غيبوبة ناعمة
كانت السماء مليئة بالغيوم في ذلك اليوم على غير العادة، وكأن تلك الغيوم تحمي الأرض من مصيرٍ محتوم سيقع الليلة. وقفت جنة تنتظر عند باب المدرسة، وفي قلبها شعور غريب يتسلل إلى أعماقها. كانت تنظر إلى السماء ويتفاقم ذلك الشعور بداخلها. أغمضت عينيها، تنفست الصعداء، تحاول بث الأمان في قلبها.
لمحته من بعيد... عم سعيد، الرجل الطيب الذي اعتاد أن يأخذها في طريقه للبيت كل يوم. كان صديق والدها، لكن الظروف أجبرته أن يعمل سائقًا لدى صديقه. شعرت جنة بالأمان عندما رأته، لكن كان للسماء رأيًا آخر.
في لحظة، انفجرت السحب باكية. كانت الأمطار غزيرة، وكأنها تحذرها أو ترثي حالتها.
كانت الشوارع مكتظة بالطالبات، فذلك كان آخر يوم في العام الدراسي. اختلفت ردود الأفعال بين طالبات يضحكن، وأخريات يبكين، رغم أدائهن الجيد في الامتحان. تمسكت جنة بكتاب الأحياء، ووضعته فوق رأسها لعلّه يحميها من المطر، ثم دخلت السيارة سريعًا.
ابتسمت لعم سعيد الذي سألها كعادته:
– مبروك يا جنة، أخيرًا خلصتي.
ضحكت جنة رغم القلق المخيم على صدرها، وقالت بمشاكسة:
– أنت زهقت مني ولا إيه يا عم سعيد؟
ضحك عم سعيد وقال بحنو:
– أنا أقدر برضو يا جنة؟
ثم أردف:
– مش سألتك، عملتي إيه النهارده في امتحان الأحياء يا دكتورة؟ أنا متفائل إنك من أوائل الجمهورية إن شاء الله.
شعرت جنة بالأمل قليلًا وسط ذلك الشجار الداخلي في عقلها، لأن حلمها اقترب كثيرًا. فالطب كان دومًا أعظم أحلامها، وهي واثقة من أدائها في الاختبارات.
أجابت جنة بابتسامة ممتنة:
– كان كويس يا عم سعيد، بس حاسة بتوتر... مش عارفة ليه.
رد عم سعيد بحنان بالغ، لأنه يشعر أنها مثل ابنته منى:
– ده عشان المرحلة اللي أنتي فيها خلصت خلاص، وقلقانة من المرحلة الجاية... بس أنا واثق إنك قدّها.
كانت كلماته تبث الأمان، لكنها لم تستطع كبح جماح القلق الذي سيطر عليها.
سادت السيارة حالة من الهدوء بالداخل، عدا الأصوات المزعجة من زحام السير بسبب المطر.
قالت جنة بقلق:
– شكلنا هنتأخر كده.
لكن عم سعيد رد بثقة:
– لا، متقلقيش، أنا هروح من طريق بعيد شوية، بس مفيهوش زحمة.
ابتسمت بقلق، لكنها لم تكن تعلم أن عم سعيد اختار طريق الموت ذاته.
ظلت جنة تنظر إلى الطريق وقد اطمأن داخلها قليلًا. كانت الصحراء تمتد أمامها، خالية من الحياة، تمامًا كروحها التعيسة.
ظل الإعصار يضرب بالخارج، كأنه وحش ثائر يخشى الهزيمة. كان الكون يرسل إشارات بأن لا تقترب أكثر من هذا الطريق.
كان كل شيء طبيعيًا، وكان الهدوء يعم السيارة.
في نفس الوقت، كانت هناك سيارة قادمة من الاتجاه المعاكس، بداخلها ثور هائج يتمرد على الكون. كان يقود بجنون، راغبًا فقط في الموت، في الانتقام من نفسه.
وفي لحظة، فقد السيطرة وارتطم بسيارة قادمة من الجهة الجانبية.
توقف الزمن عند جنة.
تفكر في حياتها القادمة، في فرحتها بقبولها في كلية الطب، وفي فرحة عائلتها.
تحول الهدوء البسيط إلى ضوضاء مزعجة تسلب أنفاسها ببطء.
شعرت أن الكون تمرد عليها.
صرخ عم سعيد فجأة عندما رأى السيارة تقترب، لكن جنة لم تستطع الصراخ.
نور ساطع... ثم...
التفّت السيارة حول نفسها... مرة، اثنتان، ثلاث...
حتى سكنت تمامًا، وسكن معها كل شيء.
كانت عيناها ثقيلتين للغاية، وسائل دافئ يحتضن جسدها الضعيف، يمنحها شعورًا بالأمان الذي فقدته.
شهقة ضعيفة خرجت من جسدها الذي يئن بصمتٍ بارد.
الأصوات كانت بعيدة للغاية، سوى صوت عم سعيد وهو يلفظ آخر أنفاسه أمامها.
هنا، أدركت جنة أنها النهاية.
أغلقت عينيها ببطء، وتركت الألم ينهش عظامها كذئب جائع.
تركت دموعها تسقط على وجنتيها، وتسقط معها كل أحلامها.
حتى سكن كل شيء، و... تركت روحها تتحرر نهائيًا.
Comments