رواية ظلال عارية
تسللنا تحت جنح الظلام المنسدل على تلك الأودية في الحدود السعودية اليمنية. نجحنا وعبرنا، وكانت على وجوهنا ملامح السعادة. يصرخ:صديقي احمد عراج "لقد نجحنا يا يحيى!" وداعًا للفقر وضنك العيش. أترى تلك الأنوار؟ إنها المدن السعودية، يا يحيى. كانت الأنوار وكأنها لؤلؤ منثور بطريقة منظمة، جعلت من تلك الصحراء الممتدة وكأنها عالم من كوكب آخر. اندهشت من لمعانها وتمايلها أمام ناظري. أطلقت آهًا عميقة ورتيبة، كأنه جمل أناخ بجسد مثقل بأحماله.
تذكرت صوت أيوب طارش المذبوح وهو ينزف لحنًا لمدن الأشباح اليمنية، ويترنم: "لمن كل هذه القناديل؟" تدحرجت ألحان أيوب لتنقر على زجاج سفري، اللوعة والغربة الموحشة. جلس بجواري أحمد، وهو يقول: "يجب أن تكون سعيدًا، فهذه أول غربة ولن تكون الأخيرة. فماء الغربة، يا صديقي، ينحدر في أعماقنا منذ تفجر سد مأرب، وحفر في قلوبنا شعوب وسوائل من الحنين."
أشعر بوخز في صدري، لن أحتمل المزيد. ربما بسبب انقطاع الاتصال بأهلي، فأنا أذكر قلب أمي. وينتصب وجه أخي محمد أمامي، وصوته المبحوح وهو يقول لي: "تغرب يا يحيى، فقد فقدنا وبعنا كل شيء." كنت أتأمله في غضبه من عينيه المحروقتين، وهو مجروح مترنح.بين الأمل واللا أمل كان يفترسه وهما ورغبة كامنة بتغيير حال المديرية مديرية بني قيس . هذي المديرية كأي منطقة من مناطق اليمن يلوكها القحط والتعب. استقرت في فم الزمن. يمضغها ويستمهلها على نواجذه ويعاود مضغها حتى ان المضغ لم يعد يذيبها فلفضها الزمن لبرحة النسيان
هي منطقة عاقرتها الاوبئة والجوع. والحكايات القديمة. وتناثر اهلها في اوردتها المتشعبة. وهم يحملون تعبهم بصمت. وينتضرون السماء ان تمطر. والارض. ان تلد قمحا
ان اقرب ما يمكن الحاقه بهذي المديريه. هو الصمت
فهي منطقه صامته لايحرك سكونها الى حكايات القتل التي تنتشر بكثرة في تلك القرى المتناثرة ويسيطر عليها النافذين. والخارجين على القانون. ومروجي الحشيش وناهبي الأراضي كل هذا بسبب فساد رجال الأمن. ومسؤولي الدولة. قذفوا بالبلاد إلى هاوية الطوائف الكريهة.
وزرعوا البغضاء والانقسام في النفوس. فاستغلوا النافذين فساد رجال الأمن. وشرعوا في استباحة الأراضي وضمها إلى أراضيهم.
اخي محمد أستاذا ويعمل كمراسلا لإحدى الصحف الوطنية وكان يكتب ما يؤلمه ومايراه عن حال المديرية المحكوم عليها بالخوف والسلب والنهب. فاراه مأخوذا بحنين سري. غامض وحزين
. فأرى وجهه الصبوح وهو يجلجل بالضحك حول أحداث النافذين الذين اعتقلتهم الدولة بعدا أن قرأو مقال مكتوب في الصحيفة
كان كمن يشعل جذوة موته في كل مقال يكتبه
ويلامس أطرافه و يدغدغه احيانا. وكأنه يختار موته بنفسه
سالته يوما ياأخي لماذا اخترت هذا الطريق وانت تعلم بأنهم لن يتركوك تفضح أفعالهم سيقتلوك ثمن لسمعتهم؟
نضر إليه وقال إن السكوت والتغاضي عن أفعالهم جعلهم يكبرون فالاحتفاظ بأسرار طافحة بالمرارة والظلم والتسلط والوجع والألم لايساوي شيئا أمام أن تبتلع صوتك لفرط خوفك منهم
حين تصمت وانت قادرا على ردعهم. سيكويك الالم ويصهر روحك وانت تنظر إلى المساكين والعزل وهم يتعرضون للظلم والإهانة ويبحثون عن من يوصل صوتهم المكلوم إلى الجهات العليا.
وطالما انا قادرا لمحاربة هؤلاء النافذين والمتسلطين لن اجعل المداد يجف في قلمي وكلماتي تحترق كاغصان شجرة يبست وهي تنتظر المطر
ياأخي لن تستطيع مجابهتهم وحدك. أنهم أقوياء ولهم يد نافذة في الدولة
هز كتفيه وقال أنا أيضا اقوى منهم لآني ادافع عن الحق ومعي من يحميني منهم.
ويقف معي ويعنينني عليهم معي جبار السماوات والأرض فمن ماذا اخاف
فقلت له خاف على اطفالك على زوجتك ويجب أن تخاف على امك وعلينا
رايته يضحك في وداعة وأمسك بذراعي عاتبآ والإبتسامة تضيئ وجهه واستطرد قائلا: .«اتخاف يايحيى؟؟»
فوجدتني اقول له في ثقة لأحد لها
انا لااخاف مواجهتهم ولكني اخاف الغدر
فقال من توكل على الله كان الله معه
وانا انظر الى وجهه الحزين وعيناه الشاردتين سكت ثم أكمل قائلا. القلب الشجاع ياأخي لايرهب من مواجهة الواقع والايمان القوي لايخشى مواجهة الباطل ومحاربة الفساد والمنحرفين والهروب من مواجهة الظالم رذيلة. ولن تستطيع أمة إصلاح البلاد مالم تغير واقعها وتنصف المظلومين
فقلت له ياأخي. هؤلاء النافذين لايعرفون الله ولايخشون الدولة وقد يفعلون اي شي مقابل أن تصمت مثل الآخرين
فابتسم ثم قال. ولو اجتمعوا من في السماوات والأرض على. أن يضروك بشي فلن يضروك إلى بشي قد كتبه الله لك
موجة رياح باردة عبرت الان فشعرت بقشعريرة تسري في بدني فقلت.له وكيف ستقوم بتغيير وتطهير كل هذا الفساد وحدك
قال يايحيى لنا قدوة حسنة في سيد البشرية فقد حارب الكفر والشرك والجاهلية وحدة بالصبر والكفاح والمثابرة اعزة الله واعانه وأيده بنصرمبين . وهناك أمثلة كثيرة عن رجال قاموا بتغييرات كثيرة في بلدانهم وهم وحدهم. فمهاتما غاندي. ونيلسون مانديلا. وغيرهم الكثير
هممت بالانصراف للنوم حين رأيت اليل قد ذهب نصفه وكانت تتساقط من السماء رذاذ المطر. فقلت وانا احوقل وابسمل: « السماء تبكي خطايا التعساء..»
قهقه محمد وقال: «السماء لا شأن لها بالبشر؛.. ولا تفرح ولا تحزن.. نحن الذين نتعرض لموجات الحزن، أو هزات الفرح...». -«وكل واحد منا يرى مالا يراه الآخر...». فلتملأ قلبك باليقين... وعش دائما وانت لاتخاف إلا الله؟
كانت كلماته الصادقة تتغلغل إلى أعماق نفسي. وترعش قلبي ، كانت بسيطة قوية ومؤثرة ...
عرفت باني لااستطيع إيقافه، مها قلت له
فادرت وجهي بعيدا عنه. وأحسست أن في عيني شلال يريد أن يتدفق يغمرني شعورا بالفخر وبزهوا كبير. فقد كان محمد شخصية يعتمد عليها ويساعدالجميع دون تردد متى ماتطلب الأمر ذلك والحق أنه كان قليل الخصومات يخفق بداخله ملاكا طيب وبسجية تلقائية ومتسامحة إلى حد بعيد. لكن مشاعر الخوف مما سيأتي من الغرماء منعني أن استسلم لشلال الذي سيجرفني إلى أماكن وصور قد تحول ارتياحي المؤقت إلى موجة عارمة لااقدر على السيطرة عليها
تركته يروي عن الفساد والاستبداد الذي فرضوه النافذين وتجار الحشيش فالمح دمعة بين عينيه وهي تفيض أسى وغيض
وهو يشعر بالانتصار بأن النافذين اودعوا بالسجن
كان يواجه كل الفاسدين والمخربين بسلاحه الخاص القلم. وقد سخره ليشن حربا عليهم. تمادوا كثيرا في ايذاءه ولكنه كان صبورا حكيما وعندما تعلق الأمر بأن النافذين يقومون بابتزاز المواطنيين في المشاريع الخدمية ويختلقون اعذار لسرقة المساكين برفع السعر في فاتورة الماء واحيانا يقولون اعطالا في الماكينة ويجب على كل مستفيد أن يدفع مقابل إصلاحها. رأى بأن الأمر لم يعد يحتمل. وقف أمامهم بينما سخر راتبه الذي يتقاضاه من الدولة لأعمال الخير. ومصاريف البيت والمستشفى.الذي تنام فيه زوجة أخي أحمد المصابه بالسرطان وكان يملك دكان صغير. أنفقه هو أيضا للمحتاجين من أبناء القرية. الذين لا يجدون ماياكلون
قال لي ياأخي يجب أن تسافر وتساعدني بالمصاريف ٠فكما ترى لم يعد راتبي يغطي مصاريف بيتنا الكبير
فقلت له اسافر واتركهم يقتلوك
قلتها بكل ثقة وكاني أرى ذلك امامي كانت ثقة عمياء لا ادري من اي داهية استعرتها
افحمته اجابتي، فسكت. بينما أوشكت انا على البكاء وشعرت بطعنة تقصم ضهري وصقيع حاد يدب في عروقي ومفاصلي
لا ادري لماذا وافلتت من يدي. كل أسباب النظر برؤية إلى مسألة سفري من عدمها،. ولم اعد ادري ماذا افعل بعدما تشوشت أفكاري وغامت الرؤية في قلبي وبصري،
حين غادرت كان هو في وداعي وكان يبكي بصمت فاحتضنني بقوة وكأنه لن يراني بعد اليوم. كان شديد العاطفة عند وداعي. وكنت أنا جامدا مثل حجر قديم
في برهة صمت انهمرت كآبة لفتني بسوادها المخيم على وادي خلب
فشعرت بأن في داخلي انفصال ذري للنفس وبقدر ما أبدوا مباغتا بوطن الغربة الجديد احس بالتوجس من مجهول غامض قد ينقض علي في أي لحظة
توسدت الأرض والتحفت بالسماء كان اليل في ذلك الوادي باردا بهبوب ريح اختال
كثيرا فذكرني بهسهسته بين حقول قريتي
عصف بي حنين لرؤية عائلتي التي تركتها تعاني من الفقر والمرض وعدوا يتربص بأخي محمد
وداهمتني رغبة ملحة بالاتصال والاطمئنان عليهم. هممت أن أيقظ رفيقي احمد الذي نام وهو يتحدث عن لوعة تحرقه وتذكرت بأنه اخبرني أن بطارية الهاتف نفد منها الشحن
فاغمضت عيني وانا اتخيل هذا الخلاء شبيه بخلاء قريتنا وتسلل إلى أجفاني النوم ورأيت كان هناك عصافير مهولة تقف على أشجار السدر لها مناقير صغيرة ومدببة تتعرش ببعضها وتتناقم وتتخاطف الفضاء وتعود لتقف على الأشجار تلهيت بمنظرها وتمنيت لو أنني من بقية السرب أمد جناحي واطير صوب قريتنا اقتربت منها فنفر من بينها طائر له لون ابيض يميزه عن بقية الطيور. وحلقت خلفه العصافير كسحابة مسافرة. لاادري لماذا تخيلت أن يكون ذلك الطائر المميز اخي محمد. وتمنيت أن يهبط إلى جانبي ويونس وحدتي في هذه الواد الموحش
ولكنه طار بعيدا
واختفى في الأفق وغدا المكان أكثر وحشة سوى ريح مخبأ يهز أشجار السدر
وجدت نفسي نقطة ضئيلة بذلك الخلاء
استشعرت الخوف وعدت اركض بدون هدى وكلما ركضت ركض معي الخلاء وتمدد. فاسمع ضحكات صاخبة تصلني من جهات متعددة واشباح تنبت من الخلاء وتتقدم نحوي وهي تمد سكاكينها نحو 0ذراعي اليمين وهوت بضربة مزدوجة فبتر ذراعي فخطفه أحدهم واختفوا في الخلاء. فسقطت على الأرض وافقت من نومي كان احمد ينضح وجهه بالماء والشمس تنسج خيوط الصباح على جبال صعدة. كان الالم يعصرني ويزداد كلما تذكرت الحلم الذي رأيته
تفاجأت باحمد يقول لي يجب أن نعود. كيف نعود ابعد هذا التعب واليالي التي قطعناها والجوع. نعود. ماذا حصل
ياصباح الخيبه والوجع. والحظ التعيس الذي اعيشه منذ طفولتي. هذه الحياة تعلمنا حين تخذلنا. والمواقف ترهقنا لحظة أن تصفعنا والألم ينقينا من لوث خطايانا. كم حلمت بهذا السفر وانفقت ماتبقى لدينا من نقود حتى اخي محمد اعطاني مصاريفه الخاصة. كم هي سخيفة حياة الأحلام يااحمد. تمنيت عملا براتب يكفي أن اعيل اسرتنا التي حطمها الفقر والمرض تمنيت أن اكون سندا وعضدا. لأخي محمد. تمنيت ان ابني منزلا واشتري سيارة كم واسيت نفسي وها أنا اصل الى ارض التي يعتبروها اليمنيون أرض الاحلام. وبعد أن وصلنا تقول لي نعود
ستندت إلى كتف احمد ودوار عنيف يعصف برأسي فاحاول أن اهرب من تلك الصور التي رايتها في الحلم وتضج بها مخيلتي. فتزيدني رهقا
اسالك بالله اخبرني ماذا حصل
والله ياأخي ماحصل شي. ولكن لابد أن نصل إلى القرية قبل حلول الظهيرة
٠
Comments