🥀
كان صباحًا رماديًا في لندن، والسماء تُفرغ ما تبقّى من غيومها على الأرصفة المبلّلة.
الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، والمدينة لم تستيقظ بعد تمامًا. سيارات الأجرة تمرّ كأشباحٍ صفراء، والهواء بارد لدرجةٍ تجعلك تشعر أن أنفاسك تتجمّد في الهواء.
ليندا مورغان، فتاة في السابعة عشرة من عمرها، تمسك حقيبتها المدرسية الجديدة بقوة.
انتقلت للتو من الريف إلى لندن بعد عمل والدها في المستشفى المركزي. كانت تلك بداية فصل جديد في حياتها، لكنها لم تتوقع أن يبدأ بهذا القدر من التوتر.
كانت ليندا تملك ملامح هادئة لا تُنسى:
شعرها بني داكن يميل إلى الحمرة، ينسدل بنعومة على كتفيها كستارٍ دافئ في هذا البرد اللندني، وعيناها خضراوان واسعتان بلون أوراق الغابة بعد المطر، فيهما شيء من الحذر وكثير من البراءة.
بشرتها ناعمة شاحبة كأنها لم تعرف الشمس يومًا، وشفاهها وردية باهتة لا تفارقها تلك النظرة المترددة بين الخوف والفضول.
كانت ترتدي معطفًا رماديًا طويلًا، وحذاءً أسود يلمع من أثر المطر، كأنها تحاول الاندماج في لون المدينة لتختفي عن الأنظار.
> "المدرسة الجديدة... طلاب جدد... لا أحد يعرفني... لا بأس، أستطيع فعل هذا."
قالت ذلك لنفسها وهي ترفع ياقة معطفها لتتقي المطر.
دخلت باحة المدرسة التي تحمل اسم "روكفيل الثانوية"، مبنى ضخم من الطوب الأحمر، تشتم منه رائحة التاريخ والعطور الباهظة.
كانت خطواتها مترددة وهي تلمح العيون تلتفت نحوها: الطالبة الجديدة دائمًا تُثير الفضول.
في الممر الطويل، اصطدمت بكتفٍ صلبٍ جعلها تتراجع للخلف.
وقع دفترها على الأرض. رفعت عينيها لتجد شابًا طويل القامة، بملامح باردة كطقس إنجلترا نفسه، شعره البني ينسدل فوق عينيه الرماديتين، ونظرة تحمل شيئًا من الغرور.
هو: “هل هناك سبب يجعلك تقفين في منتصف الطريق؟ أم أنك تستمتعين بإزعاج الناس من أول يوم؟”
هي: (تحاول أن تبدو هادئة) “عذرًا، لم أنتبه... لم أقصد.”
هو: “واضح. يبدو أنك لا تنتبهين كثيرًا.”
أخذ دفترها من الأرض ورماه نحوها دون حتى أن يبتسم.
نظرت إليه بامتعاض، ثم قالت: “شكرًا على أسلوبك... الراقي.”
ابتسم ابتسامة جانبية وقال: “لا شكر على واجب، ليندا من الريف.”
تجمدت في مكانها: “كيف تعرف اسمي؟!”
اقترب منها قليلًا وهمس ببرود: “أنا أعرف كل من يدخل إلى هذه المدرسة... خاصة من يحاول أن يتصرف كأنه لا يخاف.” ثم مضى مبتعدًا بخطوات واثقة.
وقفت ليندا للحظة، تشعر بمزيج من الغضب والدهشة.
تساءلت في نفسها: من هذا المتعجرف؟ ولماذا أشعر أنني سأراه كثيرًا؟
صوت المطر ما زال يضرب النوافذ بإيقاعٍ رتيبٍ، كأنه يهمس للمدينة أن تبقى ساكنة.
دخلت ليندا إلى الصف وهي تتفقد الجدول المعلق على الباب:
“الصف الثالث – اللغة الإنجليزية – الأستاذ رايت.”
تنهدت قليلًا، ثم دفعت الباب بهدوء.
كانت العيون تلتفت نحوها كما لو أنها مخلوق غريب في متحف، همسات خفيفة، نظرات تتفحصها من أعلى رأسها إلى طرف حذائها.
جلست في المقعد الأخير قرب النافذة، محاولةً أن تختفي خلف شعرها البني الداكن الذي انسدل على كتفيها مثل ستارٍ يحميها من فضول الآخرين.
دخل الأستاذ بعد لحظات، رجل في منتصف العمر، نظارته مستطيلة وصوته مملوء بصرامةٍ إنجليزية.
> "صباح الخير جميعًا... لدينا اليوم طالبة جديدة."
التفتت كل الرؤوس إليها، وكاد قلبها يقفز من مكانه.
الأستاذ رايت: “اسمكِ، آنسة؟”
ليندا: “ليندا مورغان، سيدي.”
الأستاذ: “مرحبًا بكِ في روكفيل، آنسة مورغان. آمل أن تجدي هنا ما تبحثين عنه.”
ابتسمت بخجلٍ وأومأت.
ثم تابع الأستاذ بنبرة عملية:
> “بالمناسبة، يبدو أن أحد المقاعد ما زال فارغًا في الصف الأول... السيد كولن، ستجلس الآنسة مورغان بجانبك.”
تجمدت للحظة.
كولن؟! لا يمكن...
رفع الشاب رأسه ببطء من فوق كتابه، والتقت عيناها بعينيه الرماديتين الباردتين — نفس النظرة المتعجرفة التي قابلتها في الممر صباحًا.
ارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، لا سخرية فيها هذه المرة... بل شيء أخطر: فضول.
كولن: “يا للصدفة… من الريف إلى المقعد المجاور لي مباشرة.”
ليندا (بهمس): “لو كانت هذه صدفة، فهي أسوأ واحدة في حياتي.”
كولن (بابتسامة ساخرة): “لا تقلقي، لست متحمسًا أكثر منك.”
ضحكات خافتة خرجت من الخلف، فشعرت ليندا بحرارةٍ في وجهها. حاولت التركيز في الدرس، لكنه لم يتوقف عن التعليق كلما أجابت أو تحركت.
> "يبدو أن الريف لم يُعلّمك كيف تنطقين الجمل بشكلٍ صحيح."
قالها بابتسامة باردة، وكأن كل كلمة تخرج منه مغلفة بالاحتقار.
لكن ليندا لم تبتلع الإهانة هذه المرة، رفعت حاجبها ونظرت إليه بازدراء:
> “ومن الواضح أن المدينة لم تُعلّمك كيف تُغلق فمك عندما لا يطلب أحد رأيك.”
ساد الصمت للحظة… حتى أن الأستاذ نفسه رفع عينيه عن الدفتر،
بينما كولن اكتفى بابتسامة جانبية، نصفها سخرية ونصفها إعجابٌ لم يرغب في الاعتراف به.
بعد انتهاء الحصة، خرجت بسرعة إلى الممر، تحاول استنشاق بعض الهواء بعيدًا عن تلك النظرات الرمادية.
وقفت تحت الممر الحجري، تتأمل المطر وهو ينحدر من السقف، حتى سمعت وقع خطواتٍ متكاسلة تقترب منها.
لم يكن كولن هذه المرة... بل فتاة شقراء بشعرٍ لامعٍ كخيوط الذهب، تمشي بثقةٍ مفرطة، تحيط بها رائحة عطرٍ فاخرة.
توقفت أمام ليندا، نظرت إليها من أعلى إلى أسفل بابتسامةٍ باردة.
الفتاة الشقراء: “أنتِ الطالبة الجديدة، أليس كذلك؟”
ليندا: “نعم، لماذا؟”
الفتاة (تقترب بخفة): “مجرد نصيحة... لا تقتربي من كولن.”
رفعت ليندا حاجبيها بدهشة: “وهل يبدو لي أنني أحاول؟”
ضحكت الشقراء ضحكة قصيرة وقالت: “كولن لا يحب الغرباء... خصوصًا القادمات من الريف.”
ثم همست قرب أذنها قبل أن تدير ظهرها:
> “وأنا لا أحب أن يقترب أحد منه. مفهوم؟”
تركتها ومشت بخطواتٍ متمايلةٍ على البلاط المبلل، تاركة خلفها أثرًا من العطر والغرور.
أما ليندا، فبقيت واقفة، يداها ترتجفان غضبًا وذهولًا.
وفي تلك اللحظة، خرج كولن من الصف، عيناه تلتقيان بها للحظة.
ترددت في أن تبتعد أو تتحدث، لكنه قال ببرود:
> “هل بدأتِ تكوين أعداءكِ من أول يوم؟ مبهر حقًا.”
نظرت إليه بغضبٍ وقالت: “وهل هذا يُسعدك؟”
رد بابتسامة جانبية: “أكثر مما تتخيلين.”
ثم مرّ بجانبها دون أن يلتفت، تاركًا خلفه كلماتها العالقة في الهواء،
ورائحة المطر التي بدأت تختلط بشيءٍ جديد...
شيء اسمه الاهتمام المرفوض.
هل اكمل ام لا 😀🥰
كانت السماء تمطر بخفةٍ حين عادت ليندا إلى المنزل.
منزلهم الجديد يقع في ضاحيةٍ هادئةٍ على أطراف لندن، تحيط به أشجار البلوط التي بدت كأشباحٍ تلوّح في الضباب.
فتحت الباب ودخلت، استقبلتها والدتها بابتسامةٍ متعبةٍ وصوتٍ دافئٍ كفنجان شايٍ في يومٍ بارد:
> “كيف كان أول يومٍ لكِ في المدرسة، حبيبتي؟”
خلعت حذاءها المبتل وقالت باقتضاب:
> “طويل... جدًا.”
رفعت والدتها حاجبها بابتسامةٍ خفيفة:
> “وهل هذا يعني أنه كان سيئًا؟”
أجابت وهي تمرر أصابعها بين خصلات شعرها البني الطويل:
> “لنقل إنه... غير قابلٍ للتكرار.”
ضحكت والدتها وقالت:
> “كل بدايةٍ صعبة يا ليندا. غدًا سيكون أفضل.”
لكنها لم ترد، صعدت إلى غرفتها مباشرة، أغلقت الباب خلفها وألقت الحقيبة على الكرسي.
ألقت نظرة سريعة حولها — غرفة صغيرة، جدران فاتحة وستارة رمادية، كل شيء يبدو جديدًا، بلا ملامح ولا دفء.
جلست إلى مكتبها، فتحت دفتر الواجبات وبدأت تكتب، لكن الكلمات كانت تتعثر بين يديها.
كل مرة تكتب فيها جملة، تشطبها بقوة، وكأنها تمزق شيئًا من ضيقها.
> “الريف... لم يُعلّمك كيف تنطقين.”
ترددت الجملة في رأسها بصوت كولن.
رفعت رأسها فجأة وقالت لنفسها بنبرةٍ غاضبة:
> “تبا له؟!”
وقفت، مشت نحو النافذة، وضعت كفها على الزجاج البارد.
انعكاس وجهها على الزجاج أظهر فتاةً بعينين خضراوين واسعتين،
تلمعان بين الغضب والدهشة، كأنهما بحرٌ صغيرٌ تحت عاصفة.
همست لنفسها بابتسامةٍ ساخرة:
> “من يظن نفسه؟ لا أحد يتحدث معي هكذا.”
ثم عادت إلى المكتب وكتبت في الصفحة الأولى من دفترها بخطٍ واضحٍ حادّ:
> “لن أسمح لأحدٍ بأن يجعلني أشعر أنني أقل.
حتى لو كان كولن بنفسه.”
أغلقت الدفتر، التقطت كتابًا من الحقيبة، وبدأت تقرأ بعنادٍ أكثر من الاهتمام،
كأنها تقاوم صوتًا داخليًا يهمس باسمٍ لم ترغب أن تسمعه بعد الآن.
وفي مكانٍ آخر من لندن،
في غرفةٍ أنيقةٍ فسيحةٍ يغلب عليها لون الرماد والفضة،
جلس كولن على أريكةٍ جلديةٍ قرب نافذةٍ عاليةٍ تطل على المدينة.
رفوف الكتب مصطفة بعناية، ولوحات فنية تتناثر على الجدران — كل شيء يدل على الثراء والنظام،
لكنه بدا كغريبٍ وسط كل ذلك.
كان يقلب قلماً بين أصابعه بعصبيةٍ هادئة،
وعيناه الرماديتان تتبعان المطر وهو ينحدر ببطء على الزجاج.
لم يفهم لماذا لا يستطيع إخراج وجه تلك الفتاة من رأسه.
> “الريفية الصغيرة...” تمتم بابتسامةٍ خفيفةٍ، “عنيدة أكثر مما توقعت.”
ألقى القلم على المكتب الزجاجي،
ثم نهض متجهًا نحو البيانو في الزاوية —
ضغط نغمةً واحدة فقط،
وراح يستمع إلى صداها يتلاشى في الغرفة الفارغة،
كما لو كان يحاول إغراق صوتٍ آخر…غير صوتها.
توقف المطر أخيرًا.
غسلت السماء المدينة وكأنها اعتذرت عن كل ما فعله البارحة.
الهواء باردٌ، لكنه صافٍ، والضباب الخفيف يتمايل فوق الأرصفة مثل أنفاس نائمة.
خرجت ليندا من البيت وهي تسحب حقيبتها على كتفها، شعرها البني ما زال رطبًا قليلًا من وراء الاستحمام
والشمس الرمادية انعكست في عينيها الخضراوين فتوهجتا بلون الزمرد تحت ضوءٍ باهت.
رفعت ياقة معطفها الصوفي وقالت لنفسها:
> “يوم جديد… لا كولن، لا مشاكل.”
لكن القدر كان يبتسم بسخريةٍ من بعيد.
وصلت إلى المدرسة قبل الجرس بدقائق.
كانت الساحة لا تزال شبه فارغة، بضع طلاب يتبادلون الحديث، وضحكات الفتيات تملأ الممر الحجري.
وقفت قرب الشجرة القديمة في الساحة، تراقب الطيور التي تنقر بقايا المطر من الأغصان.
وفجأة سمعت صوتًا رجوليًا مرحًا خلفها:
> “الطالبة الجديدة، صحيح؟”
التفتت بسرعة، لتجد شابًا طويل القامة، شعره الأشقر الفاتح يتطاير بخفة،
عيناه زرقاوان فيهما بريق دعابةٍ مألوف، وابتسامة واسعة تحمل مزيجًا من اللطف والتهور.
ليندا بتردد: “نعم، هل تعرفني؟”
أجاب بضحكة خفيفة: “من لا يعرف الطالبة التي جعلت كولن يتحدث أكثر من كلمتين في حصة واحدة؟ هذا حدث نادر.”
رفعت حاجبها بدهشة: “أنت… تعرف كولن؟”
مد يده قائلًا:
> “إيثان غراي، صديقه المزعج – على حد قوله.”
صافحته بخفة، وبدت الدهشة في عينيها أكثر من الراحة.
إيثان كان مختلفًا تمامًا عن كولن: دافئٌ، سهل الكلام، بعكس ذلك الجليد المتجسد في عيني صديقه.
إيثان وهو يضع يديه في جيبه:
> “أوه، لا تقلقي. لن أعضك. فقط كنت أود التعرف على الفتاة التي جعلت كولن يتوقف عن السخرية لثلاث ثوانٍ. إنه رقم قياسي.”
ليندا بابتسامة صغيرة: “ربما لأنني لم أسمح له بالاستمرار.”
إيثان: “هذا واضح. لم أر أحدًا يرد عليه بتلك الطريقة منذ فترة طويلة. كان مذهولًا.”
ضحكت بخفة، ولأول مرة منذ قدومها شعرت أن هناك من لا يحكم عليها.
لكن ذلك الشعور لم يدم طويلًا، لأن خطواتٍ مألوفةٍ اقتربت منهما.
> “إيثان، لا أذكر أني سمحت لك بتكوين صداقات بالنيابة عني.”
صوت كولن كان هادئًا، لكنه يحمل تلك النغمة المألوفة من الاستهزاء المتغطرس.
وقف بجانبهما، يديه في جيب معطفه الأسود، شعره الداكن ما زال يلمع ببقايا الرطوبة،
وعيناه الرماديتان تتفحصان الموقف كما لو أنه مشهد لا يسره كثيرًا.
ليندا رفعت رأسها وقالت ببرود:
> “لستُ بحاجة لإذنك، ايها السيد المتعالي.”
ابتسم كولن نصف ابتسامة، وقال:
> “أجل، لكنك بحاجة لحذر. فبعض الناس لا يجيدون البقاء بعيدًا عن المشاكل.”
إيثان تدخّل سريعًا وهو يضحك:
> “اهدأا أنتما الاثنان، إنها السابعة صباحًا فقط! على الأقل انتظروا حتى تبدأ الحصة لتتشاجروا كعادتكما.”
نظرت ليندا إلى كولن نظرةً مقتضبة ثم التفتت إلى إيثان:
> “تشرفت بلقائك يا إيثان، يبدو أنك أذكى من صديقك.”
ضحك إيثان بصوتٍ مرتفعٍ وقال:
> “لا شك في ذلك.”
أما كولن فبقي صامتًا، عينيه الرماديتين تلاحقانها وهي تمشي مبتعدة نحو الصف.
في تلك اللحظة شعر بشيءٍ غير مألوف في صدره... خليط من الغضب والاهتمام،
كأنها تتسلل إلى عالمه دون إذنه، فقط بابتسامةٍ صغيرةٍ وجرأةٍ لا تشبه أحدًا.
إيثان التفت إليه مازحًا:
> “تعجبني. ليست مثل الأخريات.”
قال كولن ببرودٍ متعمدٍ وهو يزيح شعره عن عينيه:
> “تعجب الكثيرين… ليس أنا.”
لكن نظراته التي تبعته بعد مغادرتها،
قالت شيئًا مختلفًا تمامًا.
كانت الحصة تمرّ ببطءٍ شديد، والساعة المعلقة على الجدار كأنها تتعمّد السخرية من أعصابها.
جلست ليندا في مقعدها، تحاول التركيز على الكلمات التي تكتبها المعلمة على اللوح،
لكن عقلها كان مشغولًا بشيءٍ آخر… أو بشخصٍ آخر.
كولن ذلك المتغطرس اللعين، الذي يظن أن العالم يدور حوله فقط لأن والده يملك نصف المدينة.
منذ لقائهما الأول، لم يفوّت فرصةً إلا وأطلق تعليقًا يجرح كبرياءها.
ومع ذلك، هناك شيءٌ فيه... يثير ارتباكها.
تلك الطريقة التي ينظر بها إليها، وكأنه يرى ما لا تريد أن تراه هي في نفسها.
رفعت الاستاذة نظرها فجأة نحو ليندا وقالت:
> “آنسة مورغان، هلّا قرأتِ الفقرة التالية بصوتٍ عالٍ؟”
تجمدت للحظة. الجميع ينظر إليها.
ابتلعت ريقها وبدأت تقرأ، بصوتٍ ثابتٍ رغم الارتباك الذي حاولت إخفاءه.
لكن عند نطقها لإحدى الكلمات الطويلة ذات اللكنة البريطانية الثقيلة،
اخترق صوتٌ كولن الساخرٌ الجو الصامت:
> “حتى لغتكِ تعثرت من الصدمة، ألهذه الدرجة صعبٌ على من في الريف أن يتكلموا مثل البشر؟”
ضحك بعض الطلاب، وانحنى أحدهم هامسًا لصديقه:
> “إنها تلك الفقيرة التي دخلت بمنحة، أليس كذلك؟”
انكمش صدرها، لكن وجهها بقي جامدًا.
رفعت رأسها نحوه وقالت ببرودٍ قاتل:
> “غريب، ظننت أن المدرسة تُعلّم الأدب قبل النطق. يبدو أنك تغيّبت عن تلك الحصة.”
عمّ الصمت.
بعض الفتيات كتمْن ضحكهن، وإيثان اتسعت عيناه بدهشةٍ واضحة.
أما كولن، فقد مال إلى الخلف في مقعده، ابتسامة صغيرة ترتسم على فمه — ابتسامة إعجابٍ متخفٍ.
> “حسناً…” همس وهو يشيح بنظره، “ليست فتاة ضعيفة كما تبدو.”
في نهاية الحصة، وقف كولن عند الباب يتحدث مع فتاة شقراء طويلة،
تضع نظارات شمسية
ثيابها باهظة، وعطرها يسبقها بخطوات.
انها كلوي بلاك.
اقتربت منه بخفةٍ واستندت إلى الحائط بجانبه،
> “هل ستكون في حفل والدي مساء الغد؟ أبي يقول إن والدك يصر على حضورك.”
رد كولن بفتورٍ وهو ينظر إلى ساعته:
> “نعم، والدي يصر على كل شيء هذه الأيام.”
ضحكت بخفّة وأمسكت بذراعه كما لو أنه ملكها:
> “يبدو أن والدك وأبي قد اتفقا على كل شيء منذ زمن... حتى زواجنا.”
نظره رمادية باردة تحركت ببطء نحوها، ثم قال بلهجةٍ لا تحتمل المجاملة:
> “ربما اتفقا على ذلك، لكنّي لم أوافق.”
ضحكت بوقاحة وهي تقترب أكثر، غير آبهة بنفوره:
> “كولن، لا تكن دراميًا. نحن نليق ببعضنا، والعالم كله يعرف ذلك.”
في تلك اللحظة خرجت ليندا من الصف، تحمل كتبها،
توقفت للحظة عند رؤية المشهد أمامها —
كولن واقف، وكلوي تتدلّى على ذراعه كأنها جزء من ملابسه،
والطلاب يمرّون ويلقون عليهم نظرات إعجابٍ أو حسد.
خفضت ليندا بصرها بسرعة ومشت نحو الممر الآخر،
لكن لم تفُت على كولن تلك اللمحة العابرة في عينيها.
شيء فيها جعله يتنفس بعمقٍ غريب، كأنه شعر فجأة بالضيق من الموقف نفسه.
كلوي لاحظت شروده، فمالت نحوه قائلة:
> “لا تقل لي إن تلك الطالبة الريفية الصغيرة أثّرت فيك.”
ردّ وهو يبتسم ببرودٍ متعمّد:
> “إن كانت تحاول، فهي تفشل بامتياز.”
لكن داخله لم يكن يصدّق كلماته.
في الكافيتيريا، جلست ليندا قرب النافذة، تضع كتابها أمامها وتحاول أن تتجاهل همسات الفتيات على الطاولة المجاورة.
كانت تشرب عصيرها ببطءٍ حين اقتربت منها نفس الفتاة الشقراء، بابتسامةٍ مصطنعةٍ كحافة نصل.
> “أيتها الريفية.”
رفعت ليندا رأسها ببطء، نظرتها حادة وهادئة في آنٍ واحد.
> “هل تنادينني أم تحاولين سماع صدى صوتكِ؟”
كلوي ابتسمت بخبث واقتربت أكثر:
> “سمعت أنك دخلت المدرسة بمنحة؟ كم هو لطيف أن يمنحوا الفقراء فرصة للجلوس معنا.”
وأكملت ببرودٍ متعجرف:
“فقط نصيحة… ابقي في مكانك ولا تحاولي الاقتراب من كولن، لن يعجبك ما سيحدث إن تجاوزتِ حدودك فهمتي؟!”
ليندا نظرت إليها بثباتٍ، وقالت:
> “فهمت أنكِ تخافين من فتاة لا تملك سوى عقلها.”
ارتجفت ابتسامة كلوي، ثم غادرت بعد أن تركت ضحكةً متوترة خلفها.
أما ليندا، فبقيت في مكانها، لا تدري إن كانت قد انتصرت أم بدأت حربًا لا تعرف مداها.
وفي زاوية الكافيتيريا،
كان كولن يقف بصمتٍ إلى جانب إيثان، عينيه الرماديتين تتابعان المشهد دون تعبير.
قال إيثان مبتسمًا:
> “تبدو كلوي في مزاجٍ سيء.”
رد كولن ببرودٍ مائلٍ إلى الغضب:
“بل في مزاجها المعتاد.”
ثم ألقى نظرةً أخيرة نحو ليندا — تلك الفتاة الخضراء العينين التي لم تعرف بعد أنها دخلت عالماً
لا يرحم المختلفين،
ولا يسامح من يجرؤ على التحدي.
يتبع.....
لمزيد من التشغيل واللعب ، يرجى تنزيل تطبيق MangaToon