنف، ويجبر عينيه على التحديق في الظلال المحيطة. كان يعلم بوجوده... الكائن الضخم الذي يتحرك في الظلام، لا يراه، لكنه يسمع أحياناً صدى خطواته البعيدة، أو يشعر بارتجاف خفيف في الأرض، وتصل إليه أنفاسه الثقيلة التي تحمل معها الرائحة القاتلة. الرائحة وحدها كانت كافية لتقلب معدته كغثيان دائم، يُضاف إلى ذلك منظر فضلات الحيوانات التي تنتشر على الأرض كزينة قبيحة للموت المنتشر، لونها الداكن يلطخ التراب الأسود الرطب. هذه الجزيرة لم تكن صالحة للحياة أبداً، كانت مجرد بقعة منسية من القبح واليأس.
في أحد الأيام، بينما كانت الشمس تميل نحو الغروب، كان ياكو يجلس على شاطئ الجزيرة القذر، وهو المكان الوحيد الذي يجد فيه بعض الراحة من بشاعة محيطه. أمسك بحفنة من الرمل الأسود الذي التصق بيده كالوحل، ورائحة المجاري العفنة تصل إليه حتى هنا مع نسيم البحر الثقيل. مع كل موجة ضعيفة تلامس الشاطئ وتتلاشى، كان يشعر بأن وقتاً ثميناً يضيع من حياته، يذوب في هذا المكان المنسي. تعابير وجهه كانت يملؤها الملل المطبق والغضب المكبوت، وكأنه سجين ينتظر حكماً بالإعدام البطيء.
يجلس كيتو، الرجل الأربعيني القوي والهادئ، والذي كان بمثابة المرشد لياكو لسنوات، بهدوء بجواره. ينظر إلى الأفق للحظة بابتسامة هادئة، لكنها لا تصل لعينيه تماماً، كما لو كان يحمل ثقل العالم على كتفيه.
ياكو: يتنهد بعمق يملؤه الإحباط، يرمي الرمل من يده بقوة هااااه! كيتو-سان! لقد فاض الكيل حقاً! لا أستطيع التحمل دقيقة أخرى على هذه الجزيرة العفنة!
كيتو: ابتسامة هادئة الموت... هو أبسط طريق للخروج يا ياكو.
ياكو: يتفاجأ للحظة، يرفع بصره إلى كيتو هاه؟
كيتو: تتحول نظرته إلى جدية، يميل رأسه قليلاً نحو ياكو الحياة الحقيقية... لا تجدها بالهرب من شيء، بل بمطاردة شيء يستحق التضحية من أجله .ولكن العالم بالخارج الآن يا ياكو... ليس كالأساطير التي يروونها عن الأبطال القدامى. وحشيته تتلون بألوان مختلفة تماماً، وقواعد القوة تبدلت. قل لي، لو قفزت في هذا البحر الآن... ماذا بالضبط ستكون تلاحق في هذا العالم الفسيح والمجنون بقواعده الجديدة؟
يتصلب جسد ياكو فجأة. عيناه تشتعلان بعزم مفاجئ يمحو آثار اليأس السابقة. يقف بسرعة ويواجه كيتو مباشرة، قبضتاه مشدودتان، صوته يرتفع بحدة وقوة.
ياكو: هدفي؟ هل تسأل عن هدفي، كيتو-سان؟! إنه الشيء الوحيد الذي يضيء في هذا الظلام الذي زرعته أنت في داخلي منذ زمن بعيد! الأسطورة! أسطورة الجزيرة المفقودة!
كيتو: ينظر إليه بتمعن، نظراته تخفي الكثير ...
ياكو: أنت من قلت! قلت إنها ليست مجرد حكاية خرافية! إنها موجودة! جزيرة مخبأة تحمل ثروة تفوق الخيال! وقلت لي أيضاً عن سر ذلك العصر الذي مُحي من التاريخ... القرن المنسي! ما زلت لا أفهم من هو "الرئيس ماهر" وكل هذا الهراء الحكومي، لكنني أفهم شيئاً واحداً! أفهم أن هناك حقائق عظيمة ومخيفة مخبأة عن أعيننا!
يلف ياكو رأسه فجأة ويواجه البحر المترامي الأطراف، يقفز بخفة على صخرة قريبة، صوته يرتفع حماساً كبيراً، يشير بيده إلى الأفق.
ياكو: منذ تلك اللحظة التي زرعت فيها تلك البذرة في روحي، أصبح لدي حلم واحد فقط! العثور على تلك الجزيرة! وليس فقط من أجل الذهب اللامع أو الكنوز... لا! يلف رأسه لينظر إلى كيتو بعينين تلمعان بالحماس والفخر بل لاستخدام تلك الثروة لشراء... لا، لبناء! أجمل وأروع جزيرة يمكن تخيلها في هذا العالم! جزيرة حقيقية! مكان آمن يمكن للناس أن يعيشوا فيه بسلام واستقرار... بعيداً عن هذا القبح كله! وهذا الخوف كله! هذا هو حلمي! هذا هو هدفي الأسمى، كيتو-سان!
أومأ كيتو ببطء، وجهه يعود إلى الجدية التامة، الهواء حوله يبدو أثقل فجأة.
كيتو: هدف نبيل... بل نبيل جداً يا ياكو. لكن استمع جيداً... العالم بالخارج ليس كجزيرتك هذه. إنه مكان قاسٍ... لا يرحم أبداً. وخاصة المنفردين... أو من لا يملكون القوة. في رحلتك المحفوفة بالمخاطر عبر البحار المجهولة... لن تجد أحداً يقف خلفك... لن يدافع عنك أحد... سوى أفراد طاقمك. أولئك الذين تثق بهم... ويقاتلون إلى جانبك... ظهوراً لظهر. هل أنت... مستعد حقاً لمواجهة هذا العالم بمفردك؟ أو على الأقل... بدون رفاق... حقيقيين؟
لم يتردد ياكو أبداً. عاد الحماس ليشتعل في عينيه كشعلتين ساطعتين، قبض على يديه بقوة، يقف باستعداد.
ياكو: مستعد؟ بالطبع مستعد، كيتو-سان! أنا جاهز! وأنا أعرف! أعرف أن هذه القوة... قوة نبات البالون اللعين الذي أكلته لسنوات! ستكون مفتاحي للنجاة! وسلاحي الأول والأقوى! سيعرف العالم! سيعرف هذا العصر! من هو ياكو! الفتى الذي سيجد الجزيرة المفقودة! ويغير هذا العصر! هيا بنا! هل يمكنني الانطلاق غداً؟ الآن؟ أشعر أنني... أنني جاهز تماماً!
نظر كيتو إلى ياكو بنظرة عميقة... مزيج غريب من الفخر والفزع والقلق العميق. ابتسامة هادئة عادت لوجهه، ثم تنهد بهدوء، صوته يحمل ثقلاً.
كيتو: ما زلت... ما زلت متهوراً ومندفعاً... تماماً كعادتك يا ياكو. أتمنى لك دائماً... كل التوفيق والنجاح في هذه الرحلة... رحلتك. نظر إلى الأفق البعيد، كما لو كان يرى شيئاً لا يراه ياكو لكن... لا. لن تسافر غداً يا ياكو. ياكو يتصلب، الدهشة والاستياء يظهران على وجهه. لديك... شهر آخر هنا. شهر واحد متبقٍ. هناك... بعض الأمور النهائية التي يجب عليك إتقانها. وبعض الاستعدادات التي يجب إكمالها... قبل أن تنطلق حقاً.
وقف كيتو ببطء وتوجه نحو داخل الجزيرة، بخطوات ثابتة لكن بطيئة، تاركاً ياكو وحده على الشاطئ القذر مرة أخرى. شعر ياكو بموجة صدمة ثم خيبة أمل حارقة... سرعان ما تحولت إلى غضب مكبوت.
قبض ياكو على يديه بإحكام حتى ابيضت مفاصلهما، وعيناه تحدقان في ظهر كيتو المبتعد، ثم في البحر. الرغبة في الرحيل اشتعلت فيه كالنار. تمتم لنفسه بصوت خفيض بالكاد يُسمع فوق صوت الأمواج الضعيفة، لكنه كان مليئاً بالتصميم الحديدي.
ياكو: شهر آخر؟! تتسع عيناه بحدة . لا... يقبض على أسنانه بقوة. لن أنتظر! أنا... أنا جاهز الآن! جاهز تماماً! لا أستطيع البقاء دقيقة إضافية على هذه الجزيرة اللعينة! قوتي... قوتي كافية! وحلمي... حلمي أقوى من أي شيء! سأغادر... سأغادر غداً! مهما كلف الأمر! لن أنتظر أحداً!
في صباح اليوم التالي، استقيظ مبكرا. وانطلق فورا بقوة مذهلة عن شاطئ الجزيرة، محلقاً فوق المياه القذرة. دافعاً نفسه للأمام بفضل قوة نبات البالون الفريدة لهذا العصر التي أكله لسنوات وأصبحت جزءاً منه. كانت نظراته يملؤها الأمل... لكن هذا الأمل الجامح لم يدم طويلاً. في وسط اندفاعه الطائش، قاطعه صوت هدير ضخم قادم من الأمام
سحابة سوداء هائلة تلوح في الأفق، ورياح عاتية بدأت تصفع وجهه. إعصار قوي كان يتشكل مباشرة في مساره!
، ورأى الإعصار كخصم يستحق القتال بدلاً من كارثة طبيعية يجب تجنبها. صرخ بحماس غير معقول في وجه الرياح المتزايدة:
ياكو: "ياهوييي! هذا ممتع! هيا أيها الإعصار! لنر من الأقوى!"
لكن الإعصار كان أسرع بكثير وأقوى من قوة البالون غير المدربة بالكامل في مواجهة الطبيعة الغاضبة. أمسك به قبل أن يتمكن من توجيه ضربته الأولى، ولفت الرياح الجامحة جسده كدمية، ثم قامت بفقده لوعيه في لحظة... قُذف بقوة هائلة في قلب العاصفة، ليجد نفسه يسقط نحو المجهول.
Comments