كانت الليلة هادئة بشكل مخيف. مشيت في شوارع طوكيو دون وجهة واضحة، فقط أترك خطواتي تقودني. رائحة العدم تغمر المدينة، مختلطة برائحة العشب المبتل بعد المطر. لم يكن هناك شيء يربطني بهذا المكان، ومع ذلك شعرت بثقل لا يمكنني تفسيره يجذبني إلى أعماق الماضي.
..."الماضي ليس مجرد ذكرى، إنه ظل يطاردنا، أينما ذهبنا."...
كنت أحاول الهروب منذ فترة طويلة، لكن كان هناك شيء في هذه المدينة، شيء لم أستطع الهروب منه. ربما كانت شوارعها التي تذكّرني بالأيام القديمة، أو ربما كان الناس الذين صادفتهم في كل زاوية، كلهم يبدون وكأنهم يحملون ذكريات مماثلة، متعلقة بفترة ماضية لا يمكن نسيانها. لكنني لم أكن أبحث عنهم، كنت أبحث عن شيء آخر... أو ربما كنت أبحث عن نفسي.
وصلت إلى مكان أعرفه جيداً، رغم أنني لم أزره منذ سنوات. كان "يويوغي بارك" يبدو مهجوراً في هذه الساعة المتأخرة من الليل. الأشجار العالية ترمي بظلال طويلة على الأرض، وكأنها تحتضن الظلام في حضنها. كان المكان هادئاً، هدوءًا يحمل معه ذكريات ثقيلة. هنا، في هذا المكان بالذات، كنا نلتقي صيفاً بعد صيف، نبحث عن أنفسنا وسط ضجيج المراهقة وصخب الحياة.
جلست على المقعد الخشبي المهترئ الذي كان شاهدًا على العديد من لحظات حياتي السابقة. بدا المكان مختلفاً الآن، كأنما تغلفه طبقة من الزمن البعيد، لكنه في الوقت نفسه لم يتغير. شعرت بضغطٍ في صدري، وكأنما الماضي يقترب ببطء ليحكم قبضته عليّ مرة أخرى.
..."الذكريات ليست مجرد أحداث مضت، إنها أحجار تظل عالقة في القلب، تمنعنا من المضي قدماً."...
كنتُ وحدي هنا، كما كنتُ وحدي طوال حياتي. لكن الوحدة التي شعرت بها في تلك اللحظة كانت مختلفة. كانت ثقيلة، تشبه الظل الذي لا ينفك يتبعك في كل مكان تذهب إليه. حاولت أن أُلهي نفسي بالتفكير في تفاصيل الحديقة، كيف أن العشب أصبح أكثر كثافة، وكيف أن الطيور التي كانت تحلق هنا في الماضي اختفت الآن. لكن، كما هو الحال دائمًا، لم أستطع الهروب من الماضي.
ذكرياتنا هنا كانت مليئة بالضحك، لكن الضحك الذي يعقبه صمت طويل. كانت هذه الحديقة شاهدًا على مشاعرنا المتناقضة، الغيرة والحب، الفرح واليأس. أتذكر عندما كنا نجتمع هنا في الصيف لنستمع إلى الألبومات الجديدة على أقراص مضغوطة، نشارك بعضنا البعض الأغاني التي أحببناها وكأنها كانت طريقنا الوحيد للتواصل.
..."في تلك الأيام، كانت الموسيقى هي اللغة التي كنا نفهمها جميعاً. أما الآن، فقد أصبحت مجرد صدى بعيد."...
لكن مع مرور الوقت، تغير كل شيء. لم نعد أولئك الأطفال الذين كانوا يتسللون إلى الحديقة ليلاً، هربًا من الواقع. أصبحنا أشخاصًا مختلفين، تحملنا أعباء العالم دون أن نعي ذلك. يوكا، ريوجي، والبقية... كل منا اختار طريقه الخاص، لكن الطرق التي اتخذناها كانت مليئة بالأشواك والظلام. كان لكل واحد منا ماضٍ مشحون، وظلال تلك الأيام الماضية بدأت تلقي بظلالها على حياتنا الحالية.
أتذكر كيف أن ريوجي كان دائمًا ذلك الصديق الذي يبذل قصارى جهده ليخفي ألمه خلف ابتسامة زائفة. كان يتظاهر بأنه الأقوى، لكنني كنت أرى الألم في عينيه. وكنت أعلم أن تلك الابتسامة التي يرسمها كانت مجرد قناع يخفي تحته جروحًا لم تلتئم. أما يوكا، فكانت دائمًا تلك الروح الحرة التي لا يعرف أحد كيف يسيطر عليها. كانت تقودنا إلى أماكن لا نجرؤ على الذهاب إليها بمفردنا. لكنها أيضًا كانت تائهة مثلنا جميعًا.
..."في النهاية، نحن جميعًا مجرد ظلال لبعضنا البعض، نعكس مشاعرنا وأحزاننا في عيون الآخرين."...
في أحد الصيفيات الأخيرة، جلبت يوكا شرائط موسيقية قديمة، وقالت إنها عثرت عليها في متجر صغير قديم قرب الشارع التجاري. كنا نستمع إلى أغاني اليابانية القديمة التي كانت تدور حول الحب المفقود، والحياة التي لا تسير كما نريد. كنا نغرق في تلك الموسيقى وكأنها كانت تحكي قصصنا الخاصة.
لكن الآن، لم يعد هناك أحد ليشاركني تلك اللحظات. حتى الحديقة نفسها بدت وكأنها ترفضني. نظرت حولي، ورأيت العتمة تزداد كثافة، كأنها تلف المكان في عباءة من النسيان. لم أعد أشعر بالانتماء إلى هنا. الماضي كان يطاردني، لكنني لم أعد أرغب في مواجهته.
..."عندما نصل إلى هذه اللحظة، ندرك أن الماضي ليس شيئًا يمكن الهروب منه. إنه جزء منّا، يسكن في كل خطوة نخطوها."...
بينما كنت أستعد للمغادرة، سمعت صوت خطوات خافتة. التفت لأرى يوكا تقف هناك، في نفس المكان الذي كنا نلتقي فيه. لم أصدق عيني. كانت ترتدي نفس الجاكيت الأحمر الذي كانت ترتديه في آخر مرة رأيتها فيها. لم تتغير كثيراً، لكن عينيها كانتا أكثر عمقًا وحزنًا مما كنت أتذكر.
اقتربت مني ببطء، وجلست بجانبي. لم تقل شيئاً في البداية، وكأنها كانت تنتظرني لأبدأ الحديث. لكنني كنت عاجزًا عن الكلام. كل الكلمات التي كنت أريد أن أقولها لها اختفت من ذهني.
أخيرًا، بعد دقائق طويلة من الصمت، تحدثت.
"لماذا عدت؟" سألتني بصوت خافت.
لم أكن أعرف كيف أجيبها. لم أعد حتى الآن أعرف لماذا عدت.
Comments