الفصل 6: الرّسالة الأولى

الفصل 6: الرّسالة الأولى

كان كايران قد لاحظ بالفعل حذر لينوا، فقد رفضَتْ مُقابلته ورفضَتْ مُرافقة أيّ حرّاسٍ معه في اليوم السابق. لم يكن لديه أيّ مرافقين أو تابعين حوله، لذا كان تركيزه مُنصبًا عليها بالكامل. لو لم يكن مهتمًا بها، لبقي على مسافة. ولكن بما أن لينوا لم تكن رجلًا، فلم يكن ذلك ممكنًا.

خلال عشاء الليلة الماضية، لاحظ كايران بقعة دمٍّ على مقعد لينوا وافترض أنها كانت إصابةً خارجيّة. ومع ذلك، بعد أن أمر خادمةً عشوائيّةً بإحضار الطّبيب الملكي لها وعاد إلى غرفته، أدرك حقيقة الأمر.

'هل كانت... دورتها الشهريّة؟'

كان كايران على درايةٍ بهذه الظاهرة الفسيولوجيّة الشهريّة المؤلمة والمزعجة. لم يكن الأمر يشغله من قبل، فقد كانت دومًا مشكلةً تخصّ شخصًا آخر. لكن رؤيتها مباشرةً أمامه كان أمرًا جديدًا عليه. والأهم أن الشخص المعني كان لينوا، الوحيدة التي لم يبقَ بعيدًا عنها.

على أي حال، كان قد عزم على طرد الخادمة أو الطّبيب الملكي فورًا إذا حدث أيُّ مكروهٍ للينوا. لحسن الحظ، زارته الخادمة سرًّا وأبلغته أن لينوا أصبحت بحالٍ أفضل قليلًا وأنها تستريح حاليًا.

كان ذلك قد حُل، لكن لسوء الحظ، كان اليوم التالي موعد استقبال وفد مملكة ميرزين. حُدِّدَ الموعد قبل شهر، ووصل الوفد في الليلة السابقة، لذا لم يكن بالإمكان تأجيل الاجتماع.

'لماذا كان عليهم المجيء بينما الآنسة لينوا ليست بخير؟'

تراجعت نظرة كايران الإيجابيّة تجاه الحليف إلى الحضيض في لحظة.

جلست لينوا بجانبه في مكان الشرف، مُجبِرَةً نفسها على متابعة الاجتماع. كان شحوب وجهها وتنفّسها المرهق واضحَين تمامًا.

 رؤيتها بتلك الحالة البائسة كانت أشبه بالعذاب.

كان الاجتماع مجرد تبادل مجاملاتٍ بين الدول الحليفة. شعر كايران برغبةٍ عارمةٍ في إنهائه على الفور واستدعاء الطّبيب الملكي أو خادمةٍ لها. وبينما كان الاجتماع الذي بدا بلا نهايةٍ يقترب أخيرًا من ختامه، فجّر الوفد قنبلةً غير متوقّعة.

مرسومٌ من ملك ميرزين قدَّم اقتراح زواجٍ ملكي، مُلمّحًا إلى ضرورة تقديم ابنه رسميًّا للينوا.

'كيف يجرؤون؟ زواجٌ ملكي؟ تقديم ولي العهد الأول؟'

رغب كايران في الإمساك بالمبعوث التّعيس من تلابيبه وسؤاله إن كانوا قد جاؤوا لعقد جلسة زواج، مُتّهمًا إياهم بمحاولة الاستيلاء على السلطة عن طريق خطبة امرأةٍ مريضة. لولا لمسة لينوا وكلماتها، لانفجر التّحالف منذ زمن.

"كايران... إنها المرّة الأولى التي أسمع اسمي من شفتيها."

منذ لقائهما الأول، كانت تناديه دائمًا بـ'الدوق الأكبر بلاندي'. لطالما رغب في أن تناديه باسمه، خاصّةً عندما يكونان بمفردهما.

وخلال هذا الاجتماع، نطقت باسمه علنًا وقدّمت نفسها كشخصٍ يهمه أمره.

هدّأت كلماتها العاصفة التي اجتاحته. كان على وشك قطع التّحالف، لكنه استعاد صوابه وحافظ على هدوئه المعتاد. انتهى الاجتماع أخيرًا، وغادر الوفد المزعج.

نظرةٌ واحدةٌ على لينوا المُنهكَة أكثر من المعتاد دفعته إلى حافة القلق.

'هل يجب أن أتحدّث معها؟'

لكن سواء تحدّث معها أم لا، فهي تتجنّبه بالفعل. ربما سيزيد الأمر سوءًا.

كان يعلم أن أفضل علاجٍ لآلام الدورة الشهريّة هو تجنّب التوتر، تناول الطعام الجيد، والرّاحة. من المؤكّد أن الأعراض تفاقمت، لكنها كانت تتلقّى الرعاية من الخادمات والطّبيب الملكي. حتى لو ضغط عليهم لضمان معالجتها بشكلٍ صحيح، فلن يُخفف ذلك من حالتها.

علاوةً على ذلك، إذا علمت لينوا بتوبيخه القاسي للخادمة، فستبتعد عنه أكثر.

انكبّ كايران على مكتبه، يقرأ ويوافق على الوثائق دون توقّف، لكن قلبه كان يخفق بقلقٍ على لينوا، وخطوط النصوص أمامه بدت غير واضحة. في النهاية، لم يتمكّن حتّى من إنجاز نصف أعماله المُعتادة وألقى قلمه جانبًا.

لامَ نفسه لعدم إدراك حالتها في وقتٍ أبكر. 

كل ما استطاع فعله لتخفيف ألمها هو استدعاء الطّبيب الملكي.

'لو كنتُ أعلم، لكنتُ تعلّمتُ المزيد عن... الحيض.'

على أي حال، كان قد درسَ بجهدٍ لا يكلّ ليعتلي العرش بدلاً عنها، فلم يكن لديه وقتٌ لهذه الأمور.

ورغم أنه لم يصبح مَلِكًا، فإن كايران دعمها بكل ما أُوتي من قوّةٍ باعتباره أقرب مساعديها، مُستفيدًا من المهارات التي صقلها. لم يكن يحتمل فكرة أن يجلس شخصٌ أجنبيٌّ غريبٌ بجانب لينوا. كانت فكرة تزويجها لتعزيز التحالفات، والتحوّل إلى صهرٍ بين ليلةٍ وضحاها، أمرًا لا يُطاق. وقبل كل شيء، كان يرى بوضوحٍ تلك المؤامرة السطحيّة للاستيلاء على قلبها وجسدها.

حاول كايران قمع مشاعره المتأجّجة بشدّ شعره وغسل وجهه بيدين جافتين، لكنه لم يستطع السيطرة عليها. 

وفي النهاية، فتح درج مكتبه وأخرج زينةً زجاجيّة.

كان غالبًا ما يطلب من الخدم وضع مثل هذه الزينة سرًا في مكتبه وغرفته. لم يكن يحبّها كديكورات، بل كان يستخدمها فقط كأشياءٍ يسهل تحطيمها.

أخذ نفسًا عميقًا، ثم ألقى بالزينة على الأرض. تحطّمَت بصوتٍ مدوٍّ. غير مكترث، أخرج واحدةً أخرى وألقاها كذلك.

منذ طفولته، كان لديه عادة رمي الأشياء عندما تغمره المشاعر. كان مسؤولو القصر في الطابق الرابع على درايةٍ بهذه العادة، لكنهم أبقوها سرًّا إما بالرشاوى أو التهديدات.

'يجب ألا تعلم.'

ظلّ أمله في ألا تكتشف لينوا ذلك ثابتًا، رغم اضطرابه.

بينما غطّت شظايا الزجاج الأرض، توقّف ليلتقط أنفاسه.

 طَرق، طَرق.

بدا الطَرق غريبًا اليوم.

"صاحب السمو، إنها بيتيير ميريل."

بيتيير، وصيفة لينوا الشّخصيّة ورئيسة الوصيفات. كان كايران يعرف منصبها جيدًا. لا يمكنه السماح لرئيسة الوصيفات بالدخول إلى المكتب. ستُصدمُ حتمًا من الفوضى، وبغض النظر عن محاولاته لإخفاء الأمر، ستكتشف لينوا ذلك.

"ما الأمر؟"

لم يستطع كايران قول أكثر من ذلك.

"جلالة الملكة أرسلت رسالة. تودّ رؤيتكَ قريبًا."

'رسالة...؟ منها إليّ؟'

كان كايران قد أرسل إليها عددًا لا يحصى من الرسائل، لكنها المرّة الأولى التي تبعث له واحدة. شعر بوخزٍ في قلبه بدلاً من تسارعه عند استلامها.

تمكّن فقط من نطق كلمةٍ مُوافِقَة، وبعد أن هدأ صوت خطوات الوصيفة، خرج من مكتبه ونظر في الممر. لم يكن هناك خادمٌ يمكن استدعاؤه في مثل هذه الأوقات، وكان ذلك مزعجًا. لمح خادمًا غير مألوفٍ ينظف الممر.

"أيها الخادم، أنتَ هناك."

اتّسعت عينا الخادم في ذعر، ثم ركض نحوه كالسنجاب.

"نظّف هذا المكان فورًا."

وضع كايران إصبعًا على شفتيه، آمرًا الخادم بالصمت. كان عليه أن يُبقي هذا الأمر سرًّا.

تركه منهمكًا في تنظيف الزينة المحطمة، وسارع إلى المرآة. لحسن الحظ، لم تُكسر. رتّب شعره المبعثر ومسح العرق عن وجهه. هذه أوّل رسالةٍ منها، ويريد أن يبدو بأفضل حال.

بعد مرور عشر دقائق تقريبًا، بدا المكتب مُرتّبًا إلى حدٍّ ما.

"هذا يكفي. يمكنكّ الذهاب الآن."

غادر الخادم مسرعًا. لم يكن المكان نظيفًا تمامًا، لكنه بحاجةٍ لبعض الوقت ليبدو وكأنه كان ينتظر بهدوء.

"همم؟"

نظر كايران للأسفل، فلاحظ شظايا زجاجيّة متبقّية أسفل المكتب على السجاد. انحنى بسرعة، ولمس الشظايا الحادة. حتى أدنى احتكاكٍ بها عند معصمه أدى إلى تدفّق الدم. انتشر الألم في جسده، لكنه لم يكن شيئًا يُذكر.

ولكن، لا يمكن أن تراها.

مدّ رأسه إلى الممر ونادى على الخادم مجددًا.

"ا- احضِر ضمادة."

ذُعر الخادم مرّةً أخرى، وركض بسرعةٍ أكبر مما فعل أثناء التنظيف.

لم يُرِد كايران أن ترى لينوا جرحه أو ألمه، لا سيّما إن كان بسبب حالته النفسيّة.

عاد الخادم سريعًا ومعه حقيبة إسعافاتٍ وأدوات تنظيف. وعندما رأى الجرح النازف عند معصم كايران، أُصيب بالذعر.

"صاحب السمو، هل تأذيتَ؟ هل أستدعي الطّبيب الملكي؟"

"لا، لا داعي. سأقوم بذلك بنفسي."

لم يكن يُحبّ أن يلمسه الآخرون، باستثناء لينوا.

عرض الخادم إتمام التنظيف، لكن كايران رفض وأرسله بعيدًا. لم يكن قد تعلّم الإسعافات الأولية خلال دراسته الملكيّة، لذا لم يكن لديه أدنى فكرة عن كيفية معالجة الجرح.

'ربما كان يجب أن أطلب المساعدة من ذلك الخادم.'

كل ما استطاع فعله هو لفّ الضمادة حول الجرح. على الأقل، بدا أن الألم، الذي انتشر في جسده كشقوقٍ دقيقة، قد بدأ يهدأ قليلًا.

وسط كل هذه الفوضى، لم ينتبه إلى وصول لينوا.

"امم... الدوق الأكبر؟"

أعادته نبرة لينوا، التي لطالما اعتبرها جميلة، إلى وعيه. سرعان ما أسدل كُمّه واستدار نحوها.

كانت لينوا واقفةً هناك بفستانٍ أبسط من المعتاد، وشعرها الطويل ينساب بحريّة. تسريحتها، التي أحبّها أكثر من أيّ شيء، ساعدته على تهدئة أفكاره المُتشابِكة تدريجيًا.

جاء طلب الملكة لينوا إلى سكرتيرها كايران بخصوص زيارة قصر مربّيتها لمدة يومين. بمعنى آخر، كانت تطلب إجازة.

لكن هناك الكثير من العمل الذي يتوجّب عليهما إنجازه. وبالنظر إلى أنه كان يتولّى شؤون الدولة التي لم تعتد لينوا عليها بعد، فمن الواضح أن غيابها ليومين سيُسبب اضطرابات.

مع ذلك، إن قام بجدولتها ليومٍ واحدٍ فقط وزاد من عبء العمل، فسيكون ذلك مُمكنًا بطريقةٍ ما. علاوةً على ذلك، كانت لينوا تُعاني بسبب تتويجها الأخير ومشاكلها الصحيّة، وكان عليه أن يسمح لها بالذهاب بدافع الإنسانيّة.

'تتركُني خلفها؟ مستحيل.'

لكن كايران رأى نيتها الحقيقيّة في الابتعاد عنه، ولو ليومٍ واحد. رغم أن الحرّاس سيرافقونها، إلا أن رغبتها الحقيقيّة كانت الذهاب بمفردها.

مرّ كايران بلحظاتٍ كثيرةٍ من الإحباط أثناء إقامته في القصر، لكن مجرد معرفة أن لينوا كانت هناك كان يمنحه الطمأنينة. وإن غابت عنه، فقد يفقد صوابه حقًّا هذه المرّة.

لكن الأمر لم يكن متعلّقًا بحالته النفسيّة فحسب. لم يُرِد كايران أن يكون بعيدًا عن لينوا ولو ليومٍ واحد. أينما ذهبت، أراد الذهاب معها، ومهما تجنّبته، كان مُصمّمًا على الاقتراب منها حتّى يصل إليها في النّهاية.

وبينما تلاشت لينوا عن نظره بأسف، لم يجد كايران نفسه عائدًا إلى الوثائق لمتابعة الموافقات، بل ظلّ غارقًا في التفكير بشأن الخروج معها بعد بضعة أيام.

كان يعرف مربّيتها، كما كان يعرف زوج مربّيتها، الفيكونت إلوين، القائد السابق لفرسان المملكة. ورغم أنه لم يلتقِ بهما قَطُّ، إلا أنه شعر بمرارةٍ حين سمع عن العلاقة الوثيقة التي جمعتهما بلينوا كعائلة.

'لا تنسَ أن تجعلها تناديني باسمي.'

تمتم مُتذكّرًا الوعد الذي قطعته لينوا، ليشعر أخيرًا بشيءٍ من الإثارة لأوّل مرّةٍ منذ زمنٍ طويل.

الجديد

Comments

Kazoha

Kazoha

شكله ما اخترعوله كرة الضغط وتمارين ازالة التوتر 😎

2025-02-27

2

Kazoha

Kazoha

تتعلم ايييه؟؟؟؟

2025-02-27

1

الكل

تنزيل على الفور

novel.download.tips
تنزيل على الفور

novel.bonus

novel.bonus.content

novel.bonus.receive
NovelToon
فتح الباب إلى عالم آخر
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon